الله المستعان! على نظرات ليست في الأعقاب! ولا في الرؤوس! ولا في العيون! على نظرات تستحي من النظرات! على نظرات ملئت حسراتٍ وأنات وانتهاكات! على نظرات تعبث بالأعراض! وتستلذ الفتك بالسوءات! فإلى الله المشتكى!. كم نظرة منعت من توفيق؟! كم نظرة منعت من خير؟! كم نظرة جرت إلى معصية؟! كم نظرة جرت كبيرة؟! بل كم نظرة جرت إلى كفر بالله؟!. هذه النظرات أردت ذلك المجاهد في سبيل الله! حتى كفر بالله!. هذه النظرات أردت ذلك المؤذن العابد! حين صَعِدَ المنارة يوما لـ...
الحمد لله السميع البصير، الودود الغفور، الصبور الشكور: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)[غافر: 19].
مؤمنٍ محسنٍ عفو غفور *** للأذى والجحود والافتئاتِ
خالقٍ رازقٍ سميع مجيب *** ويداه تفيض بالأعطيات
مستوٍ فوق عرشه في علوٍ *** وقريبٍ بجُوده للعفاةِ
ليس شيء كمثله فهو ربٌ *** من يضاهيه في صفات وذاتِ
إنه الواحد الذي لا يُضاهى *** في معاني أسمائه والصفاتِ
إنه الله سلوة وضياء *** في سماء العُباد والعابداتِ
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحت له السماوات والأرض ومن فيهن: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44] إن الله عليم بما يفعلون.
وأشهد أن محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله ، قد تمم الله به مكارم الأخلاق، حتى غدى بنوره الإظلامُ في إشراق، وفي هداه أصبح الشتاتُ في تلاق، صلى عليه الله ما سهر الدجى، وما لاح في الآفاق من هديه الفجر، وصلى الله على آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحج: 1-2].
مذبوح بلا سكين! مرمي بلا سهم! مقتول بلا سيف! موخوز بلا رمح! مطعون بلا خنجر! مشنوق بلا حبل!.
آهاته في صدره بادية! ولوعاته عاتية!.
أرأيتم لو أخبرتكم: أن رجلا نوديَ عليه: يا فلان، خذ هذا السيف واقتل نفسك! فقتل نفسه! أكنتم مصدقيّْ؟!
إنها وقائعٌ لم يسلم منها يوم! بل لم تسلم منها لحظة!.
مذبوح بلا سكين! ما أكثر هؤلاء الذين يعرضون أنفسهم كل يوم على ساحات الإعدام!.
ما أكثر نفرا يمشون على درب شائك بلا أخفافِ رحمة.
ما أكثر نفرا يتقحمون أثباج المحيطات بلا مجاديف نجاة!.
روى ابن كثير في البداية: قال: قال ابن عبد الرحيم: خرجنا في سرية إلى أرض الروم فصحبنا شابا لم يكن فينا أقرأَ للقرآن منه، ولا أفقهَ ولا أفرضَ، كان صائما للنهار، قائما لليل، فمررنا بحصن فمال عنه العسكر، ثم نزل الشاب بقرب حصن من الحصون، فظننا أنه قد ذهب يقضي حاجته، لكنه وبينا هو في الطريق إذ نظر إلى امرأة من النصارى تنظر من وراء الحصون، فعشقها وتعلق بها، ثم قال لها بالرومية: كيف السبيل إليك؟ قالت: لا سبيل إلا بدخولك النصرانية! فإذا تنصرت فُتح لك الباب ثم أكون بانتظارك!.
فتنصر الشاب، ثم طرق الحصن فأُدخل!.
قال ابن عبد الرحيم: فقضينا غزاتنا في أشدِّ ما يكون من الغمِّ، حَزَنا كيف لم نحزن وهذي خطاه قد تنكبت السبيل، كأن كل رجل منا يرى أن ذلك هو ولده من صلبه!.
ثم يقول ابن عبد الرحيم: رجعنا من السرية ونحن لم يكن لنا ذكر إلا ذلك الشاب! وكيف أنه زاغ بعدما اهتدى! وضل بعدما رشد! أصابنا هم شديد! وجَهْد عتي؟!.
كيف لشاب كان أعلمَنا وأرشدَنا وأفقهَنا أن يَضِل! وقد ناديناه من وراء الحصون: "يا فلان اتق الله وارجع!".
اتق الله وارجع لكنه كان منتشيا في غيه، ثم عدنا في سريةٍ أخرى بعد زمان طويل على هذه الغزاة؛ فمررنا من فوق الحصن مع النصارى، فبينا نحن نمر من ذلك الحصن، إلا وقد اعترضنا ذلك الشاب، وهو يطل علينا من إحدى نوافذ ذلك الحصن!.
فقلنا: يا فلان ما فعلت قراءتك؟ ما فعل قيامك؟ ما فعلت صلواتك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعلت آيات ربك في قلبك؟!
قال: "اعلموا أني نسيت القرآن كله! ما أذكر منه إلا هذه الآية: (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الحجر: 2-3].
ما أقسى الذبحَ بلا سكين! والموتَ بلا مقابل! والطعنَ بالتدرج؟!
أوَّاه من دين يذهب من أثر نظرة! وثبات يدفن من خطرة؟!
نظرة! فابتسامة فسلام *** فكلام فطعنة نجلاء!
فدماء الأعراض تسفح هدرا *** ثم عار تمور منه السماء!
نظراتٌ في إثرها نظراتٌ *** ودواء يطول منه الداء!
نظرات كأنها وخزات *** برماح وليس ثمَّ دماءُ!
حديثنا عن بريد الزنا! وقرين الفواحش! وأحبولة الشيطان! وخطى المهالك!
عن النظرات السود تهلك صاحبا *** لها من شظاياها هزيم وإرعاد!
يدعونه بالأمر الهين، وما هو بهين! إن هو إلا الهلاكُ في صورة شراك! سهم مسموم من سهام إبليس! داء من أدواء العصر!.
أستطيع القول: أنه من أكثر الذنوب التي عصي اللهُ بها في الزمن الحاضر! إنه النظر الحرام!.
أصبح يسرُ النظرة المحرمة، أقربَ إلى أحدنا من التفاتة عنقه!.
على أمر استسهله الناس حتى *** صار مثلَ الذباب الذي يُهشُّ من الجبين!
يهدم الاستقامة! ويكسر مناعة الثبات!.
أيسرُ ذنوب الخلوات! ولكنه أشدُّها فتكا لمحارم الله! وأطولُها أثرا في قلب صاحبها!.
يدخل الشاب غرفته! وتدخل الفتاة حجرتها! فما هو إلا أن يُقفل البابُ حتى تتهيأَ خطواتُ الشيطان! ثم إذا خلوا انتهكوا!.
كم يعذِّب قلوبنا! ونحن نرى النظرة المحرمة! يقام سوقُها في كل مكان؟!
هذه النظرات الحرام تتزين في كل مقام! من لم يقدم خوف الله في قلبه! ويجعلْ بينه وبين النظرات الحرام حزاماً من أمان! فلا أمان، لا أمان، لا أمان إلا بلطف من المنان.
من نجا من النظرة الحرام في ساقط الأفلام! فلن ينجو منها في الصحف! ومن نجا في الصحف! فلن ينجو منها في الشوارع مع الغلمان! ومن نجا في الشوارع فلن ينجو منها حتى في المسجد! ومن نجا في المسجد فلن ينجو منها في أحدث التقنيات التي تزف الحرام بأحدث المشاهدات! والمقاطع الخليعة! والمعصوم من عصم الله!.
لقد فتحت هذه الأجهزةُ كلَّ الأقفال! وذللت كلَّ صَعْبٍ شَمُوس! فما بينك وبين أن تعصي الله إلا إشارةَ إصبع!.
فيا لله!
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها *** فتك السهام بلا قوس ولا وتر
يسر مقلته ما ضر مهجته *** لا مرحبا بسرور عاد بالنار
يمشي أحد السلف الأوائل في إحدى الطرقات، ثم يصادف امرأة في طريقه، ثم يقول: "فما هو إلا أن نظرت إلى أعقابها، ثم كررت ذلك حتى نسيت القرآن بعد أربعين سنة!".
الله المستعان! على نظرات ليست في الأعقاب! ولا في الرؤوس! ولا في العيون! على نظرات تستحي من النظرات! على نظرات ملئت حسراتٍ وأنات وانتهاكات! على نظرات تعبث بالأعراض! وتستلذ الفتك بالسوءات! فإلى الله المشتكى!.
كم نظرة منعت من توفيق؟! كم نظرة منعت من خير؟! كم نظرة جرت إلى معصية؟! كم نظرة جرت كبيرة؟! بل كم نظرة جرت إلى كفر بالله؟!.
هذه النظرات أردت ذلك المجاهد في سبيل الله! حتى كفر بالله!.
هذه النظرات أردت ذلك المؤذن العابد! حين صَعِدَ المنارة يوما لينادي بالأذان فاطلع على امرأة ففتنته! ثم سئل عن مهرها ليتزوجها! فأجابته قائلة: إن مهري أن تتركَ الأذان! وتدخل النصرانية! فأجاب داعي الكفر بالنظرات!.
يا نظرة من شقي ما أراد بها *** إلا ليبلغ فيها الكفر والندما!
يا نظرة أردت التاريخ من سلف *** وكان قبل يسمى الطاهر العلما!
فسقط من سلم له! ثم خر صريعا! (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحـج: 11].
أو ذلك الشقي حين نظر إلى غلام حسن ثم كرر النظرة! ثم كرر النظرة! ثم كررها! ليتعلق به! ثم أراد اللقاء، فامتنع الغلام عنه! ثم مرض هذا الشقي! وتعب تعبا شديدا! ومع زفراته الأخيرة أطلق معها كفريته الأخيرةَ، قائلا:
أسلم يا راحة العليل *** ويا شفاء المدنف النحيل!
رضاك أشهى إلى فؤادي *** من رحمة الخالق الجليل!
عيناك أردتا وقلبك قد *** أجاب منادي الحسرات!
كل الحوادث مبداها من النظر!.
نظرة ثم نظرة، ثم نظرة، ثم كفر بالله! ومن ذا الذي يعصمنا من الله إن أراد بنا سوءا!.
نظرة ثم خطرة، ثم خُطوة، ثم خطية، أو كما يروى عن عيسى -عليه السلام- أنه قال: "إياكم والنظرة فإنها تورث في القلب حسرة!".
أو كما قال الإمام أحمد: "كم نظرة ألقت في صاحبها البلابل!".
يا لله! ما أهون استهانتنا بالنظرات؟! وما أشد مآلها وعذابها في النفوس؟!
يا لله! ما أعظم نعمى قوبلت بكفران؟!
يا لله! ما أعظم عطاء الله: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ) [البلد: 8].
وما أقسى وفائنا بالنظر لما حرم؟!: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) [الملك: 23].
كان نهي الله -عز وجل- عن قربان الزنا حاسما بحرمة النظر، وأي قربان للزنا بدون نظر إلى ما حرم! (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) [الإسراء: 32].
ولما كان النظر المحرم مقدَّمة الزنا، قال الله: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النــور: 30].
نستهين بالنظرات، وكم حرمان في الحياة لأجل نظرة؟!.
نستهين بالنظرات، وكم حرمان من قيامٍ للصلاة تسببته نظرة؟!.
كم جرت ذنوبنا أخواتِها بسبب نظرة؟!
كم قعدنا عن الخير! وحُرمنا من توفيق بسبب نظرة؟!
كم نظرة منعت من لذائذ طاعة! ومحت من حلاوة إيمان؟!
كم حرمنا من توبة نصوح بسبب نظرة؟!
يقول أبو بكرٍ المروزي: "قلت لأبي عبدالله أحمدَ بنِ حنبل -رحمه الله-: "رجلٌ تاب، وقال: لو ضرب ظهري بالسياط ما دخلت في معصية الله إلا أنه لا يدع النظر؟ فقال: "أيُّ توبةٍ هذه؟!".
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا *** أنت القتيل بما تَرْمِي فلا تصب!
وباعثَ الطرف يرتاد الشفاء له *** توقَّه إنه يأتيك بالعطب!
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "فوا عجبا والله لخراب هذه القلوب، وغفلتها عن علام الغيوب، قلوب اشتغلت بحب النساء والمردان، واعرضت عن محبة الرحيم الرحمن، وما ذاك إلا لأنها شحنت بالشهوات، وأظلمت من أكل الحرام والشبهات، فصارت لا ترى المنكر قبيحاً، ولا المعروف مليحاً! اللهم أصلح فسادها، وقوم بناءها، وجرها إليك بسلاسل الإقبال! وأشغلها بالصالح من الأعمال".
أقول ما قلت، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
يحذر ابن الجوزي -رحمه الله- فيقول: "احذر -يا أخي وفقك الله - من شر النظر، فكم قد أهلك من عابد؟ وفسخ عزم زاهد؟ فاتعظ بذلك فإن النظرة إذا كثرت في القلب، فإن عجّل الحازم بغضها، وحسْم المادة من أولها، سهل علاجه، وإن كرر النظر نقب عن محاسن الصورة، ونقلها إلى قلب متفرغ فنقشها فيه، فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة، فلا تزال تنَمَّى، فيفسد ،القلب ويُعْرِض عن التفكر فيما أُمِرَ به، ويخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات، ويلقيه في التلف، والسبب في هذا الهلاك أن الناظر أول نظرة التذّ بها، فكررها، يطلب الالتذاذ بها، مستهينًا بذلك، فأعقبه ما استهان به التلف، ولو أنه غض عند أول نظرة لَسَلِمَ باقي عمره".
"ألا إن زنا العين النظر، ألا إن زنا العين النظر" "فالعين تزني وزناها النظر!".
يقول الغزالي: "وزنا العين من كبار الصغائر التي تؤدي إلى الفاحشة الكبيرة، وهي زنا الفرج".
"يا علي بن أبي طالب لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة".
ما أحوج الشبابَ والفتياتِ إلى شعار يوسف -عليه السلام-؟!
يتكرر المشهد علينا، ونحن أمام الشاشات، وأمام المواقع، وأمام الصفحات الالكترونية! وأمام المقاطع المتحركة، وأمام ما تبثه التقنيات!.
ما أحوج الشباب، حين تغلق الأبواب، وتذهل الألباب، وتقول النفوس لصاحبها: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23] وتندفع الشهوة، ويغيب الرقيب، ويتهيأُ داعي الفحشاء، وتنادي الشياطين: (هَيْتَ لَكَ)!.
ما أحوج الشباب أن يعصف في وجوه العواصف الشهواتية، قائلا: (مَعَاذَ اللّهِ) [يوسف: 23].
معاذ الله! إن الله يبصرنا.
معاذ الله! إن الله ينظر في سرائرنا!.
معاذ الله! إن الله ينظر ما تخفي ضمائرُنا!
معاذ الله!
معاذ الله أن نخفى عليه! إذا دعا داعي الغرام، إذا دعا داعي الفجور! إذا دعا داعي الحرام!.
معاذ الله! إن الله لا تخفى عليه خفية النجوى!.
تتكرر المشاهد الخلواتية، ولكن أين المستعيذون بربها؟!
أين الذين إذا دعا داعي الحرام أشاحوا *** وقالوا: معاذ الله من درب مشينِ؟!
إذا طرقتك طارقة اشتهاء، والقلب لج به العناء، وتنادت النبضات في قلب الشقاء، فنادي في الظلمات: معاذ الله! إن الله يبصرنا!.
معاذ الله! إن الله ينظر ما تخفي ضمائرُنا!.
إذا نادتك ظلمة ليلك الأسود، وصار القلب من أثر الشقا جلمد، وجمر اللوعة الحمراء موقد، فنادي: معاذ الله! إن الله يبصر ما أخفت سرائرنا!.
إذا كنت وحدك وخلوت بريبة في ظلمة، والنفس داعية إلى العصيان، فاهتف: معاذ الله، ثم ازأر، وقل: "إن الذي خلق الظلام يراني!".
أيكون جزاء هذه النعمة هو الكفر بها؟!
إن الله يقول: "إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -يعني: عينيه- فصبر عوضتُه منهما الجنة".
والله لأن يفتن المرء بفقد حبيبتيه، أهونُ من أن يلقى الله عاصيا بهما؟!
يقول الأوزاعي -رحمه الله-: "كان رجل مع أبي موسى الأشعري -رضي الله تعال عنه- في إحدى الطرقات، فمرت جارية من الجواري في الطريق، ثم كشفت وجهها، فنظر إليها هذا الرجل، فرفع يده فلطم عينه حتى انطفأت، ثم قال لعينه: إنكِ لَلَحَاظَّة إلى ما يضرك ولا ينفعك، فلقي بعد ذلك أبا موسى فسأله، فقال أبو موسى: ظلمت عينك فاستغفر الله وتب؛ فإن لها أولَ نظرة عليها ما كان بعد ذلك".
فكيف بشباب هيأوا لأنفسهم الشهوات بالنظر لما حرم الله! وبصيد الغلمان! ومعاكسة النسوان! حتى وقعوا في الحرام؟!
كيف بشباب يرسلون النظرات وأخواتها! ولا تجد لهم قلبا مؤنبا! ورجوعا صادقا؟!
وعمرو بن مرة -رحمه الله- يقول: "نظرت إلى امرأة فأعجبتني، فكُفَّ بصري، فأرجو أن يكون ذلك جزائي عند الله!".
كيف بشباب استسهلوا غضب الله بالنظر! فظنوا أن رب العلانية ليس هو رب الإسرار! فانتهكوا محارم الله! ورسول الله يقول: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الجبال فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا" قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ؟ قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا!".
أيها الجيل العظيم:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تُخْفيْ عليه يغيب
"إن الله يغار!" وأنت تعصيه وتهتكُ ما حرم!.
"إن الله يغار!" وأنت تأتيه في السر ما لم تأت إعلانا!.
"إن الله يغار" عليك أن تهلكك الخطيئات بالنظرات!.
"إن الله يغار" حين تُقفل الحجرات، ثم ترسل طرفك رائدا! في أعين الغيد، لا تبقي ولا تذر!
أهان الله عليك حتى كان أهون الناظرين؟!
أيها الجيل العظيم: إن الله يغار فلا يكن الله أهون الناظرين!.
لو كنت حُرًّا من سلالة ماجدٍ*** ما كنت هتاكًا لما قد حرما!
تعسا لهاتك حرمة في ظلمة *** في نظرة غضبت لها حمم السما!
طليق برأي العين وهو أسير *** عليل على قطب الهلاك يدور!
وميت يرى في صورة الحي غاديا *** وليس له حتى النشور نشور!
أخو غمرات ضاع فيهن قلبه *** فليس له حتى الممات حضور!
أشد ما يفسد استقامة القلوب، وثبات الثابتين، هي ذنوب الخلوات! من نظرات ومشاهدات وانتهاكات!.
أيها الجيل العظيم:
ليس الشجاع الذي يحمي مطيته *** يوم النزال ونار الحرب تشتعل!
لكن فتى غض طرفا أو ثنى بصرا *** عن الحرام فذاك الفارس البطل!
"والله للذة العفة خير من لذة الذنب" هكذا قال أحد العارفين.
ولقد صدق! آهات في النظرات!.
أيها الشاب: "اصرف بصرك" دواء صرفه رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام-!.
وقد ثبت بالتجربة أنه من أنجع الأدوية!.
وأن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، فهو يورث القلب طمأنينة وسكينة، وراحة، ويحقن في القلب حقنة الإيمان.
"اصرف بصرك" عن الصور!.
"اصرف بصرك" عن نظر الغلمان والمردان والنسوان!.
فإنك:
إن أرسلت طرفك رائدا *** لقلبك يوما أتعبتك المناظر!
رأيت الذي لا كلَّه أنت قادرٌ *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر!
يا نعمى للشباب المستقيم في هذا الزمان! وللفتيات الثابتات! في هذا الزمن الذي يطوف بكل شر وخبث وافتتان!.
يا نعمى لهم وهم يقبضون على ثباتهم كما يقبضون على الجمر، وهم يعلنون التحديَ مع كل غزوة تقنية تفيض لهم بما حرم الله!.
يا نعمى لهم يا نعمى لهم: أجركم على قدر نصبكم!.
اثبتوا! أيتها الجبال الراسية، اثبتوا فالعرانين تحب الكبرياء.
اثبتوا! فالجمرة الأولى أليمة، ثم تخبو كلُّ أخبار اللهب!.
اثبتوا! أنتم سماء الطهر فينا، وتمطر منه آيات المعالي!.
اثبتوا! فإنه على عِظَم الآثام في هذا الزمان يكون عظم الأجر لمن كف نفسه عنها!.
أيها الأولياء: لا يؤتى الناس من قبل أولادكم! احفظوهم وحصنوهم عن حبائل الزينة التي يسقط في شراكها!.
عبادُ الله: هذا العالَم لا يستحق أكثر مما فيه من سوء وإغراءات شهواتية شيطانية! يدفع الولي بابنه، وربما ما أهمه أن يفتتن به عباد الله! بل يهمله! حتى يكون شراكا أو صيدا لضعفاء القلوب!.
دخل سفيان الثوري -رحمه الله- يوما فدخل عليه غلام صبيح الوجه محلى الزينة، فقال: "أخرجوه أخرجوه، فإني أرى مع كل امرأة شيطان، ومع كل غلام بضعة عشر شيطاناً".
أيتها الولية: تظنين الرجال بلا شعور؛ لأنك ربما لا تشعرينا!.
بناتك من لم تعتد على العفة والحياء في أول أمرها استسهلته بعد ذلك!.
احفظي بناتك باللباس الساتر من عهد الصغر، فرب صغيرة أغوت أنفسا أشد مما تغوي الكبيرات!.
يقول الزُّهْرِيُّ -رحمه الله- فِي النَّظَرِ إِلَى الَّتِي لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ: "لا يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً!".
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
اللهم اعصمنا من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم قنا شر أنفسنا وشر الشيطان وشَرَكَه، وأن نقترف على أنفسنا سوءا أو نجره إلى مسلم.
اللهم أعز الإسلام، وانصر المسلمين، وأذل الكفر والكافرين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح واهد ووفق ولاة أمورنا.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك وأن محمدا عبدك ورسولك نسألك ربنا أن تغيثنا.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، غيثا هنيئا مريئا مريعاً، سحاً غدقاً طبقاً مجللاً نافعاً غيرَ ضار، عاجلاً غيرَ آجل، تسقي به العباد والبلاد.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا.
اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم انصرهم بنصرك، اللهم فرج هم المؤمنين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي