عندما رأى المشركون أن الأساليب السابقة قد فشلت في الوقوف في وجه الدعوة الجديدة استخدموا أسلوبا جديدا وخطيرا، وهو أسلوب التشويه، فبدؤوا يثيرون الشبهات والأكاذيب حول شخص الرسول تارة، وحول الإسلام بشكل عام تارة أخرى، لهذا صاروا يقولون عن الرسول مرة: إنه مجنون، ومرة يقولون: إنه شاعر، ومرة بأنه ساحر أو كاهن، لكن ....
تحدثنا في خطبة سابقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلن دعوته، وجهر بها، وأعلن ضلال قومه، وفساد ما يدينون به، لكنهم لم يعتبروا هذا الكلام من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بيانا للحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه، بل اعتبروه تسفيها لأحلامهم، وتحديا لعقيدتهم، وأعلنوا معارضتهم الشديدة منذ اللحظة الأولى، وسلكوا في ذلك طرقا عديدة في الوقوف أمام دعوة الإسلام.
فشكلوا في البداية وفدًا وأرسلوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا له: إن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك، فقال لهم: "ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابًا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا نذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيننا وبينكم".
فلما سمعوا منه هذا الجواب الحازم انتقلوا إلى مساومته للالتقاء في وسط الطريق بحسب زعمهم، فقالوا له: "إن سرك أن نتبعك عاما، وترجع إلى ديننا عاما، أي: أن يشاركهم في عبادة الأوثان، وأن يشاركوه في عبادة الله، فنزل قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 66].
ونزل قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)[الكافون: 1] أي: لا يمكن التقارب بين توحيد الله، وبين الشرك وأهله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي: لا تقارب بين الأديان، فلا يمكن الجمع بين النور والظلمة، وبين الشرك والتوحيد، وبين الكفر والإيمان.
ويتضح لنا أيضا أن أهل الباطل قد لا يمانعون من الحوار والتنازل عن بعض عقائدهم ومبادئهم إذا كان على سبيل المقايضة مع أهل الإيمان، ولكن أهل التوحيد ليس لهم الخيار حتى وإن أرادوا التنازل عن شيء من دين الله.
وعندما فشل الكفار في مواجهة الرسول بمثل هذه الأساليب انتقلوا إلى أسلوب آخر، وهو أسلوب التهديد، فأخذوا يهددون النبي –صلى الله عليه وسلم- بأنه إذا لم يتوقف عن دعوته فإنهم سيفعلون به، وبأصحابه الأفاعيل، بل إن أبا جهل -لعنه الله- كان إذا سمع بالرجل أسلم وله شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وقال: "تركت دين أبيك وهو خير منك! لنسفهن حلمك، ولنقيلن رأيك، ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرًا، قال له: والله لنكدسن تجارتك، ولنهلكن مالك".
وهكذا مضت قريش في استعمال التهديد المصحوب بالحرب النفسية، والتي تهدف إلى تحطيم نفسية الرسول، وأتباعه من المؤمنين، ولكنها باءت بالفشل.
وتتكرر هذه الصورة في العصر الحاضر عندما يقوم أعداء الإسلام في أماكن عديدة بالتلويح بالعذاب والسجن لمن يعلن كلمة الحق، أو حتى لمن يسلك مسلك الصالحين في عبادتهم، أو لباسهم، أو عفتهم عن الحرام، فتطلق الإشاعات على أن من فعل ذلك فهو منهم، ولا نجاة له إلا بالتبرؤ منهم.
والمسلم الحقيقي هو الذي يختار الحق، ولا يحيد عنه مهما كان؛ انطلاقا من قول الله: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[يونس: 107].
وقد يكون التهديد بقطع الرزق، أو الإخراج من الوظيفة، أو النيل من السمعة، وهذه كلها يرد الله عليها بقوله: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[هود: 6].
وحتى التهديد بقطع الأعناق لن يثني المسلم الحقيقي عن دينه؛ لأن الذي يحيي ويميت هو الله رب العالمين، ولأن الأجل لا يتقدم أو يتأخر: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34].
وهذا كله بيد الله -سبحانه-، وعلى كل فالمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، فقد هدد أبو جهل رسول الله ونهاه وتوعده، لكن رأينا كيف أخزى الله أبا جهل بما هدد وتوعد.
وبعد أن بذلت قريش كل ما في وسعها للقضاء على الإسلام، وفشلت في ذلك، اتجه رجالها إلى محاولة رد المسلمين عن دينهم بواسطة التعذيب، وجعلوا كل قبيلة تعذب من دان منها بالإسلام أنواعًا من التعذيب، فعذب بلال بن رباح عذابا شديدا كما ذكرنا من قبل، وعذب عمار وأمه ووالده ياسر، فقد كانوا يخرجونهم في الحر الشديد ويعذبونهم، وقد مر النبي –صلى الله عليه وسلم- وهم يعذبون، فقال: "صبرًا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة" فمات ياسر تحت العذاب.
وأما سمية، فقد أغلظت القول لأبي جهل -لعنه الله- فطعنها بحربة في قُبُلها، فماتت شهيدة، وكانت أول شهيد في الإسلام.
وأما عمار، فقد شددوا عليه العذاب ونوعوه، فمرة بالجر، ومرة بوضع الصخر على صدره، ومرة بالغمس في الماء إلى حد الاختناق، ويقولون له: "لا نتركك حتى تسب محمدا" ولما فعل ما طلبوا منه تركوه، فأتى النبي –صلى الله عليه ولسم- يبكي، فقال: "ما وراءك؟" فقال: شرًا يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا، فقال له: "كيف تجد قلبك؟" قال: أجده مطمئنًا بالإيمان، فقال: "إن عادوا -يا عمار- فعد" وأنزل الله قوله: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النحل: 106].
وقد أخذ العلماء من إجابة عمار جواز النطق بكلمة الكفر عند الإكراه فقط، ولكم نحتاج إلى دراسة وقراءة هذه النماذج المؤمنة التي تعطينا الدروس والعبر فيما يجب أن يكون عليه المسلم، فلئن صبروا على الأذى فكيف بمن لا يصبر على الطاعة في غير أذى؟!
لقد كان عليه أن يشكر الله -سبحانه وتعالى- عندما أُتيح له أداء شعائر العبادة بأمن واطمئنان، وبدون تضييق عليه أو إيذاء، لكنه التكاسل، واتباع الهوى، وحب الراحة والدعة.
وهذا عثمان بن عفان كان عمه يلفه في حصير من أوراق النخيل، ثم يشعله من تحته، وغير ذلك كثير جدا، ومع ذلك أمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أصحابه بضبط النفس، والتحلي بالصبر، والحلم والأناة، وعدم مواجهة عدوان المشركين بالمثل، حرصا على حياتهم؛ لأنهم مادة الإسلام الناشئة، ومكونه الرئيس، وحماية لمستقبل الدعوة الوليدة أن يئدها المتربصون بها، وهي لا زالت غضة طرية، قال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)[الجاثية: 14].
كذلكم عندما أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- المستضعفين من المعذبين بقوله: "صبرا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة".
ولم يدعُ لهم الرسول –صلى الله عليه وسلم- بأن ينجيهم الله من العذاب، أو أن يشل أيدي الظالمين، أو أي شيء آخر، ما السبب؟
السبب هنا مهم جدا، وهو أن تسليط الظالمين على المؤمنين مستمر إلى قيام الساعة، فليست هناك فئة مؤمنة، أو دولة، تريد الإسلام الصحيح إلا ويسلَّط عليها المجرمون، فماذا يفعل هؤلاء والرسول ليس موجودًا بينهم ليدعو لهم؟!
ولو أن الرسول دعا لآل ياسر وغيرهم لقال الذين بعدهم: أولئك دعا لهم الرسول فنجوا من العذاب فمن يدعو لنا؟!
لكن عندما يسمع أي من المظلومين بما جرى لأصحاب الرسول، بل وحتى للرسول ذاته، فإن ذلك مدعاة لهم للصبر والثبات، وأن الأجر عند الله.
ولم يكتف المشركون بتعذيب وإيذاء المؤمنين من أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، بل وصل بهم الحال إلى حد الاعتداء عليه شخصيا، فهذا أبو لهب -لعنه الله- كان عندما يرى النبي – صلى الله عليه وسلم- يتكلم مع الناس في مواسم الحج والأسواق، فكان يمشي وراءه ويكذبه، بل كان يضربه بالحجر حتى يدمي عقبيه.
وكانت امرأته أم جميل حمالة الحطب، كانت تضع الشوك في طريقه وعلى باب منزله وفي الليل، حتى لا يراه، بل وصل بهم الحال إلى أفظع من ذلك بكثير، قال عبد الله بن مسعود: "إن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يصلي عند البيت، وأبو جهل ومعه أصحابه جلوس، فقال بعضهم: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم وهو عقبة بن أبي معيط -لعنه الله-".
ويقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في ذلك وغيره عن أنس بن مالك قال: "لقد أخفت في الله -عز وجل- وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال".
ومع ذلك صبر صبرًا لا يطيقه أحد، عملًا بقوله تعالى له: (اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)[يونس: 109].
وهذا يبين لنا أيضا أن الحياة الدنيا ليست معيارا لمكانة الشخص عند الله -سبحانه وتعالى-، فقد يؤذى الشخص، ويهان، ويضرب في الدنيا، وهو صالح تقي، وقد يكرم وترفع مكانته في الدنيا وهو شقي ضال هالك.
وعندما رأى المشركون أن الأساليب السابقة قد فشلت في الوقوف في وجه الدعوة الجديدة استخدموا أسلوبا جديدا وخطيرا، وهو أسلوب التشويه، فبدؤوا يثيرون الشبهات والأكاذيب حول شخص الرسول تارة، وحول الإسلام بشكل عام تارة أخرى، لهذا صاروا يقولون عن الرسول مرة: إنه مجنون: (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)[الحجر: 6].
ومرة يقولون: إنه شاعر، ومرة بأنه ساحر أو كاهن، لكن الله يرد عليهم بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) [الحاقة: 40-43].
ثم اتهموه بأنه تعلم القرآن على يد أعجمي من الأعاجم؛ لهذا أخبر عنهم الله وعن كذبهم بأنهم نسبوا القرآن إلى أعجمي مع أن هذا القرآن عربي فصيح، قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ)[النحل: 103].
ثم صاروا ينشرون الإشاعات حول الرسول –صلى الله عليه وسلم- بين الناس، حتى يصدوهم عن دين الله، فقد كان يلتقي بالحجاج ويعرض عليهم دعوته، فكان إذا تكلم مع قوم من الأقوام جاء أبو لهب -لعنه الله- وقال لهم: "لا تصدقوا هذا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه".
وإذا كانوا في الماضي يقولون عن الرسول: مجنون وساحر وكاهن، فاليوم لا تتناسب هذه الشبهات مع عصر العلم الحديث، وإنما صاروا يقولون: متعصبون، والناس يكرهون التعصب، ويقولون: طائفيون، والناس يكرهون التفرقة، وصاروا يتهمون الدعوة الإسلامية المعاصرة بأنها يقودها الأصوليون والمتطرفون والإرهابيون الذين يريدون العودة بالناس إلى القرون الوسطى كما يزعمون.
والعجيب أننا في هذه الأيام نرى كل من هب ودب أصبح يتكلم عن الإرهاب، والتطرف والأصولية، بل وصل الحال إلى أن بعضا ممن يعرفون بالفساد والظلم ومحاربة الدين صاروا يطلقون ألسنتهم في أطهر الناس وأفضلهم، بنفس المنطق الفرعوني القديم عندما جاءه موسى -عليه السلام- بالحق.
فرعون هذا عندما جاءه موسى - عليه السلام - بالحق ماذا قال؟ حكى الله عنه أنه قال: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[غافر: 26].
ترى ما الأسباب التي دعت فرعون ليقول هذا الكلام؟
هناك سببان:
الأول: الحفاظ على الدين، فموسى عدو للدين، وفرعون حريص عليه.
والثاني: الحفاظ على الأمن، فموسى ضد الأمن، وفرعون هو حامي الأمن.
سبحان الله! هل هناك أعجب من هذا؟!
وهذا هو ما يحدث الآن بالضبط، ففي بعض البلاد والتي لا تحكم بما أنزل الله، كلما قام داعية أو مصلح وطالب بتطبيق شرع الله اتهم بأنه يريد الفتنة، وأنه يهدد الوحدة الوطنية، وأنه مفسد في الأرض، وأنه خطر على الأمن وأنه وأنه، وقد يتهمونه، ويلفقون له من التهم المختلفة الشيء العجيب، وصدق الله القائل: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[البروج: 8- 9].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
ومن أساليب التشويه التي ابتكرتها قريش: معارضة القرآن بأساطير الأولين، وإشغال الناس بذلك حتى لا ينتبهوا للقرآن ولا يفقهوه، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[فصلت: 26].
بل وصل بهم الحال إلى أن أحدهم وهو النضر بن الحارث، وكان قد تعلم أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وقصصه، فكان يحاول أن يصرف الناس عن الرسول ويقول: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلموا إلي، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟!
وهذا ما يتعرض له المسلمون من أعداء الإسلام اليوم، من محاولاتهم المستميتة الهادفة إلى إشغال المسلمين عن دينهم وعن قرآنهم بالدرجة الأولى، وذلك بإغرائهم وإفسادهم بالشهوات من خلال الإعلام الموجه والمكثف الذي يعرض الأفلام والمسلسلات، والأدب الجنسي، وبرامج الرقص والغناء، إضافة إلى بث الشبهات من خلال نشر الإلحاد والمفاهيم الخاطئة للحرية والديمقراطية والتقدم والتطور، وتسمية الفواحش والمنكرات بأسماء جميلة تلبس على الناس دينهم وأفكارهم ومبادئهم، فهو يطلق على الذين يفرطون في أوامر الدين مثلا أنهم متحضرون ومعتدلون، بدلا من أن يطلق عليهم أنهم مفرطون ومتسيبون.
وهو يطلق على النساء الكاسيات العاريات مثلا أنهن متحضرات، بدلا من أن يطلق عليهم خارجات على أوامر الإسلام، ويطلق على التي تجالس الرجال وتخالطهم أنها صاحبة شخصية وواثقة من نفسها، بدلا من أن يطلق عليها أنها منحلة.
ويطلق على بعض النساء من اللاتي يقمن بأعمال معينة خارجة عن الإسلام بأنها نجمة أو كوكب، أو سيدة المجتمع، ويطلق على الرجل الذي يتساهل في عرضه أنه متحرر، بدلا من أن يطلق عليه أنه ديوث، ويطلق على الذي يريد نشر الفساد والتحلل في بلاد المسلمين يطلق عليه أنه عصري ومتحضر، بدلا من أن يطلق عليه أنه يريد إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وأن له عذابا أليما في الدنيا والآخرة.
كل هذه الأمور وما شابهها يحاول الباطل تزيينها للناس، حتى يصرفهم عن دينهم وقرآنهم، وصدق الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)[لقمان: 6].
وهذا يؤكد أن الكلمة هي من أخطر ميادين الصراع بين الأنبياء وأعدائهم، فكلمة الحق لها وقع كبير، وبالمقابل كلمة الباطل لها تأثير كبير، وأهل الباطل يعملون على زخرفة باطلهم بالعبارات الرنانة والكلمات المعسولة، أما الذين ينخدعون بهذه الزخرفة الباطلة فهم الذين قال الله فيهم: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ)[الأنعام: 113].
وبالفعل لا تنتشر هذه الأشياء إلا عند وجود الخواء الروحي، والفراغ العقلي، فتصبح الناس مستعدة لتلقي هذا الزخرف من القول الباطل، ولو كان عندهم وعي لما تأثروا به، لكن المؤسف أنه في غياب الوعي وفي غياب الإيمان بالآخرة، وفي غياب المفاهيم الصحيحة يكون هناك فراغ يمكن أن يملأ بهذه الأشياء الباطلة.
وهذه القضية تؤكد أيضا على حملة رسالة الإسلام أنهم لابد أن يستفيدوا من أجهزة الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية ووسائل الاتصال الاجتماعي المختلفة في الدعوة إلى الحق وحمايته ونشره، وبناء الفضيلة والأخلاق، وأن يستفيدوا من الوسائل الأدبية من القصة والمقالة والقصيدة في الوصول إلى كافة طبقات الناس، وإيصال الحق إليهم؛ لأن المحاضرة، أو الدرس العلمي، أو الخطبة، أو الموعظة، هي وسائل لها تأثيرها، ولها جمهورها، ولكن هناك جمهور آخر لابد من الوصول إليه عبر الوسائل الأخرى المتنوعة؛ لأن الحق يجب أن يصل إلى كل أذن بقدر ما يستطاع، وقد بين الله -سبحانه وتعالى- ذلك الصراع بين الحق والباطل في هذه الناحية بقوله جل وعلا: (الَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)[إبراهيم: 26].
فالكلمة الطيبة تقارع الكلمة الخبيثة، لذلك لابد أن تقال في كل ميدان، وفي كل وسيلة حتى تفعل فعلها الحسن في المتلقين لها، وتزاحم بل وتطرد الكلمة الخبيثة وتعطل تأثيرها في المجتمع، فهل يفعلون؟!
نرجو هذا ونتمناه، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي