أكثر من مشهد عرضه له القرآن من هاذين النبيين الكريمين؛ كأنما نراهما رأي العين، وارتسمت في أذهاننا منذ الصغر، ونحن نقرأ القرآن مشاهد خالدة، فيها من العبر والمواعظ ما يثبت الإيمان في الصدور. مشهدهما: وهما يبنيان الكعبة، وما يحمله مشهد البناء من الجهد والمشقة المصحوبة بلذة الـ...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن البلاء إذا نزل بالعبد فإنه لا يعرف موقعه: أين؟ ولا كنهه: كيف؟ ولا توقيته: متى؟ إذا وقع: أيكون في النفس أم في المال أم في العيال؟
لا يعرف الإنسان قدره، هو كله من عند الله، وبحكمة منه وعدل، وما للعبد إلا أن يسأل الله السلامة والعافية، ما دام سليما معافى، فإذا وقع البلاء وجب عليه الثبات والصبر، وهو مدخلنا إلى إمام من أئمة الصابرين، وهو نبي الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فأيام العشر والأضحى أيام معلومات تعيد ذكرى ثبات وصبر إبراهيم الخليل، وابنه العزيز إسماعيل -عليهما السلام-.
أكثر من مشهد عرضه له القرآن من هاذين النبيين الكريمين؛ كأنما نراهما رأي العين، وارتسمت في أذهاننا منذ الصغر، ونحن نقرأ القرآن مشاهد خالدة، فيها من العبر والمواعظ ما يثبت الإيمان في الصدور.
مشهدهما: وهما يبنيان الكعبة، وما يحمله مشهد البناء من الجهد والمشقة المصحوبة بلذة العبادة، لذة الطاعة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة:127].
مشهدهما: وهم يدعوان الله أن يتقبل منهما ذلك العمل: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة:127].
ويدعوانه أن يثبتهما على الإسلام: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً)[البقرة:128].
ثابتة على الدين، وأن يتوب عليهما، وأن يريهما مناسك الحج والعمرة، وشرائع العبادة: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة:128].
مشهد رائع من مشاهد الإيمان، جمع أصدق المشاعر والأقوال والأمنيات، لا يغيب عنا حتى آخر الزمان.
مشهد جسد عدة مشاهد في آيتين فقط: مشهد التوحيد، مشهد الاستسلام، مشهد الجهد، مشهد التوكل، مشهد طلب العلم، ومشهد الدعاء الحميم، ومشهد التوبة الصادقة، ومشهد الإشفاق على الذرية: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة: 127 - 128].
إن كلام الله –تعالى- كلام رباني، كامل معجز، فوق الوصف: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الإسراء: 88].
كلام الله...
معاشر الإخوة: المشهد الآخر لهذين النبيين الكريمين هو شاهدنا اليوم، هو: مشهد الابتلاء المبين، وما نتج عن هذا المشهد من آثار إيمانية عظيمة، توارثتها الأجيال جيلا تلو جيل، الأجيال الموحدة، قال سبحانه وتعالى في رزقه نبيه الخليل ابنه إسماعيل: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 8 إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)[الصافات: 101 - 111].
(فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) الأبناء في العموم نعمة، الأبناء في العموم فرحة، فكيف إذا زينوا بصفات جميلة، وأي صفات تلك التي جملت الابن إسماعيل: حب الخير، وصدق الوعد، والصبر والحلم؟!.
الغلام -أيها الإخوة- هو من قارب البلوغ، والأبناء في سن البلوغ في غالب أمرهم ذوي حماسة غير مستديمة، في غالب أمرهم.
فالحليم منهم نادر؛ لأن الحلم هو الأناة، والعقل وضبط النفس.
وإذا وجد في صفات غلام: حلم، وصبر، وصدق، وحب للخير، فاعلم أنه نعمة من الله على أبيه وأمه، بل وعلى المجتمع بأسره.
وهكذا كان إسماعيل -عليه السلام- كان فرحة وبشرى، وقرة عين لأبيه: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) [الصافات: 102].
قيل: لما بلغ عمر إسماعيل ثلاث عشر سنة، وأصبح عونا لأبيه في شؤونه كلها، وأصبح ما بين خدمة وبر وخلق؛ قدر الله –تعالى- أن يبتلي خليله أن يمحص إيمانه.
