هذه النعمةُ لا تحتاجُ على الصحيحِ إلى شهاداتٍ عُليا، ولا إلى مستوياتٍ اجتماعيّةٍ، أو اقتصاديّةٍ راقية، وإن كان ذلك ممّا يسنِدُ الوعيَ ويقوّيه؛ إنّما تحتاجُ في حقيقةِ الأمرِ إلى قلوبٍ حيّة، ونيّةٍ وإرادةٍ صادقة قويّة، تصنعُ في قلوبِ الزوجَين الحرارةَ والعزم والتصميم على لزومِ الفهمِ الصحيحِ، والسعيِ إلى تحقيقِ الرؤية والرسالة، وإن كانا محدودَي المستوى العلمي والاجتماعي والاقتصادي. لهذه النعمة - معشر المؤمنين- محطّاتٌ وبراهين كثيرة تدلُّ عليها في حياة الزوجين، نقفُ مع ثلاثةٍ منها، عسَى أن..
الحمد لله ربّ العالمين، نحمده سبحانه حمدًا كثيرًا طيّبًا مبارَكا فيه، ملءَ السموات وملءَ الأرضِ وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادَةَ حقٍّ وصدق، من قلبٍ مومِنٍ موقِن، ندّخِرُها ليومِ الجمعِ والتغابُن، يومَ لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتَى اللهَ بقلبٍ سليم.
وأشهد أنَّ محمّدًا عبد الله ورسوله، بلّغ الرسالة وختمَها، وأدّى الأمانةَ وأتمّها، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين وصحبِهِ الأخيار، ومن تبعَهُم على الحقّ إلى يوم الدّين وسلَّم.
ثم أما بعد:
معشر المؤمنين: لنا اليومَ وقفةٌ مع نعمةٍ عظيمةٍ متى ما وُجِدَت في أسرةٍ، فلتحمَدِ اللهَ -تعالى- على نعمةِ التوفيقِ والاصطفاءِ والبركة، ومتَى فُقِدت فيها كان ذلكَ سببًا في فواتِ فُرصٍ كثيرةٍ، ومشاريعَ جليلة، لا تُستدركُ باللوم والعتاب وليت ولو، بل بالعزمِ والتفكّر والاجتهادِ والتدبُّر، عسَى أن يُمتّعَ بها الواحدُ أولادَهُ وذرِّيّتَهُ من بعدِه؛ إنّها نعمةُ الوعي والنضج، وما أدراكَ ما الوعي والنضج؟!.
الوعيُ الذي هو: الفهمُ العميقُ، والتمييزُ الدقيقُ، والإدراكُ السليم، للأشياء والمفاهيم.
هذه النعمةُ لا تحتاجُ على الصحيحِ إلى شهاداتٍ عُليا، ولا إلى مستوياتٍ اجتماعيّةٍ، أو اقتصاديّةٍ راقية، وإن كان ذلك ممّا يسنِدُ الوعيَ ويقوّيه؛ إنّما تحتاجُ في حقيقةِ الأمرِ إلى قلوبٍ حيّة، ونيّةٍ وإرادةٍ صادقة قويّة، تصنعُ في قلوبِ الزوجَين الحرارةَ والعزم والتصميم على لزومِ الفهمِ الصحيحِ، والسعيِ إلى تحقيقِ الرؤية والرسالة، وإن كانا محدودَي المستوى العلمي والاجتماعي والاقتصادي.
لهذه النعمة - معشر المؤمنين- محطّاتٌ وبراهين كثيرة تدلُّ عليها في حياة الزوجين، نقفُ مع ثلاثةٍ منها، عسَى أن ينتفعَ بها المؤمنون، -ونسأل الله التوفيقَ إلى ما يحبُّ ويرضَى-.
أما المحطّة الأولى من محطّات الوعي في حياة الزوجين: فهي محطّةٌ استباقيّة، يرتكزُ عليها كلُّ نجاحٍ أسَري، إنّها "حُسنُ الانتقاءِ والتخيُّر في الزواج":
هذه نقطةُ الارتكازِ في مستقبلِ الوعي، وما ينتُجُ عن وجودِهِ من مشاريعِ النبوغِ والارتقاءِ والمجدِ والتميُّز، أو ما ينتُجُ عن فقدانِهِ من مخاوفِ الانحطاطِ والتراجُعِ، أو الحياةِ الميّتَةِ العاديَّةٍ في أحسن أحوالِها.
خلقَ اللهُ في الذكرِ والأنثى في كلٍّ منهما ميلاً للاقترانِ والصُّحبة، ومن أجل ذلكَ شرعَ اللهُ الزواج، غيرَ أنّ الطرفَ الناضجَ الواعي يختارُ الجهةَ التي ترتقي بمدارِكِهِ العقليّة وتسمُو بمشاريعِهِ الفكريّة الرساليّة، وهذا يحتاجُ إلى بحثٍ وتفتيش بكلِّ صبرٍ ويقين، صبرٍ على المفاهيم الصحيحة ويقينٍ بأنّها هي الحق، وصبرٍ على الشهواتِ التي تدعُو إلى الإسراعِ، ويقينٍ بأنّها زائفةٌ زائلة.
أمّا الطرفُ الذي لا ينطلقُ في زواجِهِ من النضجِ والوعي فلا يُؤمنُ بالانتقاءِ ولا بالتخيُّر؛ لأنّهم زوّجوه واختاروا له، ولا تراهُ يقترنُ إلا بما يُنعشُ العينَ ويُطرِبُ الجسدَ لا بما يقتَرِنُ بالرّوحِ والفِكرِ والوِجدانِ ومسيرة الحياة الصعبةِ الطويلة!.
ومن هنا -معشر المؤمنين- فاتَ كثيرًا من الناسِ فُرصٌ لا حصرَ لها من مشاريعِ الإبداعِ والمجد والنبوغ والتميُّز، في أنفسِهم وأولادِهم، والسرُّ أنّهم تعثَّروا وما تدبَّروا، وأبصرُوا فأسرَعوا وما تبصّروا فتفكّروا؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" [متفق عليه].
أيها الإخوةُ في الله: ومن أجملِ محطّاتِ الوعيِ في حياة الزوجين: الصبرُ على ترقيةِ الأولادِ والبناتِ في تحصيلِ العلمِ والمعرفةِ، وإتمامِ الدّراسةِ والتعليم أشدَّ من الصبرِ على حفظِ الأبدان، وتنميّة الجُثث بالطعامِ والشراب واللباس.
من رزقهُ اللهُ الوعيَ والنُّضج يعلمُ علمَ يقين أنّ أساسَ تحقيقِ الأبناءِ والبنات المجدَ والتميُّز والنبوغَ والوعيَ والنجاحَ في مستقبلِهم ومستقبلِ أولادِهم؛ إنّما هو بالعلمِ والثقافةِ والنور، ولو مع قلّةِ الخبز وبساطةِ الإمكانيّات الماديّة، يعلمُ علمَ يقينٍ أنّ حرمانَ الأبناءِ والبنات من الارتقاءِ المدرسيّ يفوّتُ عليهم كثيرًا من تلك الفُرَص!.
صاحبُ هذه الرؤيا الناضجة يستحيلُ أن يحرمَ أولادَه طلبَ العلمِ، وإتمامَ مراحِلِ الدّراسةِ، وفي نفوسِهِم شوقٌ لاستكمالِها، وتحقيقِ حُلْمِ الارتقاءِ، والنبوغِ فيها!.
صاحبُ هذه الرؤيا تجدُ أغلى شيءْ عندَهُ في البيتِ خزانةُ الكُتُب والبحوث والرسائل العلميّة، لا خزانة الدقيق والزيت، وتُحَف الأواني المنزليّة!.
وواللهِ -معشر المؤمنين- لا تجدُ والدًا ولا والدَةً يرضَى لأبنائه التوقّفَ عن طلبِ العلمِ والمعرفةِ والارتقاء الثقافي، وتقديمِ الخُبزِ والمادّةِ على ذلك إلا من نقصانِ الوعيِ وفواتِ النّضج -نسأل الله السلامة والعافية-.
هذه والدَةُ الإمام مالكٍ -رحمه الله- تُلبسُ ولدَها العمامةَ، وتدفعهُ إلى حلقاتِ العلم دفعًا، وهي تقول: "يا بني اذهب إلى مجلس ربيعة، وأحرص على أن تأخذَ من أدبِهِ قبل علمِه".
وهذه والدَةُ الإمامِ أحمد تُحمي لهُ الماءَ قبل صلاة الفجر، فيتوضّأُ، ثم تتخمَّرُ بخمارها، وتذهب به إلى المسجد للصلاة، وطلب العلم.
وهذا هشام بن عمّار -رحمه الله- يقول: "باع أبي بيتاً لنا بعشرين ديناراً، وجهزني للحجّ لطلبِ العلمِ على يد الإمام مالك في المدينة" فلزِمَهُ حتى صارَ من كبار العلماء، ومن شموسِ القُرّاء"[معرفة القراء الكبار للذهبي(1/196)].
ابحث وستجدُ أنّ سرَّ نجاحِ كلّ هذه النماذج هو الوعيُ والنضجُ الذي صنعَ في الذريّةِ التميُّزَ والنبوغَ والارتقاءَ والمجد! -نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
أيها الإخوة في الله: ومن أجملِ محطّات النضجِ والوعي في حياة الزوجين: تقديمُ التفاهُم والانسجام لمصلحة الأبناءِ، مهما كان حجمُ التباعُد والاختلاف في المشاعر والأفكار.
فمن فاتهُ الوعيُ في محطّة الانتقاءِ والتخيُّر، أو ابتُليَ بما لم يكن في الحُسبان؛ فلا ينبغي أن يفوتَهُ هذا النوعُ من الوعيِ والنُّضج وهو يقاسي مرارَة الحياةِ مع الطرف الآخر!.
ويعجبُني في هذا مثالُ الزوجِ الواعي الناضجِ الذي ابتُليَ بامرأةٍ من شرّ النّساءِ وأحطِّهِنّ فكرًا وسلوكًا وخُلُقًا، وفاتَتهُ فُرصةُ التصحيح والتدارُك؛ كيف يصبرُ على فكرِها المنحطّ، ومشاعرِها الجافية، وتصرُّفاتها الآثمة الظالمة، وكلماتِها النابية الجارِحة؛ ويفوّتُ كثيرًا من ذلكَ لأجل أولادِه ومعنويّاتهم وقُدُراتهم وحياتهم التي قرَّرَ تجاوُزَ فشلِه مع أمّهِم بتحقيقِ الارتقاءِ والنبوغِ فيها!.
ويعجبُني في هذا أيضًا مثالُ الزوجةِ الواعيةِ الناضجةِ التي ابتُليَت بزوجٍ من شرّ الأزواجِ، وأحطِّهِم فكرًا وسلوكًا وخُلُقًا؛ كيف تقرّرُ الصبرَ على فكرِه المنحطّ، ومشاعرِه الجافية، وتصرُّفاته الآثمة الظالمة، وكلماتِه النابية الجارِحة؛ لأجل أولادِها ومعنويّاتهم وقُدُراتهم وحياتهم التي قرَّرَت تجاوُزَ فشلِها مع أبيهم بتحقيقِ الارتقاءِ والنبوغِ فيها!.
هذا من أعزّ أنواعِ الوعي والنضج في الحياة الزوجيّة وأغلاهُ تكاليفَ على الإطلاق!.
أيها الإخوةُ في الله: هذه نماذجُ من محطّاتٍ تدلُّ على وجودِ النضجِ والوعيِ فينا أو عدمِ وجودِهما، حقٌّ على كلّ فردٍ امتحانُها فيه، وفي فكرِهِ ووجدانِه وحياته، ونسأل الله مع ذلكَ التوفيق إلى حسن العلم وحسن العمل.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي