وبهذا نعلم أن أهل الغيرة والعفة من رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجال الأمن والشرطة وغيرهم هم صمام الأمان لأعراض المسلمين وأسرهم.. ولا عزاء للمنافقين ولا للتغريبيين أعداء العفة والفضيلة، الآمرين بالمنكر، الناهين عن المعروف، وكتاباتهم ..
أتحدث إليكم اليوم عن خصلة من خصال الإيمان.. بل هي صفة من صفات الرحمن.. هي حصن الأسرة، وعماد العفة، وأساس الفضيلة.
إنها الغيرة يا عباد الله، وأعني بها الحمية والأنفة على العرض.
العنوان: الغيرة حصن الأسرة، والموضوع في أربع نقاط:
أنواع الغيرة:
أكمل الغيرة غيرة الله تعالى وهي صفة كمال لا تماثل المخلوق، كما في البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني ". وفي حديث أبي هريرة: " إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله ".
أما بالنسبة للمخلوق فالغيرة أربعة أنواع:
1- غيرة واجبة: وهي كل ما تضمن درء فتنة أو ريبة.
2- وغيرة مستحبة: وهي ما تضمن المستحب من الصيانة والاحتياط. 3- وغيرة منهي عنها: وهي الغيرة في مباح لا ريبة فيه فهي مما لا يحبه الله بل ينهى عنه لأنه من الغلو. كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن ".
وعن جابر بن عتيك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الغيرة ما يحب الله ومن الغيرة ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله فالغيرة في غير ريبة ". رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه الألباني.
وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "الغيرة غيرتان غيرة حسنة جميلة يصلح بها الرجل أهله، وغيرة تدخله النار تحمله على القتل فيقتل".
4- غيرة طبيعية: كغيرة الزوجات بعضهن من بعض، وهذه الغيرة ليس مأموراً بها، ولا تذم المرأة لأجلها.
وقد وقع في هذا النوع جملة من الحوادث من أمهات المؤمنين رضي الله عنه، فتكسر إحداهن صحفة طعام الأخرى، وتغار عائشة رضي الله عنه إذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة بعد موتها، إلا أن هذه الغيرة الطبيعية لم تغض من قدر وفضل أمهات المؤمنين، فكن سيدات العالم، وإذا مس إحداهن طائف من الغيرة بحكم الجبلة الإنسانية فإنها ما تلبث أن تطرد هذا الطائف بإيمانها.
مظاهر ضعف الغيرة:
لقد حفل التاريخ البشري بصور مخزية من مظاهر ضعف الغيرة، هي صفحات سوداء في التاريخ، ووصمة عار في جبين الإنسانية؛ فمن ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، وذكرت منها: أن الرجل كان يقول لامرأته أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل رغبة في نجابة الولد.
أما اليوم؛ فمع طوفان الفتن والشهوات، أضاف الفجار والأشقياء صوراً أبشع مما سطره أسلافهم، حينما فشت الفاحشة واستُمرِئت، وانتشرت الرذيلة وقنِّنت، وانطفأت نار الغيرة في قلوب أشباه الرجال وخبت.. ويتجلى ضعف الغيرة في عدة مظاهر، ومنها:
1- ما يقع -عياذاً بالله- من فعل الفاحشة بالمحارم أو المتاجرة بأعراضهن أو الرضا بذلك، وقد جاء من الوعيد الشديد على الدياثة ما يطير منه فؤاد المؤمن خوفاً ورهبة؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث " رواه أحمد وصححه الألباني.
2- التساهل في الحجاب، وضعف سلطة الرجل على زوجته وبناته وغيرهم من محارمه، ولا سيما عند السفر للخارج؛ فما إن تقلع الطائرة إلا ويكون الحجاب نسياً منسياً؛ إما بإقرار الزوج -وتلك عظيمة-، وإما بأمره وهذه أعظم؛ كما شكت لي إحدى الأخوات أن زوجها المترف إذا سافر بها ومعه بعض أصحابه أمرها بنزع الحجاب وقال لها: لا تفشليني عند الناس.
3- تساهل كثير من الرجال في ركوب نسائه متبرجات متعطرات مع السائق أو سيارة الأجرة، أو سفرهن بلا محرم.
4- إدخال كثير من الناس القنوات الفضائحية إلى منزله، هذه القنوات التي تبث الرذيلة، وتهيج الشهوة، وتدعو إلى الفاحشة، وتفسد النساء والشباب، وهو ساكت لا يتكلم، جامد لا يتحكم.
5- التساهل في اختلاط السائقين بالمحارم في البيوت، واختلاط الخادمات بالرجال ولاسيما الشباب، وهذا باب عظيم من الفتنة، حدث بسببه أمور يندى لها الجبين.
7- تساهل بعض الرجال في ذهاب نسائه إلى الطبيب الرجل؛ ليكشف على عوراتهن -وأحياناً العورة المغلظة- مع عدم مراعاة الضوابط الشرعية؛ ومن هذه الضوابط: 1- وجود الحاجة للتداوي. 2- ألا يلجأ إلى الطبيب الرجل إلا إذا عدمت الطبيبة. 3- ألا يلجأ إلى الطبيب الكافر إلا إذا عدم المسلم. 4- أن يكون الكشف بحضور المحرم؛ لعموم تحريم الخلوة والأمر هنا أشد. 5- أن يقتصر الكشف على موضع الحاجة فقط دون غيره.
8- التساهل في تصوير النساء في محلات التصوير النسائية؛ ليطلع عليها من شاء من العاملات اللواتي قد لا يتورعن من نشرها بين الرجال.
9- التساهل في تصوير النساء في الأعراس، وانتشار الصور بين الرجال والنساء القريبين والبعيدين.
10- ما يحدث في بعض المجتمعات والأسر من اختلاط الأقارب وعدم احتجاب المرأة عن أقارب زوجها.
11- ما يحدث في بعض برامج القنوات الفضائية والإذاعة من اللقاءات مع الفنانين واللاعبين وتلقي اتصالات المعجبين والمعجبات التي لا تخلو من الخضوع بالقول والميوعة.
12- قيام بعض الأسر بإرسال أبنائها وبناتها بمفردهم إلى بلاد الكفر والفساد بدعوى الدراسة، وأعظم من هذا ما يعرف بنظام المعيشة في أسرة كافرة بدعوى تعلم اللغة.
13- انتشار الألبسة الفاضحة في أوساط النساء؛ كالألبسة العارية والبنطلونات التي تصف جسد المرأة، حتى العباءة وغطاء الرأس لم يسلما من الحملة الشرسة على لباس المرأة المسلمة وحشمتها وعفافها.
وإن تعجب من امرأة تمشي أمام الناس بهذه الملابس أو العباءة الفاتنة؛ فالعجب كله من رجل يمشي بجوارها لا يحرك ساكناً ولا ينكر منكراً، وإذا نوصح أزبد وأرعد واتهم الناصح الغيور بالتدخل في شئونه الخاصة؛ والله المستعان.
هل نحن في شك في وجوب الحجاب وأن الرجل مسؤول عن أهله في الحجاب؟.
هل ننتظر من الرئيس الفرنسي أو غيره أن يعلمنا ما هو الحجاب؟
حينما لا يكتفي ساركوزي بإلغاء الحجاب في المدارس في دولة تزعم أنها ديموقراطية، بل يتعداه إلى السخرية من الحجاب، ويفتي أن النقاب ليس رمزاً دينياً، بل هو رمز لإذلال المرأة، وأن البرقع غير مرحّب به في فرنسا، ولا يمكن أن نقبل في بلادنا نساء سجينات خلف سياج، ومعزولات عن الحياة الاجتماعية ومحرومات من الكرامة، فهذا الرجل يسفر عن وجه قبيح وكلام ساقط لم يراع فيه شعور أمة المليار، وهو يعلم أن الملايين من المسلمات السعوديات والخليجيات والعربيات وغير العربيات يلبسن النقاب أو البرقع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر البرقع والنقاب للمرأة في غير الإحرام بالحج أو العمرة. بعيداً عن الخلاف في النقاب وكشف الوجه، وهو أمر سائغ بيننا نحن المسلمين، وما دام هذا الرجل قد تجرأ على ديننا وحجاب نسائنا - فإننا نقول: إن النساء المتنقبات في بلادنا من السعوديات أو غيرهن، بل وجميع المسلمات المتنقبات وغير المتنقبات أشرف من رجل وقح ديوث مهين، لم يشم رائحة الكرامة ولا الغيرة..
إن المرأة المسلمة الطاهرة أطهر من عارضة أزياء عاهرة، ولكن كما قيل: رمتني بدائها وانسلت.. لقد صدق هذا المجرم حينما اعتبر النقاب والحجاب علامة استعباد، وما علم أن الاستعباد لرب العالمين عز وشرف.. عجباً لزمن أصبح فيه الحجاب والعفة ذلاً وإهانةً للمرأة، بينما التعري والانحلال شرف وحضارة.
ثم أقول: ليس هذا الفعل بغريب على عدو الله الذي وقف مع المحتل اليهودي في حصار ومحرقة غزة، بل احتفل معهم في يوم انتهاء المحرقة على دماء ولحوم أطفال غزة.. وليس بغريب أن يضيق على المسلمات في فرنسا في ظل الانتشار الشديد للإسلام وازدياد عدد المساجد على الكنائس في بعض الأماكن -كما ذكرت لكم في الأسبوع الماضي-، ونحن ندعو الله تعالى أن يعامل هذا الرجل بما يستحق، والمنتظر من الدول والمنظمات الإسلامية استنكار هذا الأمر ومناصرة قضية المرأة المسلمة في فرنسا وحقها الديموقراطي في الحجاب.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
أسباب ضعف الغيرة:
وبعد هذه المظاهر، يبقى السؤال: لماذا ضعفت الغيرة في القلوب، ما أسباب ضعف الغيرة؟
1- ضعف الإيمان: وبقدر إيمان العبد تكون غيرته.
2- الغزو الفكري بوسائله المتعددة: حينما غسلت أدمغة بعض المسلمين، ورأوا أن لاحضارة ولا تقدم إلا بنقل أنماط الحياة الغربية بغثها وسمينها إلى المجتمعات الاسلامية.
3- ضعف قوامة الرجل، والحب المفرط الذي يضعف سلطته على أهله: ففي بعض البيوت، الأمر والنهي بيد الزوجة التي لا تسأل عما تفعل، أما الزوج المحترم فالويل له إن سأل، فضلاً عن أن يأمر أو ينهى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن العزيز في قصة يوسف عليه السلام: " وذلك أن زوجها كان قليل الغيرة أو عديمها وكان يحب امرأته ويطيعها، ولهذا لما اطلع على مراودتها قال: ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) [يوسف:29] فلم يعاقبها ولم يفرق بينها وبين يوسف حتى لا تتمكن من مراودته وأمر يوسف أن لا يذكر ما جرى لأحد محبة منه لامرأته ولو كان فيه غيرة لعاقب المرأة " ا.هـ.
4- الترف والانغماس في شهوات الدنيا؛ كما وقع في قصة يوسف مع امرأة العزيز ضعيف الغيرة.
5- تحول الغيرة إلى تقاليد وعادات قابلة للتغير مع طول الأمد وتغير أحوال الناس.
6- اقتراف الفواحش: فإن أهل الفواحش من أضعف الناس غيرة، لأن الهوى يعمي القلب، كما قال تعالى: ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ) [فاطر:8] . أما أهل الغيرة فهم من أبعد الناس عن الفواحش، ولهذا قيل: " ما فجر غيور قط ".
7- تفريط المسلمين في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانتشار الفواحش والمنكرات، وتحولها إلى أمر عادي لا غضاضة فيه عند كثير من الناس، وكثرة الإمساس تذهب الإحساس، حتى إن الغيور ليعد غريباً في بعض المجتمعات.
وبهذا نعلم أن أهل الغيرة والعفة من رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورجال الأمن والشرطة وغيرهم هم صمام الأمان لأعراض المسلمين وأسرهم.. ولا عزاء للمنافقين ولا للتغريبيين أعداء العفة والفضيلة، الآمرين بالمنكر، الناهين عن المعروف، وكتاباتهم وكاريكاتيراتهم المتكررة وللأسف في الصحف تسيل قيحاً وصديداً، وتفوح غيظاً وحقداً، ومن آخرها ما اقترفته يدا رسام جريدة الرياض المدعو ربيع عندما صور يوم أمس رجلين ملتحيين بشعين، لحية أحدهما تغطي وجهه كله، وهما ينظران لرجل وامرأة وفوقهما عبارة: حالة اشتباه!.
إلى متى وصحفنا تنشر مثل هذا الكذب والوقاحة والاستهزاء الصريح البعيد عن النقد البناء، تشويه لأعمال الهيئة، ولصورة المتدين، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم في إعفاء اللحية؟ لماذا ننكر على الدنمرك التي صورت النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الصورة البشعة وحوله نساء متنقبات، وبعض كتابنا وصحفنا يسيرون في نفس الطريق.
والله العظيم لا أجد حرجاً شرعياً في الدعاء على هذا الرجل المجاهر بفسقه مراراً، وأن يشل الله يده بما افتراه على دينه والقائمين على حدوده، لكني أسأل الله تعالى أن يهديه ويكفينا شره، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ويكفينا ما تلقاه الهيئة من تأييد من عقلاء وفضلاء المجتمع أهل العفة والفضيلة، ومن ولاة الأمر وفقهم الله لكل خير، وأعانهم على كبت هذه الفتنة في الصحف.
صفحات من مواقف الغيورين:
أختم بذكر صفحات مشرقة من مواقف الغيورين، علها تحث النفوس على هذا الخلق العظيم.
ومن أكمل هذه المواقف غيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قاعد فاشتد ذلك عليه ورأيت الغضب في وجهه. فقلت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة. فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة فإنما الرضاعة من المجاعة.
جواد إذا الأيدي قبضن عن الندى *** ومن دون عورات النساء غيور
بل كان صلى الله عليه وسلم يغار على الشباب، كما روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "كان الفضل بن عباس رضي الله عنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر.. " الحديث.
ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، يقول: " فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر. فقلت: لمن هذا؟ قالوا: هذا لعمر، فذكرت غيرته فوليت مدبراً ". فبكى عمر وهو في المجلس ثم قال: "أو عليك يا رسول الله أغار"؛ رواه البخاري.
وها هو سعد بن عبادة رضي الله عنه، يقول -كما في صحيح مسلم-: يا رسول الله لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسَّه حتى آتيََ بأربعة شهداء؟ قال صلى الله عليه وسلم: " نعم ". قال: كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجلُه بالسيف قبل ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: " اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني ".
وللملوك غيرة، نقل ابن كثير عن نور الدين زنكي قال:" كان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلاً...وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية " ا.هـ.
بل نقول: وللطيور غيرة ليست في بعض الناس. يقول التوحيدي عن طائر الحجل: " وهو من أشد الطيور غيرة على أنثاه حتى إن الذكرين ربما قتل أحدهما الآخر بسبب الأنثى فمن غلب منهما دانت له " ا.هـ.
اللهم صل على محمد ..
اللهم اجعلنا من أهل الغيرة على الحرمات والأعراض، والسلامة من الآفات والأمراض.
اللهم إنا نسألك لنا ولأهلنا وشبابنا وبناتنا الهدى والتقى والعفاف والغنى.. اللهم جنبنا وإياهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي