فقد أصبحت الإجازة عند بعض الناس فرصةً للتمرد على أوامر الله، وموسماً من مواسم تضييع فرائض الله وانتهاك حدود الله، والتخلي عن كثير من المسئوليات، والوقوع في عدد من المحرمات، كالتفريط في الحجاب، وتضييع الصلوات، وحضور أماكن الرقص والفجور، ومواطن الخلاعة والخنا والفواحش والزنا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) [آل عمران:102]
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فموضوع هذه الخطبة: منغصات الإجازة.
الإجازة سلاح ذو حدين، وكما أن لها فوائدَ وثمرات، فإن لها منغصاتٍ ومكدرات؛ ومن أعظم هذه المنغصات:
1) ضياع الصلوات؛ قال تعالى: ( فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إلا من تاب... ) [مريم:59-60].
والإجازة يفترض أن تكون من أعظم أسباب الحرص على الصلوات والمحافظة عليها في بيوت الله كما أمر الله، وذلك لتفرغ العبد عمَّا يشغله عنها، فكيف تصبح الإجازة سبباً من أسباب تضييعها والتفريط فيها؟!
ترى بعض الشباب يضيع صلاته لانشغاله بالتفاهات كمتابعة المباريات أو الأفلام والمسلسلات أو لكثرة النوم والجلسات، وغير ذلك مما يندى له الجبين وينقطع له حبل الوتين.
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في البخاري أنه قال: "مَن تركَ صلاةَ العصرِ فقد حَبِطَ عملُه".. فكيف بمن يضيع الصلاة تلو الصلاة.
كيف يصل إلى السعادة من هجر محراب العبادة؟!.. وكيف يتمتع بالإجازة من قطع صلته بالله سبحانه؟!
2) ومن منغصات الإجازة: السفر المحرم؛ كالسفر إلى بلاد الكفار بلا حاجة؛ فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أنا بريء من كلِّ مسلمٍ يُقيمُ بين أظهُرِ المشركين " رواه الترمذي وصححه الألباني.
وقد أفتى أهل العلم بتحريم السفر إلى بلاد الكفار. واستثنوا من ذلك ما دعت إليه الحاجة كطلب علم دنيوي أو طب أو تجارة أو لدعوتهم إلى الإسلام ونشره بينهم.
ولا شك أن السفر لبلاد الكفر له مفاسد كثيرة.. كم من مآسٍ رجع بها جمع من المسافرين بلغت ببعضهم إلى درجة الردة عن الدين والكفر بربِّ العالمين!
وكم عاد آخرون بالأمراض الفتاكة والأوبئة المهلكة أو بالإدمان على الخمور والمخدرات أو بالهزيمة النفسية والتردي المعنوي والكره للإسلام وأهله ودياره!
ومن السفر المحرم السفر إلى البلاد المسلمة التي يكثر فيها الفساد.
فقد أصبحت الإجازة عند بعض الناس فرصةً للتمرد على أوامر الله، وموسماً من مواسم تضييع فرائض الله وانتهاك حدود الله، والتخلي عن كثير من المسئوليات، والوقوع في عدد من المحرمات، كالتفريط في الحجاب، وتضييع الصلوات، وحضور أماكن الرقص والفجور، ومواطن الخلاعة والخنا والفواحش والزنا.
3) ومن منغصات الإجازة الألعاب المحرمة: فيكثر الناس في الإجازة الصيفية من ألعاب التسلية والترفيه، ولا شك أن الترويح عن النفس وإجمامها ببعض المباحات أمر مطلوب، لكن هذا الأمر قد يتحول إلى منغص وأمر سلبي من وجهين:
الأول: أن هذه الألعاب قد تستغرق الوقت آناء الليل وأطراف النهار، وهذا من العبث الذي يضيع الأوقات ويهدر الطاقات؛ ولهذا لا بد من ضبطِ الوقت وإعطاءِ كل أمر حقه.
الثاني: اشتمال بعض الألعاب على محظورات شرعية، كالشطرنج، أو القمار، أو الموسيقى، والصور المحرمة بل الخليعة كما في بعض ألعاب البلاي ستيشن، وغيرها من المحظورات.
4) ومن منغصات الإجازة متابعة المسلسلات والأفلام والقنوات الفضائية: إنها صورة محزنة لمن مضى عمره هباءً، وهو ينظر إلى المسلسلات والأفلام والبرامج الترفيهية المليئة بالمنكرات من صور بعض الرجال العصاة والنساء الفاسقات في أوضاع مزرية وصورة مخزية ومناظر مشينة، يلين لها الحديد، وتذوب بها الجلاميد، ويتابعها المحروم في كلِّ يوم، متغافلاً عن آثارها السيئة وثمارها المرَّة على الفرد خاصَّة والمجتمع بعامَّة.
عجباً لمن يرى الفتنة أمامه فيلقي فيها أقدامه!.
عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم ـ قال: " في هذهِ الأمَّةِ خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ " فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذلك؟. قال: " إذا ظَهرتِ القيانُ والمعازفُ وشُربتِ الخُمُور ".
لقد قادت الفضائيات الكثير من شبابنا وبناتنا إلى مسالك غير سوية؛ فحدث عن شرخ التوحيد وتضليل الفكر والتلبيس على عقائد المسلمين.. وحدث عن الفجور وتأجيج الشهوات، وتحريك الغرائز وظهور السافرات المتبرجات في التمثيليات والأفلام ونشرات الأخبار، وإفساد الأزواج والزوجات والأبناء والبنات.. وحدث عن العنف وتعليم الجريمة والسرقة والمخدرات.
في تحقيق مع بعض المدمنات في الرياض قالت إحداهن: " رأيت فتيات يشربن كثيرا في الأفلام الأجنبية فحاولت التجربة ".
وتقول أخرى: " أشاهد الأفلام الأجنبية الجديدة وعندما أرى الأمريكيين يشربون ويضحكون أحس بأنهم هم الأشخاص الذين يعيشون حياة حقيقية ".
أيها الأحبة: ماذا نتوقع من أبناء مراهقين وفتيات مراهقات يتسمرون طوال اليوم أمام طبق قيمته 400 ريال في الملاحق والاستراحات يضع بين أيديهم أكثر من 300 قناة، تعرض الخزي والعار في بيوت المسلمين.
5) ومن منغصات الإجازة الذهابُ إلى المقاهي لشرب المحرمات كالشيشة والدخان؛ فبعض الشباب تمضي عليه الساعات الطويلة وهو جالس على أريكته في هذه المقاهي والملاهي مع غيره ممن هم على شاكلته يلعبون البلوت، ويشربون الشيشة أوالمعسل، إن نظروا نظروا إلى المحرمات في القنوات، وإن استمعوا استمعوا بالمعازف المحرمة والكلمات الآثمة، وإن تكلموا تكلموا في الغالب فيما لا ينفع ولا يرفع، ويضر ولا يسر.
6) الذهاب للأماكن المحرمة كالحفلات الغنائية وأماكن الاختلاط؛ فبعض الحفلات الصيفية يكون فيها شيء من المنكرات والمخالفات الشرعية، كسماع المعازف المحرمة، والأغاني الماجنة.
وهذه المجالس المحرمة يحرم على العبد المسلم أن يحضر إليها أو يشارك في إقامتها.
7) ومن منغصات الإجازة التسكع في الأسواق:
لقد أصبحت الأسواق -وهي أبغض البقاع إلى الله- أفضل الميادين عند بعض الغافلين؛ ليقتلوا فيها الوقت الثمين، ويهدروا فيها العمر الغالي، ويعرضوا أنفسهم لما لا قِبل لهم به من البلايا والرزايا؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أحبُّ البلاد إلى الله مساجدها، وأبغضُ البلادِ إلى الله أسواقُها " رواه مسلم.
وفي صحيح مسلم أن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: " لا تكوننَّ إن استطعت أوَّل من يدخل السُّوق، ولا آخر من يخرج منها، فإنَّها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته ".
8) ومن منغصات الإجازة الاستخدامُ السيء لشبكة الإنترنت:
الوقت وعاء العمر وإناء الحياة، وهو أغلى من الدراهم والدنانير.
وقد بُلينا بمن يتفنن في تضييع وقته الثمين، ويبدع في وسائل إهداره، ويبرع في أساليب تضييعه؛ كحال أولئك الذين يمضون الساعات الطوال، وهم عاكفون على الشبكة العنكبوتية -الإنترنت- وهم يتقلَّبون بين الصفحات والمواقع، يدفعهم الفضول لاختراق الممنوع، والبحث عن كلِّ مثير، فيقعون في شراك هذه الشبكة المليئة بالفتن في دينهم، والمضيعة لثمرة أعمارهم دون حدود أو قيود.
تقول إحدى الأمهات: لاحظت تغير سلوك ابنتي اللتين تبلغان من العمر الخامسة عشرة والسابعة عشرة، وبدأتا تتساهلان في الحجاب، وعندما راقبتهما اكتشفت أنهما يتحدثان مع بعض الشباب في الشات على الانترنت، فلما أنكرت عليهما ثارا وغضبا وقاطعاني لمدة أسبوعين.
وشاب متزوج يقول: أنا شاب في بداية الثلاثينات من عمري، متزوج منذ 8 سنوات، في بداية حياتي الزوجية كنت مضرب المثل في العفة وغض البصر، لكن مع الأسف الشديد في السنوات الثلاث الأخيرة اتخذت اتجاها آخر؛ حيث بدأت أنظر إلى الفواحش في التلفاز وعبر الإنترنت وأصبحت الآن مدمنا، وحاولت جاهدا أن أتخلى لكن هيهات.. لم أرتكب فاحشة الزنى، لكني أشاهد بالعين وأتصل عبر الشات، وكم من مرة أخرج من بيتي للقاء إحداهن وأتراجع في آخر لحظة وأندم عن اللقاء، ثم أعود.
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى أصحابه وإخوانه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أمام هذا السيل الجارف من الشهوات والشبهات على شبكة الانترنت يجدر بكل من يريد الدخول إلى الشبكة أن يراعي الآداب التالية:
1. اختيار المواقع السليمة والمفيدة، وعدم تجاوز الساحات المفيدة المعينة على الخير إلى غيرها.
2. الحذر من إضاعة الأوقات؛ فإن عدداً من الناس يستنزف معظم وقته في التصفح أو ساحات الحوار.
3. أن يتحلى المشارك في المواقع والمنتديات الإخلاص لله، والبعد عن حب الثناء أو الإعجاب بالنفس، أو الانتصار الشخصي.
4. لا بد أن يدرك الداخل إلى ساحات الحوار أنه يتعامل مع شخصيات كثيرة مجهولة، ومن المعلوم عند أهل العلم أن المجهول لا يمكن أن يوثّق حديثه؛ فكن على حذر من أخبار المجاهيل.
5. الحذر من الفتوى بغير علم، وخوض الشاب فيما لا يحسنه، فقد قال الله تعالى: ( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) [الإسراء:36]، وقال سبحانه: ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ )[الزمر:60].
6. التزام الأدب الشَّرعي في المحادثة أو الرد أو النقد، وعفّة اللسان حتى مع المخالف، وصدق الله تعالى حيث يقول: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159].
7. تجنب المحادثة بين الجنسين من الذكور والإناث؛ لأن الغالب أن يكون ذلك مثيراً لكوامن النفس وإثارة الغرائز والشهوة، وربما أدى ذلك إلى الفتنة والمفسدة.
8. عدم الدخول في الغرف المريضة البعيدة عن الأخلاق والقيم الإسلامية؛ مثل الغرف الإباحية التي تثير الفاحشة والرذيلة، وتفسد الشباب عن طريق الشذوذ والانحراف الجنسي.
9. الابتعاد عن المواقع التي تبث السموم في أفكار الشباب وتزعزع عقيدتهم؛ مثل مواقع أهل البدع والفرق المنحرفة، أو مواقع التنصير، ولا يجوز الدخول على هذه المواقع بدافع حب الاستطلاع، أو الدخول معهم في المناقشة بلا علم.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية وأزكى البشرية فقد أمركم الله بذلك فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا في هذه الساعة المباركة أجمعين، اللهم واغفر لآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا يا أرحم الراحمين. اللهم واغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والكافرين، وعليك بأعدائك أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، يا قوي يا عزيز، انصرهم نصرًا مؤزرًا، وكن لهم يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين عامة وولاتنا خاصة، واجعلهم حصنًا حصينا للدفاع عن دينك ومقدساتك، اللهم وفقهم لتحكيم كتابك واتباع سنة نبيك.
اللهم رد المسلمين إليك ردا جميلاً، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي