التفكر في نعم الله ومخلوقاته

صلاح بن محمد البدير

عناصر الخطبة

  1. تأملات في خلق الله سبحانه في الأنفس والآفاق
  2. الثَّمرة الكُبرى من التفكُّر في المخلوقات
  3. وجوب عبادة الله وحده وعدم الشرك به
  4. مواساة المكروبين وأصحاب الحاجات من ضعفاء المسلمين.

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله أسبغَ علينا نعمَه وأفاضَا، وأبدعَ الكونَ سماءً وأرضًا ورياضًا وفِياضًا، ونباتٍ وجناتٍ وغِياضًا، وبِحارًا وأنهارًا وحِياضًا، وجِبالاً حُمرًا وسُودًا وبِياضًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ أنابَ إلى ربِّه وآبَا.

 وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه ما قالَ بالباطلِ يومًا ولا خاضًا، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه صلاةً وسلامًا دائمَين مُمتدَّين مُتلازمَين إلى يوم الدين.

أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

أيها المسلمون: خلقَ الله الكونَ العظيمَ أسافِلَه وأعاليه بقُدرته، هو بارِئُه ومُوجِدُه ومُبدِعُه ومُنشِئُه، والمُتصرِّفُ فيه بأمرِه وقَهره، وعِزَّته وعلمِه، وبيدِه أزِمَّةُ الأمور نقضًا وإبرامًا، بلا مُدافعةٍ ولا مُمانَعَة.

مالِكُ الدار وساكِنِيها، وواهِبُ الحياة ومُسدِيها .. فاعتبِرُوا بمخلوقاتِ الله الدالَّة على ذاتِه وصفاتِه، وشرعِه وقدَرِه وآياتِه، وانظرُوا ماذا في السماوات والأرض، تفكَّروا في خلقهنَّ وعظمَتهنَّ وما فيهنَّ وما بينهنَّ.

وتأمَّلُوا الأرضَ وجِبالَها .. وبِحارَها وقِفَارَها .. ووِهادَها ومِهادَها .. وعُمرانَها وسُكَّانَها. تأمَّلُوا السماوات وارتِفاعَها واتِّساعَها .. وكواكِبَها وأفلاكَها .. ونُجومَها وغيومَها .. وشُهُبُهَا وسُحُبَها.

وتفكَّرُوا في الشمسِ والقمر كفي يجرِيان بحسابٍ مُقنَّنٍ مُقدَّر، ويسبَحَان على مِنهاجٍ مُحرَّر، لا يضطرِبُ ولا يتغيَّر.

وانظُروا إلى القمر كيف يتولَّد، ثم يتزايَدُ جُرمُه ونورُه وارتِفاعُه، حتى يستوسِقَ ويكمُلَ إبدارُه، ثم يتناقصُ ويضعُف حتى يَحينَ إدبارُه.

وانظرُوا إلى الضياءِ والظَّلماءِ كيف يفلِقُ الله ظلامَ الليل من غُرَّة الصباح؟! فيضِيءُ الوجود، ويستنيرُ الأُفُق، ويضمحِلُّ الظلام، ويذهبُ الليلُ بسَوَادِه وظلامِ رِواقِه، ويجِيءُ النهارُ بضيائِه وإشراقِه، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ [يونس: 67].

وانظرُوا إلى الماءَين والبحرَين هذا عذبٌ فُراتٌ سائِغٌ حُلوُ المذاق، وهذا مِلحٌ أُجاجٌ مُرٌّ غليظٌ زُعاق، من أُجوجَته شُربُه لا يُطاق.

وانظُروا إلى سائرِ المخلوقات: الدوابِّ السارِحة .. والسِّباع الجارِحة .. والطيورِ الرائِحة .. والحِيتان السابِحة. وتفكَّروا في الرِّياح تُرسَلُ نُشرًا وبُشرَى .. وتفكَّروا في السَّحاب والرِّياحُ تارةً تُثيرُه، وتارةً تسُوقُه، وتارةً تجمعُه، وتارةً تُفرِّقُه، وتارةً تُصرِّفُه، وتارةً تُلقِحُه.

وتفكَّروا في الصيفِ الحارِق، والشتاء الطارِق .. وتفكَّروا في حبَّات البَرَد التي تنزِلُ بقُدرة الله تعالى من الغَمام والمُزنِ العِظام، والسَّحاب الرُّكام التي تُشبِهُ الجِبالَ في ضخامَتها وكَثَافَتها. وانظرُوا إلى البُلدان المبرُودة كيف أضحَت أرضُها من الصقيع والثَّلج المُحيط، الذي لا يقدِرُ بشرٌ على منعِه، ولا يقوَى مخلوقٌ على دفعِه، ولا يتمكَّنُ أحدٌ من رفعِه .. يُنزِلُه الله نقمةً على من يشاء، ونعمةً على من يشاء، ويصرِفُه بقُدرتِه عمَّن يشاء، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(44)﴾ [النور: 43، 44].

فيا لها من آياتٍ ودلالاتٍ على قُدرة الخالِقِ المُدبِّر المُقدِّر.. ويا لها من عِظةٍ وتبصِرةٍ وذِكرَى للعبدِ المُنيبِ المُتأمِّل المُتفكِّر المُتدبِّر، الذي يزدادُ بمُشاهَدتها يقينًا وتصديقًا وخُضوعًا، وإيمانًا وخشيةً وخُشوعًا، وتوبةً وإنابةً ورُجوعًا.

والثَّمرةُ الكُبرى من التفكُّر في المخلوقات، والنظر في الكائِنات، والتدبُّر في المصنُوعات: عبادةُ الله وحده لا شريك له، وأنه الخالقُ الرازقُ المُنعِمُ المُتفضِّلُ على خلقِه في جميعِ الآنات والحالات.

وهو المُستحقُّ منهم أن يُوحِّدوه، ولا يُشرِكوا به شيئًا من المخلوقات؛ عن عبد الله بن مسعودٍ – رضي الله عنه – قال: قلتُ: يا رسول الله! أيُّ الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعلَ لله نِدًّا وهو خلقَك» (متفق عليه).

ومن التَفَتَ إلى غير خالقِه ومولاه لكشفِ ضُرِّه وبَلواه، فقد خسِرَ أُخراه ودامَ شَقاه، ومن لاذَ بالقبور يدعُو أصحابَها، وعادَ بالأضرِحة يطرُقُ أبوابَها، ويرجُو حُجَّابَها، فقد لجَأَ إلى التراب، ولاذَ بالسَّراب.

والرُّفاتُ والأموات لا يملِكُون وصِيلة، ولا يستطيعون وسيلة، ولا يقدِرُون على حِيلَة، وما سمِعُوا دُعاءً، ولا وعَوا نِداءً، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾ [الأحقاف: 5].

ومن سألَ ساحِرًا أو كاهِنًا أو مُنجِّمًا أو عرَّافًا، أو تقلَّدَ تميمةً أو خيطًا أو حِرزًا، أو تعلَّقَ عزيمةً أو وترًا أو خرَزًا، يرجُو نفعًا أو دفعًا؛ فقد تعلَّق الهَوان، وتقلَّد الخُذلان، وباءَ بالخُسران. ولا يأتي شيئًا من هذه البِدع الشَّنيعة إلا من لم يعتبِر بمخلوقات الله العظيمة الدالَّة على وحدانيَّته وربوبيَّته، وألوهيَّته وصمديَّته، وذاتِه وأسمائِه وصفاتِه، وأنه لا يكشِفُ البلاءَ سِواه، ولا يرفعُ الضُّرَّ إلا إياه.

يا من تقحَّمتَ المُحرَّمات، وتعاطَيتَ المُنكرَات .. أنسيتَ أن الله مُطَّلِعٌ على أفعالِك؟! وعالِمٌ بأحوالِك؟! وأنت في اللهوِ مُصِرٌّ، وفي الغيِّ مُستمِرٌّ. فتُب قبل أن تحِلَّ عليك العقُوباتُ المُوجِعة، والنَّقَماتُ المُفجِعة، والكوارِثُ المُفجِعة. وبادِر إلى فعلِ الخيرات .. وسارِع إلى نَيل القُرُبات .. وأقلِع عن الخطايا والمُوبِقات، ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: 110].

اللهم اجعلنا ممن تفكَّر وتدبَّر، وتذكَّر واعتبَر، وتابَ واستغفَر، قبل أن يموتَ ويُقبَر، وأستغفِرُ الله العليَّ العظيم فاستغفِرُوه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله آوَى إلى من إلى لُطفِه أوَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوَى بإنعامِه من يئِسَ من أسقامِه الدوا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنَا محمدًا عبدُه ورسولُه من اتَّبَعه أفلحَ واهتدَى، ومن عصاهُ كان في الغِوايةِ والرَّدَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه صلاةً تبقَى، وسلامًا يترَى.

أما بعد، فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبُوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].

أيها المسلمون: لقد نزلَ الشتاءُ بحدّته وشِدَّته وقسوَته عل إخوانِكم اللاجِئين والنازِحين والمُشرَّدين في شامِنا الحَبيبة، وفي بلادٍ أخرى عديدة. الجَليدُ وِطاؤُهم .. والرياحُ البارِدةُ غِطاؤُهم .. تجمَّدَت تحت الثُّلوجِ أطفالُهم .. وفاضَت على بِساطِها أرواحُهم. الصَّقيعُ يضرِبُهم .. والثُّلوجُ تُحاصِرُهم .. والعواصِفُ تحُوطُهم .. وهم يُعانُون نقصًا في الأغذية والأدوية، والأكسِيَة والأغطِية، وسائر التدفِئة.

الفقيرُ يئِنُّ، والضعيفُ يستنجِدُ، والمُضطرُّ يستصرِخ. ضاقَت يداه، وعظُمَت شكوَاه. واحتلَّ بَرْدُ الشتاءِ منزِلَه وباتَ شيخُ العِيال يضطرب، والمُؤمنون أقربُ الناس رحمةً وشفقةً وإحسانًا، وأحنَاهم على فقيرٍ ويَتيمٍ ومِسكينٍ، وأحدَبهم على أرمَلةٍ ومُطلَّقة وضعيفٍ، وأعطفُهم على ملهُوف، وأنفعُهم لمكروبٍ ومُضطرٍّ لا كافِيَ يكفِيه ولا مُؤوِيَ يُؤوِيه. عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «الساعِي على الأرمَلة والمِسكين كالمُجاهِد في سبيلِ الله، وكالقائِم الذي لا يفتُر، وكالصائِم الذي لا يُفطِر» (متفق عليه).

فتعاهَدُوا الفقراءَ والمساكِين، والمحرُومين والمقطُوعين، واللاجِئين والمنكُوبين، وأنفِقُوا وتصدَّقُوا، ولا تُحصُوا فيُحصِي اللهُ عليكم، ولا تُوعُوا فيُوعِي الله عليكم، وسارِعُوا بالعطاء، وحاذِرُوا الإبطاء، وأحسِنوا إن الله يحبُّ المُحسنين.

وصلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.

وما فقَدَ الماضُون مثلَ مُحمدٍ *** ولا مثلُه حتى القيامة يُفقَدُ

والله أكرمَنا به وهدَى به *** أنصارَه في كل ساعةِ مشهَدِ

صلَّى الإلهُ ومن يحُفُّ بعرشِه *** والطيِّبُون على المُبارَكِ أحمدِ

اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابِه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وعنَّا معهم يا كريمُ يا منَّان.

اللهم عليك بمن تعرَّضَ لعِرضِ نبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – يا قوي يا عزيز يا رب العالمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلاد المُسلمين.

اللهم احفَظ بلادَنا المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، اللهم احفَظها من مكر الماكِرين، وكيدِ الكائِدين، وخُطَط السُّفهاء العابِثين يا رب العالمين.

اللهم احفَظ أمنَنا واستِقرارَنا وجماعتَنا، ووحدتَنا وقيادَتَنا ووُلاةَ أمرنا يا رب العالمين. اللهم عليك بمن يُريدُ زرعَ الفتنة في أراضِينا، وبثَّ الفوضَى في نواحِينا يا رب العالمين. اللهم احمِ شبابَنا وفتَيَاتِنا من مذاهِبِ التكفيريِّين، ودسائِسِ الحِزبيِّين، ومكرِ الخوارِجِ الحاقِدين يا رب العالمين.

اللهم احفَظ رِجال أمننا، اللهم احفَظ رِجال أمننا، وقوِّ عزائِمَهم يا رب العالمين، اللهم تقبَّل موتاهم في الشُّهداء، وارفَع درجاتهم يا سميعَ الدُّعاء. اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتِك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءَة نقمتِك، وجميع سخَطِك يا رب العالمين. اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على من عادانا.

اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين في الشام يا رب العالمين. اللهم طهِّر المسجدَ الأقصَى من رِجس يهُود، اللهم عليك باليهود الغاصِبين، والصهايِنة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَك.

اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مِدرارًا. اللهم اجعل دعاءَنا مسموعًا، ونداءَنا مرفوعًا يا سميعُ يا قريبُ يا مُجيبُ.


تم تحميل المحتوى من موقع