وكان من قدره سبحانه أن يكون تمحيص إيمان إبراهيم في ابنه، وليس ذلك فحسب، بل في قمة محبته لابنه البار العزيز، وحاجته إليه.
جاءته الرؤيا ليلة من الليالي: "ورؤيا الأنبياء وحي".
لقد رأى أنه يذبح ابنه ذبحا بيده، فما كان منه إلا أن استسلم للوحي، وخضع لحكم الله، ولو كان في أعز من يملك، ولكن إبراهيم أواه رحيم، رقيق القلب: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)[هود: 75].
كما نعرف عنه، رحمته لم تقف عند القريبين من أحبابه، بل وصلت حتى للبعيدين، لا بل حتى أبعد من ذلك، فبالرغم من كونه إمام الموحدين كان يشفق حتى على الكفار إشفاقا عجيبا كما في قوله تعالى في دعائه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[إبراهيم: 35- 36].
(وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) لم يدعو عليهم، أي رقة هي رقته؟ وأي رحمة جمعها قلبه عليه السلام؟ فكيف إذا اجتمع إلى ذلك كله حنان الأبوة؟! حتى نعرف مقدار الابتلاء!.
لكن قول الله عند إبراهيم فوق كل قول، وأمره قبل كل أمر فبادر إلى ابنه، قال: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ).
(يَا بُنَيَّ) هكذا يناديه بكل رحمة ورأفة، هذا ما رأيته في المنام أمر شاق لكنه أمر الله: (فَانظُرْ مَاذَا تَرَى)؟ أي تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر؟
وهنا يطرح سؤال: هل كان عرض إبراهيم هذا على التخيير كما في ظاهره؟ يعني هل ستستجيب يا إسماعيل أم لا؟ (فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) أم كان إبراهيم حريصا على أن يرتقي ابنه مرتبة عالية بالرضا ببذل نفسه طواعية بلا إجبار من أحد؟ فهو يعلم من ابنه الامتثال التام لأمر الله -تعالى-، فهل كان يرجو لابنه الخير ويريد أن يأتي الرضا من عند نفسه، حتى ينال تلك المرتبة، مرتبة الرضا، مرتبة الصبر ينالها إسماعيل لنفسه، فيرجو له الخير بذلك؟
(فَانظُرْ مَاذَا تَرَى).
وكما هو دأب إسماعيل في الاستجابة والتسليم، وعلى قدر ظن أبيه فيه كان الجواب: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)[الصافات:102].
يا سبحان الله! إسماعيل -عليه السلام- على صغر سنه في هذا الموقف العصيب يجسد روعة الخضوع والتسليم، بل إنك لتجد روح النصيحة في رده: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ولم يقل: اذبحني، وإنما ذكر الأمر من الله -عز وجل-: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) كأنما إسماعيل ينصح أباه بعدم التردد في تنفيذ أمر الله –تعالى- بذبحه.
لا، بل ويحفزه ويشجعه بطمأنته إياه: "لا تخف علي": (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) حتى الاستثناء لم ينس أن يذكره: (إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
فعزا صبره إلى الله –تعالى- لا إلى نفسه، وأرجع الفضل كله لله، فأي تجرد؟ وأي أدب رفيع مع الله هذا الأدب؟.
أيها الإخوة: أليست القلوب بيد الرحمن؟ أليس الإنسان على نفسه بصيرة؟ أليس التواضع رحمة والكبر نقمة؟
أطرح هذه التساؤلات حين أرى الفرق بين موقف ابنين من أبناء الأنبياء من أولي العزم: ابن إبراهيم، وابن نوح -عليهما السلام-.
ألا يفترق موقف إسماعيل الحر الكريم عن موقف ابن نبي الله نوح، عندما قال له أبوه: (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء)[هود: 42- 43].
بلى، والله يفترقان كافتراق الأرض عن جو السماء.
ولا نقول ها هنا أمام هذين الموقفين المتفرقين إلا: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)[الفرقان:74].
معاشر الموحدين: تعلمنا في كتب التوحيد: أن معنى الإسلام، هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك.
هو تعريف شامل جمع بين المعنى اللغوي والشرعي، كما جمع بين العبادة القلبية والحسية، ابتدأ بالاستسلام لله، ثم الانقياد له بالطاعة.
هذه المعلومات النظرية سهلة الحفظ، وسهلة القراءة، ولكن عند تطبيقها يتفاوت الأداء؛ فمن الناس من يتقدم ومنهم من يتأخر.
فحقيقة الإسلام بمعنى التسليم إنما تظهر بالمحك، عندما يأتيك الأمر من ربك ومولاك بما لا تهواه نفسك، فهل سيستجيب قلبك؟ وهل ستؤثر رضاه على هواك أم هواك على رضاه؟
معاشر الإخوة: هذه الأسئلة لا مكان لها عند هذين النبيين الكريمين.
لا.
مسألة التسليم لأمر الله عندهم مسألة محسومة، مسألة التسليم لأمر الله انتهت عندهم من زمان، لا مجال فيها للنقاش، ونحن نستلهم منهم الأسوة في فريضة التسليم، قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات:103].
(تَلَّهُ) أي صرعه على الأرض.
(تَلَّهُ) إبراهيم إسماعيل على جبينه ليذبحه، وقد انكب جبينه على الأرض والتصق بالأرض لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه.
هذا هو الموقف العصيب، هنا يكتمل البلاء، السكين في يده وابنه تحته ساكن في الأرض، مستسلم، لا يتحرك، ينتظر الذبح، والأب هام ليذبحه، بلا تردد.
في هذه اللحظة الحاسمة يجئ النداء الرحيم: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)[الصافات:104- 105].
قد فعلت ما رأيت في النوم أنك تفعل، فعلت ما أمرت به، ووطنت نفسك على ذلك، وفعلت كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلق ابنك: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا).
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ) [الصافات:106].
البلاء الواضح الذي تبين به صفاء إبراهيم وكمال محبته لربه وخلته، فإن إبراهيم لما وهبه الله إسماعيل أحب ابنه حبا شديداً، وإبراهيم هو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهي منزلة لا تقبل المشاركة.
الخلة من شروطها: أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب.
فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل أراد الله –تعالى- أن يصفي وده، ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه.
فلما قدم إبراهيم حب ربه وآثره على هواه، وعزم على ذبح ابنه الحبيب طاعة لمحبوبه الأعظم، وصفى القلب لله –تعالى- تماما، وزال منه كل مزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه.
فالله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، وإنما يريد أن يظهروا صدق الطاعة والمحبة له وحده، وبذلك يرتفع قدرهم، وتعلو مكانتهم عنده، ولهذا قال سبحانه مؤكدا قوة البلاء وثبات خليله، وصبره وصدق محبته وأحقيته في أن يكشف عنه البلاء، ويفدى ابنه، قال سبحانه: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات:106 - 107].
صار بدله ذبح من الغنم عظيم، ذبحه إبراهيم، فكان ذبحا عظيما من جهة كان فداءا لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جملة أنه أصبح قربانا وسنة إلى يوم القيامة: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فإننا نذبح الأضحية حبا لله، إظهارا لإخلاصنا، في محبتنا، وإجلالا بمعاني قصة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- فلنتذكر أصول هذه المناسبة: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)[الصافات:103].
فتذكر هذا إنها لحظة الصدق النقية الصافية.
لقد أسلم، هذا هو الإسلام في حقيقته، قد يندفع المجاهد وهو يعلم أنه قد لا يعود، ولكن هذا شيء، والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر.
ليس هنا دم ثائر، ولا حماسة دافعة، ولا اندفاع أمام الأعداء، ولا عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص في ميدان المعركة.
لا.
وإنما هو الاستسلام الواعي المتعقل، القاصد المريد، العارف لما يفعل بدون حماسة زائدة، المطمئن لما يكون.
لا، بل ويحفه الرضا الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة، وطعمها الجميل بلا أدنى حظ للنفس وأهوائها.
الإسلام في حقيقته: ثقة وطاعة، وطمأنينة، ورضا وتسليم.
نسأل الله –تعالى- من فضله العظيم، نسأله تعالى أن يثبتنا على طاعته، وصدق محبته.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي