امتلأت قلوب المؤمنين به بتعظيمه وإجلاله، والخضوع له والتذلل لكبريائه، فقد تمجّد بفعاله، ومجّده خلقه لعظمته وجلاله وكبريائه؛ إذ هو -سبحانه- الشريف في ذاته، الجميل في أفعاله، الجزيل عطاؤه، البالغ في الكرم، الكبير العظيم، ذو المجد والكبرياء، والعظمة والجلال، أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، له المجد كله؛ لكثرة أسمائه وصفاته، وسعتها وعظمتها، وكمال أفعاله، وكثرة خيره ودوامه...
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعّال لما يريد، من هداه فهو السعيد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، أحمده -سبحانه- وأشكره، والشكر من أسباب المزيد.
الحمد لله الولي الحميد الواسع المجيد، حكم عباده كونًا وشرعًا بما يريد، فقضى لهم ما تقتضيه حكمته، وشرع لهم ما فيه مصلحتهم رحمةً بهم، وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، أشرف من أظلت السماء، وأكرم من أقلت البيد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أهل التوفيق والتسديد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوعيد.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه، وأثنوا عليه بما هو أهله، فهو أهل الثناء والمجد -سبحانه-، وأرجو منه العز والنصر، واعلموا أن الخير والتوفيق بيده، وأن الفلاح والفوز في اتباع هديه، وسلوك طريقه، والتزام سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ففي ذلك العز والنصر والمجد والتوفيق.
أيها المسلمون: انتبهوا لما فيه عزكم ومجدكم، ولا تغرنكم الدنيا وزينتها، فقد صار بحث كثير من الناس اليوم عن المجد والشهرة بطرق غير مشروعة، وكثير من شباب الأمة سار في أوهام المجد الشخصي، بتقليد ممثل مغرور، أو لاعب مشهور في أكله ومشيه وملبسه، يلهثون خلف مَدَنية مُغْرِقة في الضلال، يقلدون حضارة غربية مفلسة.
ونسي هؤلاء أن المجد والرفعة والعظمة لا تتأتى إلا باتباع الشرع المعظم، فمن عظّم اللهَ وشرعَه ودينَه واتبع رسولَه، أعزه الله ورفعَه، وأعلى شأنه؛ لأن الله -سبحانه- هو المجيد، فكل من يبحث عن مجد شخصي أو رفعة بلده، أو عز قومه، فليسأل ذلك ربَّه المجيد، فهو رب العالمين -سبحانه-، المتصف بكل صفات الكمال والجلال والعظمة، وكل من عرف نفسه بالضعف والفقر والحاجة، فإنه يشهد للمجيد -سبحانه- شهادة عملية على غناه ومجده وعزه -سبحانه وتعالى وعز وجل-.
واعلموا –إخوتاه- أن الله -سبحانه- هو المجيد العظيم في مجده، العليم الكامل في علمه، الرّحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، القدير الذي لا يعجزه شيء، الكامل في حلمه، الكامل في حكمته، بلغت أسماؤه وصفاته غاية المجد، فليس في شيء منها قصور أو نقصان.
سبحان الله الحميد المجيد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها، ومن الأفعال أتمها وأحسنها، تبارك ربنا المجيد الكبير العظيم الجليل، الموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال، الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى، له التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، فقد مُلئت قلوبهم من تعظيمه، وإجلاله، والخضوع له، والتذلل لكبريائه.
وتيقنوا -عباد الله- أنه قد تعالى مجد ربنا -سبحانه-، وعظم ملكه وسلطانه، وتفرد بالكمال التام والجلال والجمال المطلقين، فلا يمكن للعباد أن يحيطوا بشيء من ذلك، فهو أكبر من كل شيء, وأعظم وأجل وأعلى من كل شي، لا مجد إلا مجده، ولا عظمة ولا جلال ولا جمال ولا كبرياء إلا جلاله وجماله وكبريائه، وأسماؤه كلها مجد، وصفاته وأفعاله وأقواله مجد.
أيها المسلمون: لقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه المجيد، قال تعالى: (ذُو العَرْشِ المَجِيدُ) [البروج:15]. وقال جل وعلا: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود: 73]، ووصف الله -سبحانه- كتابَه بالمجد؛ قال عز وجل: (ق* وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق: 1- 2]، ومن مجد القرآن وشرفه أن الله حفظه وصانه من كيد الحاقدين، وتحريف المبطلين، ومن مجده أنه الذكر الحسن لأهله، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف: 44].
وكون القرآن مجيدًا يُفهم منه أن مُنَزِّلَه متصفٌ بالمجد؛ لأنه صفة من صفاته، فلزم أن يكون المتكلم به ذو مجد من باب أولى, والقرآن مجيد لكثرة فوائده، ولكثرة ما تضمنه من العلوم والمكارم والمقاصد العليا. كما أن من مجدِ القرآن وشرفه أنه لا يمكن للجن والإنس أن يأتوا بمثله، بل بسورة أو بآية منه، قال تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) وفعلاً لم يقدروا على الإتيان بمثله، أو محاكاته، أو اختراقه، بل وقفوا أمام عظمته حائرين, وأمام مجده مبهورين, وأمام حسنه وجماله عاجزين، فسبحان من هذا كلامه.
وانتبهوا -إخواني- أن الله المجيد -سبحانه- يرفع بالقرآن المجيد أهله الذين عملوا به، واتخذوه منهجًا، وفي المقابل يكتب الذلة والصغار على من تركه وهجره، قال عُمَر رضي الله عنه: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ" (مسلم 1934) ، وهكذا السؤدد والمجد والرفعة تلازم حامل القرآن في الدنيا، والتي منها أحقيته بإمامة المسلمين، وفي القبر بأوليته في اللحد، وفي الآخرة حين يقال لصاحب القرآن: "اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها" (أبو داود 1464 وصححه الألباني)، ولهذا كله وصف ربنا القرآن بأنه مجيد.
ولأن الله هو "المجيد" فقد اتخذ لنفسه عرشًا استوى عليه ووصفه بالمجيد، فلا يختار لذاته إلا الأفضل والأكمل -سبحانه-، قال تعالى: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [البروج: 15].
وقد أثنى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على ربه، وهو أعرف الخلق به، فوصفه بأنه المجيد، فعن كَعْب بْن عُجْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْنَا: "يَا رَسُولَ اللهِ: كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ". (البخاري 3370).
ومما يدل على أهميّة التعبد بتمجيد الله -تعالى- أن الملائكة يبلغون ربهم -وهو أعلم- بتمجيد العباد له, وذلك حين ترفع أعمال العباد إليه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ؛ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَالَ: فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ, قَالَ فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ, قَالَ: فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً, وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا.. الحديث، وفي آخره: قَالَ فَيَقُولُ: "فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ" (البخاري 6408).
فهؤلاء الذاكرون يقولون: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فالتمجيد هو قول لا إله إلاّ الله؛ لما فيه من تعظيم الله تعالى، بتوحيد الألوهية.
يا عباد الله: والمجيد لغة هو الكريم الفِعَال، ذو الشرف والمروءة، والكرم والسخاء. والمجيد -سبحانه-, هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله، الجميل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، المختص بالتعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه المؤمنين به، له الكمال التام الذي لا يعتريه نقص، العظيم الواسع الذي لا يُحاط به علمًا، له الأسماء الحسنى بأعظم غنى وكبرياء وعُلا، خلق الوجود بجميع مراتبه، فهو الماجد والمجيد في ذاته وصفاته وأفعاله، ومنه كل مجد وكرامة وشرف ونعمة، فسبحان الحميد المجيد الذي سبَّح بحمده كل شيء، وعرّفنا كبرياءه وعظمته فيه وفي كل شيء خلقه.
فللمجيد -سبحانه- معاني الشرف، والفخر، والحسب، والعزة، والرفعة والمروءة، والكرم، والسخاء، له الشرف الكامل، والملك الواسع الذي لا غاية له، ولا مزيد وراءه؛ لأنه تام ظاهر، ولا تطرأ عليه الحوادث ولا تبدّله -سبحانه وتعالى-.
ولذلك كله امتلأت قلوب المؤمنين به بتعظيمه وإجلاله، والخضوع له والتذلل لكبريائه، فقد تمجّد بفعاله، ومجّده خلقه لعظمته وجلاله وكبريائه؛ إذ هو -سبحانه- الشريف في ذاته، الجميل في أفعاله، الجزيل عطاؤه، البالغ في الكرم، الكبير العظيم، ذو المجد والكبرياء، والعظمة والجلال، أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، له المجد كله؛ لكثرة أسمائه وصفاته، وسعتها وعظمتها، وكمال أفعاله، وكثرة خيره ودوامه. ولذلك تألهه القلوب وتحبه؛ لأنه -سبحانه- علا وارتفع بذاته، له المجد في أسمائه وصفاته وأفعاله، فمجد الذات الإلهية بيِّنٌ في جمال الله وسعته، وعلوه واستوائه على عرشه.
والمجيد -سبحانه- هو الواسع الكريم الذي لا يمكن إحصاء نعمه وفضله، ملأ الكون نعمًا وكرمًا من فيض خيره، وجميل بركته، وجعل شأن كل كائن متناسبًا في رتبة وجوده ومحله ومكانه، وكل شيء في الكون هو محض فضله وكرمه، فهو -سبحانه- كثير الخير، واسع العطاء للعالمين، يعامل العباد بالجود والكرم، وهو الكريم الذي كثر عطاؤه واتسع، وعمَّ فضله الجميع، شمل فضله وإحسانه المؤمنَ والكافرَ، والبرَّ والفاجر، والإنسان والحيوان: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) [الإسراء: 20]. فهو المجيد -سبحانه- لكثرة إحسانه وأفضاله.
أيها المسلمون: جاء اسم الله "المجيد" في القرآن مقترنًا بالحميد في بعض الآيات، كما في قوله: (رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود: 73]، ووجه هذا الاقتران ما أشار إليه الإمام ابن القيم -رحمه الله- حيث قال: "والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فعن الحمد يستلزم المحبة والثناء للمحمود, فمن أحببته ولم تثنِ عليه لم تكن حامدًا عليه، وكذا من أثنيت عليه لغرضٍ ما ولم تحبه، لم تكن حامدًا له حتى تكون مثنيًا عليه محبًّا، وهذا الثناء والحب تبعٌ للأسباب المقتضية عليه، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال ونعوت الجلال والإحسان إلى الغير، فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل, كان الحمد والحب أتم وأعظم، والله -سبحانه- له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجهٍ ما, والإحسان كله له ومنه، فهو أحق بكل حمد وبكل حب من كل جهة، فهو أهل أن يُحَبّ لذاته ولصفاته، ولأفعاله ولأسمائه ولإحسانه، ولكل ما صدر منه -سبحانه-".
قال الحليمي: "والمجيد: المنيع المحمود؛ لأن العرب لا تقول لكل محمود مجيدًا، ولا لكل منيع مجيدًا، أو قد يكون الواحد منيعًا غير محمود، كالمتآمر الخليع الجائر، أو اللص المتحصن ببعض القلاع، وقد يكون محمودًا غير منيع، كأمير السوقة والصابرين من أهل القبلة. فلما لم يقل لواحد منهما: مجيد، دل ذلك على أن المجيد هو من جمع بينهما، فكان منيعًا لا يُرَام، وكان في منعته حَسَن الخصال، جميل الفِعَال، والمجيد – جل ثناؤه – يُجَلّ عن أن يُرَام وأن يوصل إليه؛ إذ لا يستطيع العبد أن يُحصي نعمته، ولو استنفد فيه مدته، فاستحق اسم المجيد وما هو أعلى منه". اهـ. إذًا فليس كل ذي شرف محمودًا، وكذلك ليس كل محمود يكون ذا شرف.
اللهم إنا نسألك من فضلك العظيم، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم منه بالآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، وأجارني وإياكم من عذابه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم، فاستغفروه.
الحمد لله يبدي ويعيد، ذي العرش المجيد، وهو فعّال لما يريد، أمر عباده بالتوحيد، وحذّرهم عقابه يوم الوعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الرأي الرشيد، والقول السديد، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله، وعظّموه في نفوسكم، وأجلّوه في قلوبكم، وأحبوه وأطيعوه، واعلموا أن الله -سبحانه- تفرد بكل كمال وجلال وعظمة، وإن من خصائص النفس البشرية التي جُبلت عليها: عشقها دائمًا للكمال والجمال والعطاء، وأنها فُطرت على حبّ ذلك، وحينما يؤمن الإنسان بالله إيمانًا صحيحًا يجد أن أصل الكمال والجمال والعطاء من عند الله، لذلك فإن للذات الإلهية الكمال المطلق، والنفس الإنسانية لن تخضع إلا للكمال والإحسان والجمال، فالله هو الذي خلق النفس، ويعلم طبيعتها، وما فطرها عليه من الإعجاب بالكمال والجمال، لذلك هناك توافق بين خصائص النفس، وبين كمالات الله -جل جلاله-.
وإن إيمانك -أيها المسلم- باسم الله المجيد يدفعك إلى الإقبال عليه، والتوكل عليه، وأن تُسارع لتصل إليه، وأن تسعد بقربه، فهناك توافق عجيب بين خصائص النفس التي لا يملؤها إلا معرفة الله عز وجل، فأي هدفٍ أرضيٍّ محدودٍ أقبلت عليه، واتجهت إليه بعد أن تصل إلى مبتغاها منه، تشعر بالسأم، والملل، والضجر، هذا شأن النفس البشرية.
أيها المؤمنون: ومن الآثار الإيمانية التي تعود على من آمن باسم الله المجيد أن يعامل المسلم كل من حوله بالصفح والعفو، وسلاسة الطباع، وأن يكون سامي الأخلاق، متغافلاً عن زلات الآخرين، يقيل عثراتهم، مترفعًا عن سفاسف الأمور، كريمًا في جميع الأحوال مع ملازمة الأدب، وبهذا سيكتسب المجد الخالد والذكر الحسن.
وعلى المسلم أن يكون مجيد الذات، برفع الهمة لطلب رضا الله، فلا يبتغي سواه، ولا يرضى بدونه، وأن يكون مجيد الصفات بحسن أخلاقه، ومجيد الأفعال بالتزام الآداب والفضائل، ولهذا قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا" (البيهقي في السنن 10/191 وصححه الألباني]، وأرشد من طلب الجنّة أن يطلب أعلاها، ولا يقنع بأقل درجة فيها: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّة، فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ" (البخاري 2581).
عباد الله: ينبغي للمسلم أن يكون في سلوكه وحياته متعاليًا عن النقائص، مترفعًا عن العيوب، سريع التوبة من الذنوب، يطلب الرفعة والمجد، تتطلع نفسه للرفيق الأعلى مع الأبرار في عليين: (كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين: 18]، في جنات النعيم خالدين: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) [آل عمران: 198]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) [الكهف: 108].
ومن تمام الإيمان بأسماء الله وصفاته دعاء الله بها, فينبغي أن يسأل العبد ربه باسمه تعالى المجيد في دعائه، كما في حديث تعليمه -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله عن كيفية الصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-، قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (البخاري 3370).
واعلموا -أيها المسلمون- أن هناك كثيرًا من العبادات والأعمال الصالحة التي تغمر النفس وتملأها إيمانًا بالله المجيد -سبحانه-، ومن ذلك: أن التعظيم والإجلال لا ينبغي للمؤمن أن يُتوجه بهما إلا إلى الله وحده، وعليه أن يترك الاغترار والعجب. وأن يعظّم المؤمن ما عظّمه العظيم، ويمجّد ما مجّده المجيد -سبحانه-، حتى يكون هوى العبد ومراده تابعًا لرضا ربه -سبحانه وتعالى-.
إخواني: إن القرآن الكريم مليء بتمجيد الله وتعظيمه، وقد سمى الله تعالى كتابه العظيم بالمجيد في آيتين من كتابه، في قوله تعالى: ( ق* وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق:1-2]، وقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ) [البروج: 22]، وهو كلام الله تعالى البالغ النهاية في الشرف والرفعة، غزير المعاني عظيمها، كثير الخير والعلم، ولمّا يحصل الإيمان بهذا يعظّم المؤمن كلام ربه، ويعمل به، ولا يقصر في تنفيذ أمره، ولا يتردد في تصديق خبره؛ لأن الله تعالى قال في شأنه: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].
ومن أعظم ما يعظّم به العبد ربه ويمجده: تلاوة كتاب ربه آناء الليل وأطراف النهار، فلا أحد يستطيع أن يُحصي الثناء على ربه ولا يمجده كما أثنى الله على نفسه، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يناجي ربه وهو ساجد في ظلام الليل، ويقول: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" (مسلم 1118).
واعلم -عبد الله- أن الصلاة كلها تمجيد لله، في أفعالها وألفاظها، فهي مبنية على الثناء والتعظيم، وقائمة على التمجيد للحميد المجيد -سبحانه-، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). قَالَ مَجَّدَنِي عَبْدِي.." (مسلم 904).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ -عليه الصلاة والسلام- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدّ" (أبو داود (847) وصححه الألباني)، فأول الصلاة حمد وتمجيد، وآخرها حمد وتمجيد، كما في حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ إِذَا سَلَّمَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" (البخاري 6330).
ولا تغفل -عبد الله- عن التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة، والاستغفار، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وهذه الحال هي حال أهل الذكر، من لا يشقى بهم الجليس، كما جاء في حديث: "إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ, فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ. قَالَ: فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا.." (البخاري 6408).
أيها المسلمون: لقد مجّد المجيد -سبحانه- نفسه في آيات كثيرة من القرآن، وأعظم الآيات احتواء على ذلك: آية الكرسي، وكذلك سورة الفاتحة والإخلاص وغيرهن؛ إذ إنه لا أحد يقدر أن يوفي الله حقه، ولا أن يثني عليه حقه ثنائه، ولا يحصيه مدحًا وتمجيدًا سوى ذاته -تعالى-؛ لأننا لم نُحِطْ به حتى نقدره قدره، فهو كما أثنى على نفسه في كتابه الكريم، حتى أعرف العباد بربه وأخشاهم وأكملهم ثناءً وتمجيدًا وأكثرهم تحميدًا محمد -عليه الصلاة والسلام-، فبرغم ثنائه ومدحه إلا أنه لا يمكنه أن يُحصي ثناء عليه.
فعَنْ عَائِشَة -رضي الله عنها- قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لاَ أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" (مسلم 1118).
اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطهُ الظنون، يا من دبر الدهور، وقدر الأمور، وعلم هواجسَ الصدور، يا من عليه يتوكل المتوكلون، أقلِ العثرةَ، وأغفرِ الزلةَ، وجُد بحلمِك على من لا يرجُ غيرَك ولا قصدَ سواك، اللهم هب لنا فرجًا قريبًا، وصبرًا جميلاً، وكن لنا ولا تكن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وتولى أمرنا، لا إله إلا أنت، أنتَ حسبُنا.
اللهم لا تجعل بيَننا وبينَك في رزقنا أحدًا سواك، اللهم اجعلنا أغنى خلقِكَ بك، وأفقرَ عبادِكَ إليك، وهب لنا غنًى لا يطغينا، وصحةً لا تلهينا، وأغننا اللهم عن من أغنيته عنا.
اللهم أصلح مَن في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا حي يا قيوم يا عزيز.
اللهم أنت خلقتَ أنفسَنا، وأنت تتوفاها، فزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنتَ وليها ومولاها، لك مماتَها ومحياها.
اللهم إنا عبيدُك بنو عبيدِك بنو إمائك، في حاجةٍ إلى رحمتِك، وأنت غنيُ عن عذابنا، اللهم فجازِنا بالإحسانِ إحسانا، وبالإساءةِ عفوًا وغفرانًا.
اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعثِ والنشور، واغفر لنا ولجميعِ موتى المسلمين يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي