أيها الإخوة: لقد خص الله الحسين -رضي الله عنه- بمناقب حسان، وأخلاق فاضلة، وشمائل نبيلة، اقتبسها من معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم، ومن أبيه أبي الحسن علي -رضي الله عنه-، من هذه الخلال الفاضلة: قضاء حوائج الناس؛ فمن أقواله في ذلك: "اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، ولا تملوا النعم فتحور نقماً -أي ترجع-، واعلموا أن المعروف مُكْسِبٌ حمداً ومُعْقِبٌ أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين، ولو...
أما بعد:
أيها الإخوة: ويتواصل الحديث عن ريحانة رسول الله: الحسين بن علي -رضي الله عنه-؛ ففي عهد عثمان -رضي الله عنه- شارك الحسين -رضي الله عنه- في الفتوحات، فقد شارك بالجيش الذي قصد جرجان تحت قيادة سعيد بن العاص الأموي، والجيش الذي غزا إفريقيه مع عبد الله بن أبي السرح لما كان والياً على مصر قرابة سنة سبع وعشرين من الهجرة.
كذلك شارك الحسين -رضي الله عنه- في الجيش الذي غزا طبرستان، حوالي سنة ثلاثين من الهجرة، مع أمير الجيش آنذاك سعيد بن العاص، وكان في هذا الجيش عددٌ من الصحابة، منهم: الحسن والحسين وعبد لله ابن عمر وعبد لله بن عباس وعبد لله بن عمرو بن العاص وعبد لله بن الزبير.
كما كان في الجيش الذي غزا القسطنطينية في عهد معاوية -رضي الله عنهما-، سنة إحدى وخمسين بقيادة يزيد بن معاوية.
أيها الإخوة: وضل الحسين -رضي الله عنه- طوال عهد الخلافة الراشدة، وفي عهد معاوية -رضي الله عنهم- سيداً من سادات المسلمين، يحبونه ويجلونه، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "وكان الحسين يقبل جوائز معاوية، ومعاوية يرى له، ويحترمه، ويجله، فلما أن فعل معاوية ما فعل بعد وفاة السيد الحسن من العهد بالخلافة إلى ولده يزيد، تألم".
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق، عن أبي المهزِّم يزيد بن سفيان التميمي قال: "كنا مع جنازة امرأة، ومعنا أبو هريرة، فجئ بجنازة رجل فجعله بينه وبين المرأة، فصلى عليهما، فلما اقبلنا أعيا الحسين فقعد في الطريق؛ فجعل أبو هريرة -رضي الله عنه- ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه! فقال الحسين: يا أبا هريرة وأنت تفعل هذا؟! قال أبو هريرة: دعني فو الله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم".
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق: أن عمروَ بنَ العاصِ -رضي الله عنه-: كان جالساً في ظل الكعبة إذ رأى الحسينَ بنَ عليٍ مقبلاً، فقال: "هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم".
أيها الإخوة: وظلت علاقة الحسين مع معاوية -رضي الله عنهما- علاقة احترام وتقدير، قال ابن كثير في البداية والنهاية: "لما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردد إليه مع أخيه الحسن، فيكرمهما معاوية إكراما زائدا، ويقول لهما: مرحبا وأهلا، ويعطيهما عطاء جزيلاً، وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف، وقال: خذاها وأنا ابن هند، والله لا يعطيكماها أحد قبلي ولا بعدي، فقال الحسين: والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلا أفضل منا".
ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه.
وشكا معاوية -رضي الله عنه- مرة من شدة رد الحسين -رضي الله عنه- عليه، فقيل له: "اكتب إليه كتاباً تعيبه وأباه فيه" فقال: "ما عسيت أن أقول فيه وفي أبيه إلا أن أكذب! ومثلي لا يعيب أحداً بالباطل، وما عسيت أن أقول في حسينٍ ولست أراه للعيب موضعاً".
وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يجل الحسن والحسين -رضي الله عنهما-، فقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق عن مدرك بن عمارة، قال: "رأيت ابن عباس آخذاً بركاب الحسن والحسين، فقيل له: أتأخذ بركابهما وأنت أسن منهما!؟ فقال: إن هذين ابنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو ليس من سعادتي أن آخذ بركابهما".
أيها الإخوة: ولقد خص الله الحسين -رضي الله عنه- بمناقب حسان، وأخلاق فاضلة، وشمائل نبيلة، اقتبسها من معلم الناس الخير صلى الله عليه وسلم، ومن أبيه أبي الحسن علي -رضي الله عنه-، من هذه الخلال الفاضلة: قضاء حوائج الناس، فمن أقواله في ذلك: "اعلموا أن حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم، ولا تملوا النعم فتحور نقماً -أي ترجع-، واعلموا أن المعروف مُكْسِبٌ حمداً ومُعْقِبٌ أجراً، فلو رأيتم المعروف رجلاً رأيتموه حسناً جميلاً يسر الناظرين ويفوق العالمين، ولو رأيتم اللؤم رجلاً رأيتموه سمجاً مشوهاً تنفر منه القلوب، وتُغَضُ دونه الأبصار، وقال: صاحب الحاجة لم يكرم نفسه عن سؤالك، فأكرم وجهك عن رده".
وقال رضي الله عنه: "أيها الناس من جاد ساد، ومن بخل رذل، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وإن أعطى الناس -أي أكثرهم عطاءً- من عفا عن قدرة، وإنَّ أوصل الناس من وصل من قطعه، والأصول على مغارسها بفروعها تسمو، من تعجل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً، ومن أراد الله -تعالى- بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه، ومن نفس كربة مؤمن فرج الله عنه كربُ الدنيا والآخرة، ومن أَحْسَن أَحْسنَ الله إليه، والله يحب المحسنين".
أحبتي: هذه بعض أقوله رضي الله عنه ولم يقلها واعظاً بها وعظاً مجرداً بلا عمل، بل كان رضي الله عنه يقول ويفعل، ويوجه ويسابق للخيرات، فرضي الله عنه وأرضاه.
من ذلك ما رواه سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة قال: "حدثني ظئر كان لنا، قال: قدمت بأباعر لي -عشرين أو ثلاثين بعيرا- ذا المروة أريد الميرة من التمر؛ فقيل لي: إن عمرو بن عثمان في ماله، والحسين بن علي في ماله، قال: فجئتُ عمروَ بنَ عثمان فأمر لي ببعيرين أن يحمل لي عليهما، فقال لي قائل: ويلك ائت الحسين بن علي، فجئته ولم أكن أعرفه؛ فإذا رجل جالس بالأرض حوله عبيده، بين يديه جفْنَةٌ عظيمة فيها خبز غليظ ولحم، وهو يأكل وهم يأكلون معه؛ فسلمت، فقلت: والله ما أرى أن يعطيني هذا شيئا! فقال: هلم فكل، فأكلت معه، ثم قام إلى ربيع الماء مجراه، فجعل يشرب بيديه، ثم غسلهما، وقال: ما حاجتك؟ فقلت: أمتع الله بك، قدمت بأباعرٍ أريدُ الميرةَ من هذه القرية فذُكرت لي فأتيتك لتعطيني مما أعطاك الله، قال: اذهب فأتني بأباعرِك فجئت بها، فقال: دونك هذا المربد فأوقرها من هذا التمر، فأوقرتها والله ما حملت، ثم انطلقت، فقلت: بأبي وأمي هذا والله الكرم" [رواه ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق].
وخرج الحسنان وعبدُ اللهِ بنُ جعفر وأبو حبة الأنصاري من مكة إلى المدينة، فأصابتهم السماء، فلجأوا إلى خباءِ أعرابي، فأقاموا عنده ثلاثاً حتى سكنت السماء، وذبح لهم، فلما ارتحلوا قال له عبدُ الله: إن قدمت المدينة فسل عنا، فاحتاج الأعرابي بعد سنين، فقالت له امرأته: لو أتيت المدينة فلقيت أولئك الفتيان، فقال: قد أنسيت أسماءَهم، قالت: سل عن ابن الطيار، فأتاه فقال: الق سيدنا الحسن، فلقيه فأمر له بمائة ناقة بفحولها ورُعَاتِها، ثم أتى الحسين فقال: كفانا أبو محمد مؤونة الإبل، فأمر له بألف شاة، ثم أتى عبد الله بن جعفر، فقال: كفاني أخواي الإبل والشاء، فأمر له بمائة ألف درهم، ثم أتى أبا حبة، فقال: والله ما عندي مثل ما أعطوك، ولكن جئني بإبلك، فأوقرها له تمراً، فلم يزل اليسار في أعقاب الأعرابي.
وعن عبد الله بن شداد قال: "مر الحسين بن علي -رضي الله عنهما- براعٍ، فأهدى الراعي إليه شاة، فقال له الحسين: حرٌّ أنت أم مملوك؟ فقال: مملوك، فردها الحسين عليه؛ -لأن المملوك لا يملك التصرف بمال سيده-، فقال له المملوك: إنها لي، فقبلها منه، ثم اشتراه واشترى الغنم، فأعتقه، وجعل الغنم له".
وقال ابن قتيبة في عيون الأخبار: لما قدم معاوية -رضي الله عنه- المدينة منصرفاً من مكة، بعث إلى الحسنِ والحسينِ وعبدِ اللّه بنِ جعفر وعبد اللّه بن عمر وعبد اللّه بن الزّبير وعبد اللّه بن صفوان بن أميّة بهدايا من كسىً وطيبٍ وصلاتٍ من المال، ثم قال لِرُسُلِه: ليحفظ كلّ رجلٍ منكم ما يرى ويسمع من الردّ، فلما خرج الرُسُلُ من عنده، قال لمن حضر: إن شئتم أنبأناكم بما يكون من القوم، قالوا: أخبرنا يا أمير المؤمنين، قال: أمّا الحسن فلعله ينيل نساءه شيئاً من الطّيب، ويهب ما بقي من حضره ولا ينتظر غائباً، وأما الحسين فيبدأ بأيتام من قُتِلَ مع أبيه بصفّين فإن بقي شيء نحر به الجُزُرَ وسَقَى به اللبن، وقال عن الآخرين أقوالاً تتوافق مع أحوالهم، فرجع رسل معاوية -رضي الله عنه- بنحوٍ مما قال.
نعم ذاك قول الحسين -رضي الله عنه-، وهذا فعله، وأراه ينطبق عليه قول القائل:
تراهُ إذا ما جئتهُ متهللاً *** كأنكَ تعطيهِ الذي أنتَ سائلهْ
والقول الآخر:
هُوَ اليَمُّ مِنْ أَي النَّواحي أتيتَهُ *** فَلُجَّـتُهُ المَعْرُوْفُ والجُودُ سَاحِلُهْ
تعوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حتى لو أنَّه *** ثَنَــاها لِقَبْضٍ لمْ تُجْبهُ أنَامِـلُهْ
ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ *** لجـادَ بها فليـتقِ اللهَ ســائلُهْ
فرضي الله عنه، وعن آلِ بيتِ رسول الله، وصحبه وأرضاهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة: ولقد جمع الله للحسين -رضي الله عنه- المال وبذله، والعلم والجاه والنسب، وهذه منزلة عظيمه لا تكون إلا للمصطفين الأخيار من عباده.
ومن أعظم العلم: رواية الحديث عن رسول الله، وقد روى عدداً من الأحاديثِ عنه صلى الله عليه وسلم معروفة في كتب الصحاح والمسانيد والسنن، ولم يكن من المكثرين من الرواية.
وقد كان رضي الله عنه فقيهاً معدوداً في مفتي الصحابة، وقد عده ابن القيم -رحمه الله- من فقهاء الصحابة المقلين في الفتيا.
وكانت له حلقة علم في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد شهد بعلمه وجده وفضله معاوية -رضي الله عنه-؛ فعن أبي سعيد الكلْبِـي قال: قال معاوية -رضي الله عنه- لرجل من قريش إذا دخلت مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرأيت حلقة فيها قوم كأن على رؤوسهم الطير، فتلك حلقة أبي عبد الله مؤتزرا على أنصاف ساقيه ليس فيها من الهُزِّيلا شيء -المزاح والهذيان وعمل اللعَابِيْنَ-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي