جهد البلاء ودرك الشقاء

منديل بن محمد آل قناعي الفقيه
عناصر الخطبة
  1. الاكثار من الاستعاذة بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء .
  2. المقصود بجهد البلاء والأمثلة على ذلك .
  3. المقصود بدرك الشقاء .
  4. المقصود بسوء القضاء .
  5. الاستعاذة من سوء القضاء هل يخالف الأمر بالرضا بالقضاء؟ .
  6. المقصود بشماتة الأعداء .
  7. خطر شماتة الأعداء .
  8. الشماتة بالآخرين من مساوئ الأخلاق .

اقتباس

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثر من هذا الدعاء، ويأمر به مما يدلّ على شدّة أهمّيته، والعناية به، لما احتواه من عظيم الاستعاذات، وشمولها في أهمّ المهمّات، في أمور الدين والدنيا والآخرة. فاعتنوا بهذا الدعاء العظيم في ليلكم ونهاركم، وفي سفرك وحضركم، ففيه الخير في الدنيا والآخرة، وحتى تكونوا في حفظ اللَّه وعصمته من...

الخطبة الأولى:

أيها المسلمون: روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جَهْدِ الْبَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ".

إن هذا الدعاء الجليل من جوامع الكلم التي أوتيها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جمع الاستعاذة من جميع الشرور في الدين والدنيا.

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثر من هذا الدعاء، ويأمر به مما يدلّ على شدّة أهمّيته، والعناية به، لما احتواه من عظيم الاستعاذات، وشمولها في أهمّ المهمّات، في أمور الدين والدنيا والآخرة.

فاعتنوا بهذا الدعاء العظيم في ليلكم ونهاركم، وفي سفرك وحضركم، ففيه الخير في الدنيا والآخرة، وحتى تكونوا في حفظ اللَّه وعصمته من جميع شرور الدنيا والآخرة، قال ابن القيم: "إن أعدى عدو للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديق له عقله، والملك الناصح له، فإذا اتبع هواه أعطي بيده لعدوه، واستأسر له، وأشمته به، وساء صديقه ووليه، وهذا هو بعينه هو جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء".

فأول هذه الأمور الأربعة: الاستعاذة بالله من شدّة البلاء ومشقّته، والذي لا طاقة للعبد بحمله، ولا قدرة له على دفعه، سواء كان هذا البلاء جسدياً؛ كالأمراض وغيرها، أو كان بلاء معنوياً؛ كأن يُسلِّط على الشخص من يؤذيه بالسبّ والشتم، والغيبة والنميمة والبهتان، وغير ذلك.

فهذه استعاذة من جميع الابتلاءات بشتى أنواعها وأشكالها.

وجهد البلاء: هو كل ما أصاب المرءَ من شدة ومشقة، وما لا طاقةَ له به، وهو ما يسوء الإنسان من البلايا والمحن التي تنزل به، فكل ما أصاب الإنسان من شدّة المشقّة والجهد مما لا طاقة له بحمله، ولا يقدر على دفعه عن نفسه، فهو من جهد البلاء؛ روي عن ابن عمر: أنه سُئل عن جهد البلاء، فقال: "قله المال، وكثرة العيال".

ويدخل في جهد البلاء: المصائب والفتن التي تجعل الإنسان يتمنى الموت بسببها.

ويدخل في ذلك أيضا: الأمراض التي لا يقدر الإنسان على تحملها أو علاجها.

ويدخل في ذلك أيضا: الديون التي لا يستطيع العبد وفاءها.

ويدخل في ذلك: الأخبار المنغصة التي تملأ قلبه بالهموم والأحزان والنكد، وتشغل قلبه بما لا يُصبَر عليه.

ويدخل في ذلك أيضا: ما ذكره بعض السلف من: قِلَّةُ المالِ مع كثرة العيال.

الثاني: الاستعاذة بالله من درك الشقاء، والمراد أعوذ بك أن يدركني الشقاء ويلحقني، وأجرني من أن يلحقني مشقّة، وهلكة في دنياي، في نفسي، وأهلي ومالي، وفي آخرتي من عقوبة وعذاب بما اقترفته بسبب الذنوب والآثام.

فهو اسم من الإدراك لما يلحق الإنسان من تبعة، والشقاء بمعنى الشقاوة.

قال ابن حجر: "هو الهلاك" وقيل: هو أحد درجات جهنم، ومعناه من موضع أهل الشقاوة، وهي جهنم، وقيل غير ذلك.

والشقاء ضد السعادة.

وهو دنيوي وأخروي، أما الدنيوي، فهو انشغال القلب والبدن بالمعاصي، واللهث وراء الدنيا والملهيات وعدم التوفيق.

وأما الأخروي، فهو أن يكون المرء من أهل النار -والعياذ بالله-، فإذا استعذت بالله من درك الشقاء، فأنت بهذه الاستعاذة تطلب من الله ضده، ألا وهو السعادة في الدنيا والآخرة.

الثالث: الاستعاذة بالله من سوء القضاء، وهو أن يستعيذ العبد بالله من القضاء الذي يسوءه ويحزنه، ولكن إن أصابه شيء مما يسوء ويحزن، فلا يتعرض للبلاء الذي يوقعه في المعاصي والشرور، ولا يتعرض للأشياء التي تشمت به الأعداء، ولا يتعرض أيضاً لشيءٍ مما حرم الله عليه، فإن هذا يكون من سوء القضاء الذي ابتلي به، فإن الله -جل وعلا- يقضي الخير والشر، فالمعاصي والطاعات بقدر، فيسأل ربه أن الله يقيه شر القضاء الذي فيه المعاصي والشرور والشركيات، ونحو ذلك.

فالواجب هو الصبر مع الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره.

ويدخل في الاستعاذة من سوء القضاء: أن يحميك الله من اتخاذ القرارات والأقضية الخاطئة التي تضرك في أمر دينك ودنياك، فإن من الناس من لا يوفق في اتخاذ القرار المناسب، وقد يجور في الحكم، أو الوصية، أو في العدل بين أولاده، أو زوجاته، أو رعيته، أو من تحت مسؤوليته إذا كان وزيرا، أو رئيسا، أو مديرا.

والاستعاذة من سوء القضاء لا يخالف الأمر بالرضا بالقضاء؛ فإن الاستعاذة منه من قضاء اللَّه -سبحانه وتعالى- وقدره، وقد شرعها لنا وجعلها سُنّة لعباده لهذا يجب أن يعلم أن القضاء باعتبار العباد ينقسم إلى قسمين: خير وشر، فشرع لهم سبحانه الدعاء بالوقاية من شره، والاستعاذة منه، فهذا في القضاء المقضي المخلوق، أما قضاء اللَّه الذي هو حكمه وفعله فكلّه خير لا شرّ فيه أبداً؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والشر ليس إليك".

لكماله جل وعلا من كل الوجوه، فلا يدخل الشرّ في صفاته، ولا في أفعاله، ولا يلحق في ذاته جل وعلا.

الرابع: الاستعاذة بالله من شماتة الأعداء، فالأعداء يفرحون بما ينزل على الشخص من مكروه وسوء ومحنة، فينجرح القلب عندها، ويحزن ويبلغ من النفس أشدّ مبلغ، وقد يؤدّي إلى العداوة والبغضاء والحقد، وقد يُفضي إلى استحلال ما حرّمه اللَّه -تعالى- من القتال والانتقام والتعدي والظلم؛ لهذا أستعيذ منه لخطورته.

والمرء في الغالب، لا يسلم ممن يعاديه، وَعَدُوُّكَ يَفْرَحُ إذا حصل لك ما يسوءُك، ويَغْتَمُّ إذا حصل لك ما يُفرِحُك، أو رأى نعمةً مُتَجَدِّدةً لك.

وقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو: "اللهم لا تشمت بي عدوا حاسدا"[رواه الحاكم من حديث ابن مسعود وابن حبان من حديث ابن عمر].

وحكى الله -عز وجل- عن موسى -عليه السلام- أنه قال: "فلا تشمت بي الأعداء، ولا تجعلني مع القوم الظالمين".

وقيل لأيوب -عليه السلام-: أي شيء من بلائك كان أشد عليك؟ قال: "شماتة الأعداء".

وقال عبد الله بن أبي عتبة: "كل المصائب قد تمر على الفتى، فتهون غير شماتة الأعداء".

فأنت -أيها المسلم- بهذه الاستعاذة تسأل الله أن لا يفرح أعداءَك وحُسَّادَك بك، وأن لا يجعلك مَحَلَّ شماتةٍ وسُخريهٍ لهم، سواء كانت عداوتهم لك دينية، أو دنيوية.

وخطر الشماتة أنها: تسخط الربَّ -تبارك وتعالى-، وتدل على انتزاع الرحمة من قلوب الشامتين، وهي تورث العداوات، وتؤدي إلى تفكك أوصال المجتمعات، ثم هي تعرض أصحابها للبلاء.

فاحرص -أيها المسلم- أن لا تكون من الشامتين، فالشماتة لا تليق بمسلم تجاه أخيه المسلم أبدًا؛ لأنها من صفات الأعداء الذين حذر الله منهم، ووصفهم بقوله: (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران: 120].

فالشماتة من مساوئ الأخلاق؛ ولأن الإنسان قد يشمِت بأخيه فلا يلبث أن يُبتَلى بمثل ما ابتلي به غيره، فقد تشمت بمريض فتُبتَلى بالمرض، وقد تشمت بفقير فَتُبْتَلَى بالفقر، بل قد تشمت بمن ابْتُلي بمعصية؛ كالزنا، أو المخدرات، فَتُبْتلى بها -والعياذ بالله-.

بل المشروع أن تسأل الله العفو والعافية، في الدنيا والآخرة، قال الفرزدق:

إذا ما الدّهر جرّ على أناسٍ *** حوادثه أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا

واعلموا -أيها المسلمون-: أن الذنوب هي من أقوى الأسباب الجالبة: "لجهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء".

فالحذر كل الحذر من الذنوب، فهي سبب لكل بلاء في الدنيا والآخرة.

وفي هذا الحديث: دليل على استحباب الاستعاذة بالله، من هذه الأمور المذكورة.

فينبغي للمسلم: أن يستعيذ بالله منها، وأن لا يحرم نفسه من المداومة عليها، لعل الله أن يستجيب له.

وينبغي: أن يعلم ذلك زوجته وأولاده، وأن يحثهم على حفظ هذا الدعاء، والمداومة عليه، فو الله لئن استجاب الله له، فإنه ذو حظ عظيم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي