كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبّ الحسين حبًا شديدًا، فنشأ في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا يفارقه ولا يبتعد عنه، وكان الحسين ينادي النبي -صلى الله عليه وسلم- بـ(يا أبت)، وكان أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان عابدًا يكثر الصوم والصلاة والحج والصدقة، وقد عرف عنه الشجاعة والجهاد في سبيل الله، وقد ساهم في فتح شمال إفريقيا في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان...
أيها الإخوة المؤمنون: حديثنا اليوم عن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وهو ابن بنت رسول الله فاطمة الزهراء، ولد بعد أخيه الحسن، وقال في حديث صحيح: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما".
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبّ الحسين حبًا شديدًا، فنشأ في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا يفارقه ولا يبتعد عنه، وكان الحسين ينادي النبي -صلى الله عليه وسلم- بـ(يا أبت)، وكان أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان عابدًا يكثر الصوم والصلاة والحج والصدقة، وقد عرف عنه الشجاعة والجهاد في سبيل الله، وقد ساهم في فتح شمال إفريقيا في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان، وساند أباه في حروبه في الجمل وصفين والخوارج، ولما توفي والده وقف الحسين مع أخيه الحسن يناصره ويؤازره، فلما تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية حقنًا لدماء المسلمين وجمعًا لكلمتهم قال الحسين لأخيه الحسن في أدب ووقار: "أنت أكبر ولد عليّ، وأمرنا لأمرك تبع، فافعل ما بدا لك".
وعكف الحسين بعد ذلك على طلب العلم والجهاد حتى مات معاوية بعد أن أخذ البيعة لابنه يزيد مخالفًا بذلك إحدى شروط الصّلح مع أخيه، وهو أن يترك أمر الخلافة من بعده شورى بين المسلمين، عندها لم يسكت الحسين، وبايعه كثير من الناس، وطلبوا منه أن يكون خليفتهم، فخرج من المدينة إلى مكة ولم يكن على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساويه في الفضل والمنزلة.
أيها المسلمون: بلغ أهل العراق أن الحسين لم يبايع يزيد بن معاوية، فأرسلوا إليه الرسل والكتب يدعونه فيها إلى البيعة؛ لأنهم لا يريدون يزيد ولا أباه ولا عثمان ولا عمر ولا أبا بكر، إنهم لا يريدون إلا عليًا وأولاده، عند ذلك أرسل الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل ليتقصّى الأمور، فلما وصل إلى الكوفة تيقّن أن الناس يريدون الحسين، فبايعه الناس على بيعة الحسين، فلما بلغ الأمر يزيد بن معاوية أرسل إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة أن يمنع أهل الكوفة من الخروج عليه بمبايعة الحسين، فقام عبيد الله خطيبًا في الناس الذين كانوا مع مسلم بن عقيل وهم أكثر من أربعة آلاف رجل، وخوفهم بجيش الشام، ورعبهم، وقام معه بعض أمراء القبائل في تخذيل الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك، فجعلت المرأة تجيء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت والناس يكفونك كأنك غدًا بجنود الشام وقد أقبلت فماذا تصنع معهم؟! فتخاذل الناس حتى لم يبق مع مسلم إلا خمسمائة، ثم تناقصوا حتى بقي معه مائتان، ثم تناقصوا حتى لم يبق معه إلا ثلاثون رجلاً، فصلى بهم المغرب ثم انصرفوا عنه فلم يبق معه أحد، فذهب على وجهه ولا يدري أين يذهب، فاختبأ في خيمة فعلموا بمكانه، فأرسل ابن زياد سبعين فارسًا وأحاطوا به، فقام إليهم بالسيف فأخرجهم ثلاث مرات، ثم جعلوا يرمونه بالحجارة، فأعطاه أحدهم الأمان فأمكنه من يده وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها وسلبوا منه سيفه، فالتفت إلى رجل يسمى محمد بن الأشعث فقال له: إن الحسين خرج اليوم إليكم، فابعث إليه على لساني هذه الرسالة: ارجع بأهلك ولا يغرنّك أهل الكوفة؛ فإن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لكاذب رأي.
ففعل ذلك ابن الأشعث، لكن الحسين لم يصدّق، ثم بعد ذلك أتوا بمسلم بن عقيل، فأدخل على ابن زياد، فأمر بأن تضرب عنقه، فأصعد إلى أعلى القصر وهو يُكبّر ويهلّل ويسبّح ويستغفر، فقام رجل فضرب عنقه وألقى برأسه إلى أسفل القصر وأَتْبَع رأسه بجسده.
أما الحسين فقد خرج من مكة قاصدًا أرض العراق، ولم يعلم بمقتل ابن عمه مسلم، وقبل خروجه استشار ابن عباس فقال له: لولا أن يزْري بي وبك الناس لشبثتُ يدي في رأسك فلم أتركك تذهب، فقال الحسين: لأن أقتل في مكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن أقتل بمكة. وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- بمكة، فبلغه أن الحسين قد توجّه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ثلاث ليالٍ فقال له: أين تريد؟! قال: العراق، قال ابن عمر: لا تأتيهم، فأبى فقال له: إني محدّثك حديثًا: إن جبريل -عليه السلام- أتى إلى النبي فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا، وإنك بضعة من رسول الله، والله ما يليها أحد منكم أبدًا، وما صرفها الله عنكم إلاّ للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر -رضي الله عنهما- وبكى وقال: أستودِعك الله من قتيل. وقد حاول كثير من الصحابة منعه كابن الزبير وأبي سعيد الخدري وأخيه محمد بن الحنفية، فلم يأبه لذلك.
وفي الطريق قابل الحسين الفرزدق الشاعر المعروف، فسأله: كيف تركت الناس في العراق؟! قال: تركتهم قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية. وفي الطريق جاء خبر مقتل مسلم بن عقيل، فهَمَّ الحسين بالرجوع، فامتنع أبناء مسلم وقالوا: لا ترجع حتى نأخذ بثأر أبينا، فنزل الحسين -رضي الله عنه- على رأيهم.
وكان عبيد الله بن زياد قد أرسل كتيبة قوامها ألف رجل بقيادة الحر بن يزيد التميمي ليمنع الحسين من القدوم إلى الكوفة، والتقى معه في منطقة القادسية، وحاول منع الحسين من التقدّم، فقال له الحسين: ابتعد عني ثكلتك أمك، فقال الحر: والله، لو قالها غيرك من العرب لاقتصصت منه ومن أمه، ولكن ماذا أقول لك وأمك سيدة نساء العالمين -رضي الله عنها-؟!
ولما تقدم الحسين إلى كربلاء وصل بقية جيش عبيد الله بن زياد ليصبح العدد خمسة آلاف رجل، فقال الحسين: ما هذا المكان؟! فقالوا له: إنها كربلاء، فقال: كربٌ وبلاء! ولما رأى هذا الجيش العظيم علم أن لا طاقة له بهم، فقال لهم: إنيَّ أُخيّركم بين أمرين: إما تدعوني أرجع أو تتركوني أذهب إلى يزيد في الشام، فقال له قائد الجيش عمر بن سعد: أرسل أنت إلى يزيد وأرسل أنا إلى عبيد الله بن زياد، فلم يرسل الحسين إلى يزيد، وأرسل عمر بن سعد إلى عبيد الله برغبة الحسين، فأبى إلا أن يأتي به أسيرًا، فرفض الحسين الأسر، فقال قائد الجيش: فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال الحسين: أفبِالموت تخوّفني؟!
سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى حقًا وجاهد مسلمًا
فكان القتال بين ثلاثة وسبعين مقاتلاً مقابل خمسة آلاف مقاتل مدجّج بالسلاح، ولا شكّ أن المعركة غير متكافئة من حيث العدد والعدة، عندها تزاحف الفريقان بعد صلاة العصر والحسين جالس أمام خيمته محتبيًا بسيفه، ونعس فخفق برأسه، وسمعت أخته الضجّة فأيقظته، فرجع برأسه كما هو وقال: إني رأيت رسول الله في المنام فقال لي: "إنك تروح إلينا"، فتقدم عشرون فارسًا من جيش ابن زياد، فقالوا لهم: جاء أمر الأمير أن تأتوا على حكمه أو نقاتلكم، فقال الحسين: ارجعوا لننظر أمرنا الليلة، وبات الحسين وأصحابه طوال ليلهم يصلون ويستغفرون ويتضرّعون وخيول حرس عدوهم تدور من ورائهم، فلما أذَّنَ الصبح صلى -رضي الله عنه- بأصحابه صلاة الفجر، وخطب أصحابه فحمد الله وأثنى عليه، وقال لأصحابه: من أحب أن ينصرف إلى أهله فقد أذنت له؛ فإن القوم إنما يريدونني، فاذهبوا حتى يأذن الله -عز وجل-، فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه: لا بقاء لنا بعدك، ولا أرانا الله فيك ما نكره، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.
عند ذلك أعطى الحسين رايته لأخيه العباس، وجعلوا الخيام التي فيها النساء والذرية وراء ظهورهم، وخرج الحسين لهم بعد أن تطيّب واغتسل، وأقبلوا يزحفون نحوه، فترامى الناس بالنبل، وكثرت المبارزة يومئذ بين الفريقين، والنصر في ذلك لأصحاب الحسين لقوة بأسهم وإنهم مستميتون لا عاصم لهم بعد الله إلا سيوفهم، فأرسل أصحاب ابن زياد يطلبون المدد، فبعث إليهم خمسمائة رجل، واستمر القتال حتى وقت صلاة الظهر، فصلى الحسين بأصحابه الظهر صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعدها قتالاً شديدًا، فتكاثر القوم حتى وصلوا إلى الحسين، فلما رأى أصحابه ذلك تنافسوا أن يقتلوا بين يديه، فقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل، واستمر القتال فيهم حتى قتل إخوانه عبد الله والعباس وجعفر ومحمد، حتى لم يبق إلا الحسين وحده وكان كالأسد يضرب بسيفه يمينًا وشمالاً، ويجندل من الرجال وهو ثابت مكانه لا يتزحزح، ولكنها الكثرة، وكل واحد من جيش الكوفة يتمنى لو غيره يقتل الحسين هيبةً من مكانته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى قام رجل خبيث يقال له: شمر بن ذي الجوشن، فرمى الحسين برمحه فأسقطه أرضًا، فقتلوه شهيدًا سعيدًا، واجتزّوا رأسه، وذهب به إلى ابن زياد.
نفعني الله وإياكم بكتابه...
الحمد لله يعز من أطاعه ويُذل من عصاه ليعودوا إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا برفع علم التوحيد ظاهرًا وباطنًا وأمرنا بموالاة من ولاه ومعاداة من عاداه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ومجتباه، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله ومن اتبع هداه.
أما بعد:
أيها الإخوة: فلنا مع قصة الحسين -عليه السلام- عدة وقفات:
أولاً: إن ما حصل بين الصحابة من المعارك والحروب إنما هي فتنة ابتلى الله بها هذه الأمة، وإن من منهج أهل السنة والجماعة هو الإمساك عما شجر بينهم، (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما وصفهم الله به في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
ثانيًا: إن كل مسلم ينبغي أن يُحزنه مقتل الحسين -عليه السلام-، بل حتى غير الحسين من المسلمين، فكيف إذا كان من أهل الفضل والمكانة والقرابة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! ولا يجوز إقامة المآتم في يوم مقتله أو لطم الخدود، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". رواه البخاري.
وشق الجيوب والثياب هو كما تفعل الرافضة في يوم عاشوراء، والعجيب من أمر الرافضة أن أباه علي بن أبي طالب كان أفضل منه بنص الحديث، وقتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر، ولم يتخذوا يوم مقتله مأتمًا، وكذلك عثمان بن عفان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتمًا، وكذلك الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أفضل من عثمان وعلي، وقتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتمًا كما يفعل هؤلاء الجهلة من الروافض في يوم مصرع الحسين، وقد قال ابن رجب -رحمه الله-: "وأما اتخاذه مأتمًا كما تفعل الروافض فهو من عمل من ضلّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتمًا، فكيف بمن هم دونهم؟! وقتل الحسين ليس هو بأعظم من قتل الأنبياء، فقد قدّم رأس النبي يحيى -عليه السلام- مهرًا لبغي، وقتل زكريا وكثير من الأنبياء، قال تعالى: (قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
واعلموا أن الله صلى وسلم على نبيه قديمًا، فقال تعالى ولم يزل قائلا عليمًا وآمرًا حكيمًا تنبيهًا لكم وتعليمًا وتشريفًا لقدر نبيه وتعظيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي