متاع الغرور

صالح بن عبد الرحمن الخضيري
عناصر الخطبة
  1. سرعة مرور الأوقات والأعمار .
  2. الإنسان عرضة للبلايا والمحن .
  3. فتنة الحياة الدنيا .
  4. فوائد الإكثار من ذكر الموت .
  5. خطر الغفلة وفضل المحاسبة .
  6. القلب ملك الجوارح .
  7. فضل الزهد في الدنيا والتقلل منها(نماذج) .
  8. خطر الانشغال بالدار الفانية عن الدار الباقية .
  9. اكتناز الأعمال الصالحة .

اقتباس

يا ابن آدم إنك في هذه الدنيا غرض للبلايا والرزايا، فاستغفر ربك، وتب من ذنبك، ولا تكن شاة الراعي أعقل منك، تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة. إن من عرف حقيقة الدنيا زهد فيها، وأهانها؛ ليعيش عزيزا كريما.إن الدنيا مطية إن ركبتها حملتك، وإن حملتها أثقلتك، فكم من محتال فيها خدعته، سرورها إلى حزن، وعافيتها إلى سقم، ووجودها إلى عدم، عزيزها مغلوب، وأيامها دول، وحلوها مر، و...

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد بالعظمة والكبرياء، والجلال المتوحد بالربوبية والوحدانية وصفات الكمال الذي أصبغ على عباده النعم الجزال؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

أما بعد:

فيا أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[البقرة: 281].

واستغفروا ربكم مما قصرتم فيه، وتوبوا إليه وأطيعوه، فإن مردنا إلى الله -عز وجل-.

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، فمن زرع خيرا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرا فيوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثلما زرع، لا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أعطي خيرا فالله أعطاه، ومن وقي شرا فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة".

أيها المسلمون: تمر الأيام بعد الأيام، وتنقضي الشهور والأعوام، ونحن في غفلة ساهون، قال الله -جل وعلا-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ)[الأنبياء: 1-3].

لقد غفلنا ولم يغفل عنا، وفرطنا وما تركنا، وشيعنا الجنائز وما اعتبارنا، ورأينا كيف تتقلب الدنيا بأهلها فما اتعظنا ولا انزجرنا.

يا ابن آدم إنك في هذه الدنيا غرض للبلايا والرزايا، فاستغفر ربك، وتب من ذنبك، ولا تكن شاة الراعي أعقل منك، تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة.

إن من عرف حقيقة الدنيا زهد فيها وأهانها ليعيش عزيزا كريما.

إن الدنيا مطية إن ركبتها حملتك، وإن حملتها أثقلتك، فكم من محتال فيها خدعته، سرورها إلى حزن، وعافيتها إلى سقم، ووجودها إلى عدم، عزيزها مغلوب، وأيامها دول، وحلوها مر، واجتماعها إلى افتراق، وبناءها إلى خراب، ما ذكرها الله في القرآن إلا ذاما لها: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20].

أين الأهل والآباء والأجداد والإخوان؟!

ذهبوا وهيهات أن تلتقوا معهم إلا في يوم البعث والنشور.

من أكثر ذكر الموت وفق لثلاثة أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، والنشاط في العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: التسويف بالتوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادات.

ألا وإن أضر ما علينا الكسل والإهمال، وتركُ المحاسبة والاسترسالُ، وتسهيلُ الأمورِ وتمشيتُـها، فإنَّ هذا يقود بهِ إلى الهلاكِ، وهذه حالُ أهلِ الغرور، يُغْمضُ عينيهِ عن العواقبِ، ويُمَشّي الحال، ويتكلُ على العفو، فيهملُ محاسبة نفسهِ، والنظرُ في العاقبة، فإذا فعلَ ذلكَ سَهُلَ عليه مواقعةُ الذنوبِ، وأنِسَ بها، وعَسُرَ عليه فِطامُها.

فالله الله –إخواني- بمجاهدة النفس، وكفها عن هواها، ففي ذلك سعادة الأبد: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات[النازعات: 40- 41].

في مسند الإمام أحمد: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المجاهد من جاهد نفسه في الله".

وقال عبد الله بن عمرو لرجل سأله عن الجهاد: "ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها".

وقال الصديق -رضي الله عنه- لعمر -رضي الله عنه- حين استخلفه: "إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك".

فيا بؤس لمن ترك المحاسبة، يا بؤسا لمن غرته نفسه الأمارة بالسوء، ودنياه الغرارة، فقدم إلى الآخرة مفلسا؛ قال الحسن البصري -رحمه الله-: "أيها المغرورون إنما الدنيا جيفة ينهشها عشاقها، وهم لا يشعرون، من ركن إليها ذلّ وافتقر، ومن زهد فيها عزّ واقتدر".

أيها المسلمون: القلب هو موضع التأمل والنظر، وإذا صلح صلح بقية الجسد، واستقام العمل، وأما إذا أصيب بداء الغفلة، وضرب بالقسوة ضاع أمره، وتفرق شمله، وخسر صاحبه، فكم يتحسر على الغفلة والتفريط أقوام مضت أعمارهم، واغتروا بما في الحياة من متاع زائل، من منصب، أو مال، أو جاه، أو شهوة عابرة، قال سبحانه: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 31-32].

فلا تغفل -أيها المسلم- عمن جعل لحياتك أجلا، ولأيامك ولأنفاسك أمدا، ومن كل ما سواه بد، ولابد لك منه.

داو قلبك، فالعباد يتفاضلون عند الله بقدر صلاح قلوبهم، واحذر كل سبب يقسي القلب؛ كأكل الحرام، والنظر المحرم، وكون الدنيا هي الهم والمقصد والغفلة عما يراد منك.

احذر الإصرار وترك التوبة والاستغفار، قال أبو الوفا بن عقيل: "يا من يجد قسوة في قلبه! احذر أن تكون نقضت عهدًا، فإن الله يقول: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)[المائدة: 13].

كم من قلب تكاثرت عليه الذنوب، وقل استغفار صاحبه وتوبته، فطبع عليه فكان من الغافلين: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14].

قال الحسن البصري "هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب"

وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا أذنب كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإنْ تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، وإن زاد زادت حتى يعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله –عز وجل-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين" 14]".

إن الناس كلما أحدثوا ذنبا نزلت بهم عقوبة: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].

والجزاء من جنس العمل: (وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[يونس: 25].

فهو لا يدعو عباده إلى جمع الدنيا والتنافس فيها، بل يدعو إلى دار السلام التي من دخلها سلم من الآفات، وتنعم بالخيرات والملذات؛ قال يحيى بن معاذ: "يا ابن آدم دعاك الله إلى دار السلام، فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته من دنياك دخلتها، وإن أجبته من قبرك منعتها".

أيها الناس: شغل الكثير من المسلمين اليوم عن دار البقاء، وشغلوا أنفسهم بالدار الفانية، حتى إن بعضهم لا يفكر إلا في الدنيا وأعمالها ومساهماتها وصناعتها وتقنياتها، حديثه في ذلك زاد عن الحد المعقول، أما تفكره في الآخرة وما يقربه إلى ربه فما جاء على باله، وإن جاء فهو قليل.

روى ابن حبان عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ مَنْ عَلَى الأَرْضِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ، مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى".

وفي البخاري عن ابن عمر قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل".

وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

لقد أوصى الأنبياء وأتباعهم بهذه الوصايا بأن لا تتخذ الدنيا وطنا، فقال مؤمن آل فرعون كما حكى الله عنه: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)[غافر: 39].

وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مالي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قَالَ -أي نام- في ظل شجرة ثم راح وتركها" [رواه أحمد والترمذي].

وأوصى بذلك عدد من أصحابه، قال الحسن -رحمه الله-: "لما نزل بسلمان -رضي الله عنه- الموت بكى، فقيل: ما يبكيك وأنت صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: أما إني لا أبكي جزعا على الدنيا، ولكن أخشى أن لا أكون حفظت وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: "ليكن بلاغكم من الدنيا كزاد الراكب" قال: "فلما مات سلمان نظروا فإذا نحو من قيمة ثلاثين درهما".

ودخل رجل على أبي ذر -رضي الله عنه- فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر أين متاعكم؟" قال: "إن لنا بيتاً نوجه إليه" قال: "لا بد لك من متاع ما دمت ها هنا". قال: "إن صاحب الدار لا يدعنا فيه".

فالله المستعان على أحوالنا، الآن يا ليت أننا اقتصرنا على الحلال؛ قال عمر بن عبدالعزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".

يا ابن آدم: الغنى قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك، فإذا أصبحت معافى في جسدك، آمنا في بيتك، ذاكرا لربك، عندك قوت يومك، فقل على الدنيا العفاء.

وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد أفْلَحَ مَنْ أسلم، ورُزِقَ كفافاً، وقَنَّعه الله بما آتاه".

يا ابن آدم: عندك ما يكفيك، وأنت تطلب ما يطغيك، فلا بقليل تقنع، ولا بكثير تشبع: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا)[الكهف: 45].

عن جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق والناس عن جانبيه، فمر بجدي أسك ميت -أي صغير الأذنين- فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أتحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا أنه أسك فكيف وهو ميت، فقال صلى الله عليه وسلم: "والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" [رواه مسلم].

وفي الترمذي: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء".

وفيها أيضا: "ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالما ومتعلما".

الله أكبر، هذه حقيقتها التي طالما النزاع والخصام والتشاجر والتهاجر عليها، أهذه حقيقتها، والتي يحصل عليها الولاء والبراء من كثير من الناس اليوم، أهذه حقيقة ما يفنى ويزول؟!

قرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1].

فقال: "يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك ليس لك إلا ما أكلتَ فأفْنَيتَ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ" [رواه مسلم].

سبحان الله، أهذه نهاية مال طالما أشغل صاحبه عن طاعة الله، أو تفويت فرائض الله ترك لأناس لم يتعبوا في جمعه لهم حلالا مصفى، وعلى صاحبه حساب دقيق؛ قال يحيى بن معاذ: "لا تكن ممن يفضحه في الدنيا ميراثه، وفي الآخرة ميزانه".

ولما احتضر أحدهم بكى أبواه وولده وأهله، فسأل: ما الذي أبكاهم؟ فقال أبواه: "نبكي لفراقك، وما تعجل من الوحشة بعدك". وقال أولاده: "نبكي لفراقك وما يصيبنا من اليتم بعدك". فقال: "كلكم يبكي لدنياي أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من يبكي لما يلقى في التراب وجهي؟ أما فيكم يبكي لمسألة الملكين لي في قبري؟ ألا فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي ربي؟".

وقال علي -رضي الله عنه-: "إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل وإتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما إتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغني.

اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا يا ذا الجلال والإكرام.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -يا أهل الإسلام-، ولا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرت من قبلكم.

إن آبائنا وأجدادنا عليهم رحمة الله كانوا أقل منا توسعا في الدنيا، بل مسهم الجوع، وأصابتهم الحاجة، ومع ذلك كانوا لله أطوع، وإلى الخيرات أسرع، عيونهم من خشية الله تدمع، وقلوبهم في الصلوات تخشع، آثروا من أجل الله ما ينفع: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 36-37].

كانوا يحضرون إلى المساجد قبل الأذان، ويتهجدون في الليل بآيات القرآن، ويتعففون عن المتشابه، ويكنزون الذكر والخشية، وحب الله -عز وجل- ورسوله، شأنهم في ذلك شأن من سلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم.

قال ابن مسعود: "نعم كنز الصعلوك البقرة وآل عمران يقوم بهما في آخر الليل".

وعن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا أنتم هذه الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب" [رواه أحمد والترمذي وابن حبان].

وفي بعض طرق الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- علمهم هذه الكلمات أن يدعو بها في الصلاة، أو في دبر الصلاة، فأشار إلى أن كنز هذه الكلمات أنفع من كنز الذهب والفضة، حيث أن العمل الصالح من ذكر ودعاء وتلاوة وغيرها يبقى نفعه، أما الذهب والفضة فيفنى، قال سبحانه: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ) [النحل: 96].

وفي حديث ثوبان لما نزلت هذه الآية: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) [التوبة: 34] قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبا للذهب والفضة" قالوا: يا رسول الله فما نتخذ؟ قال: "ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا، ولسانا شاكرا، وزوجة صالحة، تعين أحدكم على إيمانه"[رواه أحمد والترمذي].

ونبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- لم يخف علينا الفقر، بل خاف علينا فتنة الغنى، وزهرة الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: "إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها".

اللهم قنعنا بما رزقتنا، وبارك لنا فيما أعطيتنا.

اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك عنا.

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك الصالحين.

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي