إنّ فصل الصيف في الإسلام تذكرة وموعظة. نعم! إنه يذكر المؤمن من جهة بحرارة جهنم وسعيرها، تلك النار التي جاء في كثير من الأحاديث وصفها، ومنها حديث السنن وهو قوله: "إن الله أوقد على جهنم ألف عام حتى احمرّتْ، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم" رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي.
أما بعد: معشر المسلمين والمسلمات: أوصيكم ونفسي بتقوى الله - عز وجل - والحذر كل الحذر من معصيته، فإنه -سبحانه وتعالى- قضى رضاه في طاعته، كما قضى غضبه في معاصيه، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5].
عباد الله: نلتقي في هذا اليوم الأغر الكريم على مائدة الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، حيث إننا نعيش في أجواء فصل الصيف، وهذا الفصل له معانٍ متعددة عند الناس، فهو أحد الفصول الأربعة كما يعرف ذلك طلاب وتلاميذ المدارس والثانويات، ويمتاز عن بقية الفصول الأخرى بارتفاع درجة حرارة الجو، مما يؤدي إلى نضج الثمار والزروع والفواكه، فينهض الفلاحون لجني الثمار وجمع المحاصيل الزراعية فيدخر الفلاح منها ما شاء ويبيع منها ما يشاء، كل على قدر طاقته وإنتاجه.
والقاسم المشترك عند الناس جميعاً أن موسم الصيف هو موسم الخير والبركة، والفرح بما قدمه الفلاح من تضحية وصبر وتفان في سبيل حرث الأرض وزرعها وتسميدها.
ومن جهة أخرى -أيها المسلمون- فإن فصل الصيف هو وقت العطل والراحة والاستجمام والاصطياف، حيث يفكر كثير من الناس في الهروب من الحرارة إلى أماكن باردة تناسب جسم الإنسان وفكره.
هذا هو فصل الصيف في مفهوم كثير من الناس، فما هو منظور الإسلام إلى فصل الصيف؟.
هذا السؤال يحتاج إلى جواب عام وتام. فأقول -وبالله التوفيق-: إن فصل الصيف في الإسلام تذكرة وموعظة. نعم! إنه يذكر المؤمن من جهة بحرارة جهنم وسعيرها، تلك النار التي جاء في كثير من الأحاديث وصفها، ومنها حديث السنن وهو قوله: "إن الله أوقد على جهنم ألف عام حتى احمرّتْ، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء كالليل المظلم" رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي.
وجاء في القرآن الكريم في سورة التوبة قوله -تعالى-: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة:81-82].
والمؤمن يتذكر أن رسول الله أخبره أن النار تتنفس مرتين في السنة: مرة في الشتاء حيث يكون الزمهرير والبرد القارس، ومرة في الصيف حيث تكون الحرارة مرتفعة، ومن ثم فقد روى الشيخان وغيرهما أنه قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن الحر من فيح جهنم". أعاذنا الله منها.
ومن جهة أخرى، فإن فصل الصيف يذكّر المؤمن بنعم الله عليه، فهو إذا حصد الزرع والثمار أعطى منه حق الفقراء المساكين امتثالاً لأمر الله -تعالى-: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا ? إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام:141].
ولقد امتن الله -تعالى- على قريش قبلنا برحلتيهم إلى اليمن صيفاً وإلى الشام شتاءً، فقال -عز من قائل-: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [سورة قريش].
وإن كانت السورة خاصة بقريش فهي عامة لجميع الناس أن يشكروا النعمة في الصيف والشتاء.
وبلدنا هذا، المغرب، من بلدان الله التي حباها الله الجو المناسب، والماء الكثير، والخصوبة في الأرض، والإنتاج المهم في جميع المحاصيل الزراعية والنباتية؛ أفلا يدعونا هذا إلى الشكر والاعتراف بالجميل حتى يزيدنا الله من فضله؟ وقد وعد الله الشاكرين بالزيادة وتوعد الجاحدين بالنعم والذين يسخرونها في المعاصي بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، قال - تعالى -: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
أيها المسلمون: لقد أعطانا الله المثل من أمة كانت قبلنا سكنت اليمن وأغدق الله عليها من الخيرات والنعم الشيء الكثير بسبب المياه العذبة التي كانوا يحصلون عليها من سد مأرب، لكنهم بدل أن يشكروا ويسخِّروا النعم في طاعة الله وعبادته حرفوها في المعاصي والخمور والفجور، فأبدل الله حالهم من اليسر إلى العسر، ومن النعيم إلى الشقاء، ومن الرخاء إلى الغلاء، فكانوا عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين.
قال الله -تعالى- في سورة سبأ، بعد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ:15-17].
روى البخاري ومسلم ومالك والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ناركم هذه مما يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم"، قالوا: والله إن كانت لكافية! قال: "إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها".
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وأجارني وإياكم من العذاب المهين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين، وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين.
أما بعد: بعد أن عرفنا معاني فصل الصيف عند الناس ومفهوم الشرع الإسلامي نجد أمامنا الآن سؤالاً يطرح نفسه وهو كالتالي: كيف يستقبل الناس فصل الصيف في مجتمعنا اليوم؟.
والجواب نأخذه من واقعنا الذي نعيشه اليوم، حيث إن فصل الصيف تظهر فيه ثلاثة أمور في مجتمعنا، وهي أمور يراها ويشاهدها كل واحد منا، ولا يكاد أحد من الناس يكذب بها أو يعاند في تكذيبها، وهي: إقامة المواسم حول الأضرحة والقبور، إقامة الحفلات والأعراس للزواج أو الختان أو غيره، الاصطياف في الشواطئ والجبال.
فلنستعرض ما يفعله الناس في هذه الأشياء الثلاثة مع شيء من الاختصار والإيجاز ثم نحكم عليها انطلاقاً من كتاب الله وسنة رسوله.
فالأمر الأول: هو إقامة المواسم حول الأضرحة والقبور، فترى الناس يشدون الرحال إلى كل مكان فيه قبر أو ضريح أو مشهد، بدعوى المحبة والتوسل والتبرك، فيحملون الزروع والأبقار والأغنام التي هي من نعم الله، لا من أحد غيره، (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل:53]، فيبذّرون في الأموال، ويصرفون النعم في ما يغضب الله -تعالى- ويتنافى مع الشكر المأمور به شرعاً، إضافة إلى شرب الخمور وسماع الغناء الفاحش وتعاطي الفجور والفساد، واختلاط الرجال بالنساء، والإساءة إلى القبور والموتى وإهانتهم، بالذبائح عليها، وتلويثها بالدماء، واتخاذها شريكاً مع الله -تعالى- بالدعاء والاستغاثة والنداء والطواف، حتى أصبح بعضهم يسمي بعض القبور بحج المسكين.
فخبروني بربكم يا مسلمون: ماذا تقولون في هذا وأنتم عقلاء؟ فكل هذه الأشياء تتنافى مع العقل السليم، فكيف لا تتنافى مع الشرع الحكيم؟ كل هذه الأشياء والأعمال ضروب من الشرك التي جاء الإسلام للقضاء عليه، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65].
هذا هو حكم الإسلام على هذا الأمر الأول.
أما الأمر الثاني فهو إقامة الحفلات والأعراس، نعم؛ إن الإسلام لا يعارض في إقامة حفلات الزواج أو العقيقة، ولكن ليس كما يفعله كثير من الناس، من إسراف في الطعام والشراب، والاجتماع على المغنين والمغنيات بما يسمى المجموعات (الكروبات) من الشباب الماجن الخليع، وما يصاحب ذلك من إحضار الخمر الملعونة والملعون كل من شربها أو ساعد على وجودها وبيعها وتداولها.
زد على ذلك إحداث الفوضى والضجيج وأذى الجيران وأذى المرضى والنائمين أثناء الليل كله بل حتى الصباح، وذلك بإطلاق العنان لأصوات أبواق السيارات واستعمال مكبرات الصوت التي تنقل الغناء الفاسق والكلام الساقط، وقد يقع ذلك في ليالٍ متوالية ومتعددة، وقد قال -تعالى-: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:19].
وفي تعبير القرآن الكريم بصوت الحمير إشارة إلى التنفير من الأصوات المرتفعة؛ فكيف بالأصوات المزعجة، حتى أصبح كثير من الجيران يتشاءمون من إقامة مثل هذه الحفلات.
إذن؛ فكل هذه الأمور لا علاقة بينها وبين الإسلام البتة، وهي أمور مرفوضة من أساسها لأنها إسراف وتبذير من جهة وإزعاج وفوضى من جهة ثانية، ومعصية وغناء وخمر واختلاط من جهة ثالثة.
وأما الأمر الأخير الثالث فهو ما يقع على الشواطئ البحرية، فالله -تعالى- سخر البحر لعباده للانتفاع به، قال -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الجاثية:12].
فكلنا يا عباد الله نريد التمتع بجمال البحر وبرماله ومياهه، ولكن؛ ما أحسنه لو كانت الشواطئ نظيفة من الاختلاط الخليع، والعري السافر، والتبرج الممقوت! حيث استوى في ذلك الكبير والصغير والرجال والنساء والأطفال والشيوخ، حتى زال الحياء وارتفعت المروءة، بين الأسرة الواحدة من الأسر المسلمة، فترى الرجل يسبح عارياً أمام بناته، وترى الأم تسبح عارية هي الأخرى أمام أبنائها وأمام صهرها، أهكذا تكون الأسرة المسلمة التي يفترض أن تكون محل تقدير واحترام ووقار؟,
فكل هذه الأمور تتنافى مع الرسالة التي نحملها ونحن مجتمع إسلامي يهتدي بكتاب الله وسنة رسوله، والأصالة العربية العريقة التي ورثناها عن أسلافنا الصالحين وأجدادنا المتقين من الصحابة والتابعين.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تبدلوا نعم الله عليكم كفراً وجحوداً، ولا تكونوا سبباً في إحلال البوار والدمار الذي توعد الله به كل من عصاه بنعمه، قال - سبحانه -: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [البقرة:211].
وقال - سبحانه -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ * وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم:28-30].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واجعلنا ممن يشكرون نعمتك ولا يكفرونها. اللهم دعنا نشكر النعم فإنك أنت واهبها يا أرحم الراحمين.
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن رسول الله قال: إنه قال لجبريل: "مالي لا أرى ميكائيل ضاحكاً قط"؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:50].
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي