منع المسلمين من مساجدهم

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. الشعائر هي أعلام الدين الظاهرة .
  2. تميز بناء المساجد عن غيرها من المباني .
  3. استهداف الأعداء للمساجد عبر التاريخ .
  4. استهداف المساجد في العصر الحالي .
  5. سبب الحملة على مساجد المسلمين .
  6. مسالك الكفار والمنافقين في إفساد مساجد المسلمين .
  7. صور من نصرة المسلمين للمساجد .

اقتباس

وقد عجز أعداء الملة والدين من الكفار والمنافقين عن صرف المسلمين عن المساجد، وتنفيرهم منها، وتشويه روادها، ورميهم بالتطرف والإرهاب، وبلغ من حنق الأعداء على المساجد أن روادها للصلاة من الشباب كانوا في بعض البلدان يسجنون ويؤذون بتهمة ارتياد المسجد، وحضور صلاة الجماعة، ويا لها من تهمة تشرف صاحبها وترفعه عند الله تعالى. وهذا يبين أهمية المساجد في حفظ الدين، وإظهار الشعائر..

الخطبة الأولى:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ جَعَلَ عِمَارَةَ المَسَاجِدِ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَطَهَّرَهَا مِنْ رِجْسِ المُشْرِكِينَ، وَأَخْلَصَهَا لِعِبَادِهِ المُوَحِّدِينَ؛ (وَأَنَّ المَسَاجِد لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18]، نَحْمَدُهُ عَلَى حُكْمِهِ وَشَرْعِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى آلائِهِ وَنِعَمِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ كِتَابِهِ، وَنَشْرِ دِينِهِ، وَإِعْزَازِ جُنْدِهِ، وَنَصْرِ أَوْلِيَائِهِ، وَقَهْرِ أَعْدَائهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 20- 21]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَشَّرَ بِعِزِّ الدِّين وَأَهْلِهِ، وَذُلِّ أَعْدَائِهِ: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أو بِذُلِّ ذَلِيلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ".

وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقُولُ: "قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ". صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِه إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِهِ، وَثِقُوا بِوَعْدِهِ، وَلاَ تَسْتَبْطِئُوا نَصْرَهُ، وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِهِ؛ فَإِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ: (لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [الرعد: 31].

أَيُّهَا النَّاسُ: الشَّعَائِرُ هِيَ أَعْلاَمُ الدِّينِ الظَّاهِرَةُ، وَهِيَ تُبَشِّرُ النَّاسَ بِالإِسْلاَمِ، وَتَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَتَدُلُّهُمْ عَلَيْهِ، وَهِيَ السَّبَبُ الأَهَمُّ لِحِفْظِ الدِّينِ وَبَقَائِهِ؛ لِأَنَّ المُسْلِمِينَ يَتَنَاقَلُونَ هَذِهِ الشَّعَائِرَ جِيلاً عَنْ جِيلٍ، وَأُمَّةً عَنْ أُمَّةٍ، وَقَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، والمَسَاجِدُ هِيَ المَوْضِعُ الأَهَمُّ لِأَهَمِّ الشَّعَائِرِ وَأَكْثَرِهَا مُمَارَسَةً فِي حَيَاةِ المُسْلِمِينَ؛ فَفِيهَا يُصْدَعُ بِالأَذَانِ، وَيُجْهَرُ بِالقُرْآنِ، وَفِيهَا تُقَامُ الصَّلاَةُ، فَيَتَوَافَدُ المُؤْمِنُونَ إِلَيْهَا مِنْ فِجَاجِ الأَحْيَاءِ وَالحَارَاتِ، وَيَسْتَدِلُّ الغَرِيبُ عَلَى المَسْجِدِ بِتَوَافُدِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَقْتَ الصَّلاَةِ فَيَتْبَعُهُمْ إِلَى أَنْ يَصِلَهُ.

وَبِنَاءُ المَسْجِدِ بِنَاءٌ مُمَيَّزٌ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ البِنَاءَاتِ، وَمِئْذَنَتُهُ الشَّاهِقَةُ صَيَّرَتْهُ شَعِيرَةً تُظْهِرُ الإِسْلاَمَ وَتُبْرِزُهُ؛ وَلِذَا حُورِبَتْ مَآذِنُ المَسَاجِدِ فِي بَعْضِ البِلاَدِ النَّصْرَانِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى شَعَائِرِ الإِسْلاَمِ، وَمُنِعَ فِي بِلاَدِ النَّصَارَى الجَهْرُ بِالأَذَانِ وَالقُرْآنِ فِي المَآذِنِ بِحُجَّةِ الإِزْعَاجِ، رَغْمَ أَنَّ أَجْرَاسَ الكَنَائِسِ أَشَدُّ إِزْعَاجًا مِنَ الأَذَانِ؛ وَلَمْ يَكُنْ مَنْعُ الأَذَانِ إِلاَّ لِأَنَّهُ دَعْوَةٌ لِلإِسْلاَمِ وَشَعَائِرِهِ.

وَقَدْ عَجَزَ أَعْدَاءُ المِلَّةِ وَالدِّينِ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ عَنْ صَرْفِ المُسْلِمِينَ عَنِ المَسَاجِدِ، وَتَنْفِيرِهِمْ مِنْهَا، وَتَشْوِيهِ رُوَّادِهَا، وَرَمْيِهِمْ بِالتَّطَرُّفِ وَالإِرْهَابِ، وَبَلَغَ مِنْ حَنَقِ الأَعْدَاءِ عَلَى المَسَاجِدِ أَنَّ رَوَّادَهَا لِلصَّلاَةِ مِنَ الشَّبَابِ كَانَوا فِي بَعْضِ البُلْدَانِ يُسْجَنُونَ وَيُؤْذَوْنَ بِتُهْمَةِ ارْتِيَادِ المَسْجِدِ، وَحُضُورِ صَلاَةِ الجَمَاعَةِ، وَيَا لَهَا مِنْ تُهْمَةٍ تُشَرِّفُ صَاحِبَهَا وَتَرْفَعُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَهَمِّيَّةَ المَسَاجِدِ فِي حِفْظِ الدِّينِ، وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ، حَتَّى إِنَّهُ لاَ يَكَادُ يُوجَدُ مُسْلِمُونَ فِي بَلَدٍ كَافِرٍ -وَلَوْ كَانَ قَرْيَةً وَكَانَ عَدَدُهُمْ قَلِيلاً جِدًّا- إِلاَّ كَانَ أَوَّلُ عَمَلٍ لَهُمُ اتِّخَاذَ مَسْجِدٍ يَجْمَعُهُمْ؛ تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فِي هِجْرَتِهِ إِلَى المَدِينَةِ حِينَ بَادَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ قَبْلَ أَيِّ شَيْءٍ.

وَمَنْ قَرَأَ تَارِيخَ المُسْلِمِينَ مَعَ أَعْدَائِهِمْ يَجِدُ سُخْطَ الأَعْدَاءِ عَلَى المَسَاجِدِ، وَحِقْدَهُمْ عَلَى رُوَّادِهَا؛ فَإِذَا احْتَلُّوا بِلاَدًا لِلْمُسْلِمِينَ هَدَمُوا مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ مَسَاجِدِهَا أَوْ أَحْرَقُوهَا، وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ المُسْلِمِينَ، فَعَلَ ذَلِكَ الرُّومُ وَالصَّلِيبِيُّونَ وَالبَاطِنِيُّونَ وَالتَّتَرُ؛ فَالرُّوم كَانَوا يَغْزُونَ المُسْلِمِينَ فِي الشَّامِ مِنْ بِيزَنْطَةَ، وَفِي أَوَاسِطِ القَرْنِ الرَّابِعِ حَاصَرَ قَائِدُ الرُّومِ نَقْفُورُ المُسْلِمِينَ فِي طَرْسُوسَ، فَلَمْ يُنْجِدِ المُسْلِمِينَ أَحَدٌ حَتَّى اسْتَسْلَمُوا وَاشْتَرَطَ نَقْفُورُ لِتَأْمِينِ المُسْتَسْلِمِينَ مِنَ القَتْلِ تَخْرِيبَ جَامِعِ طَرْسُوسَ وَمَسَاجِدَهَا، وَقَامَ نَقْفُورُ بِإِحْرَاقِ المَصَاحِفِ، وَتَخْرِيبِ المَسَاجِدِ، وَجَعَلَ المَسْجِدَ الجَامِعَ اصْطَبْلاً لِدَوَابِّهِ، ثُمَّ أَحْرَقَ البَلَدَ!

وَبَعْدَ عُقُودٍ دَخَلَ إِخْوَانُهُ الصَّلِيبِيُّونَ أَنْطَاكِيَةَ فَذَبَحُوا المُؤَذِّنِينَ وَهُمْ يُؤَذِّنُونَ لِصَلاَةِ العِشَاءِ، وَاسْتَبَاحُوا المَسَاجِدَ، وقَتَلُوا النَّاسَ فِيهَا وَسَارُوا إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ فَقَتَلُوا فِيهِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَعَلُوا مُقَدِّمَةَ المَسْجِدِ الأَقْصَى اصْطَبْلاً لِخُيُولِهِمْ، وَحَظَائِرَ لِخَنَازِيرِهِمْ، وَحَالُوا بَيْنَ المُسْلِمِينَ وَبَيْنَ المَسْجِدِ الأَقْصَى زُهَاءَ تِسْعِينَ سَنَةً.

وَفِي القَرْنِ الرَّابِعِ أَيْضًا اسْتَبَاحَ القَرَامِطَةُ العِرَاقَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى مَكَّةَ فَيَسْتَبِيحُوهَا، فَمُنِعَ النَّاسُ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَسَارُوا إِلَى مَكَّةَ وَاسْتَبَاحُوهَا وَذَبَحُوا الحَجِيجَ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَقَلَعُوا مِيزَابَهَا، وَحِيلَ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الحَرَمِ بِسَبَبِهِمْ، وَعُطِّلَتِ المَسَاجِدُ فِي مَكَّةَ.

وَدَخَلَ التَّتَرُ بَغْدَادَ فِي أَوْاسِطِ القَرْنِ السَّابِعِ فَقَتَلُوا الخُطَبَاءَ وَأَئِمَّةَ المَسَاجِدِ، وَخَرَّبُوا مَا خَرَّبُوا مِنْهَا، وَتَعَطَّلَتْ صَلاَةُ الجُمُعَةِ وَالجَمَاعَةِ فِي كُلِّ بَغْدَادَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَبَعْدَهَا بِأَشْهُرٍ سَارُوا إِلَى حَلَبَ فَأَحْرَقُوا مَسَاجِدَهَا.

وَكُتُبُ التَّارِيخِ مَمْلُوءَةٌ بِأَخْبَارِ الحَاقِدِينَ عَلَى مَسَاجِدِ المُسْلِمِينَ مِنَ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ وَالبَاطِنِيِّينَ، وَاسْتِهْدَافِهَا بِالهَدْمِ، وَاسْتِهْدَافِ أَئِمَّتِهَا وَخُطَبَائِهَا وَرُوَّادِهَا بِالقَتْلِ.

وَفِي عَصْرِنَا هَذَا احْتَلَّ اليَهُودُ القُدْسَ فَأَحْرَقُوا المَسْجِدَ الأَقْصَى أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَهَدَمُوا كَثِيرًا مِنْ مَسَاجِدِ فِلَسْطِينَ. وَقَبْلَ عِشْرِينَ سَنَةً احْتَلَّ الصِّرْبُ البُوسْنَةَ وَالهَرْسَكَ فَهَدَمُوا فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ سِتِّمَائَةِ مَسْجِدٍ، وَهَدَمَ الرُّوسُ فِي غَزْوِهِمُ المُتَكَرِّرَ لِلشِّيشَانِ وَأَفْغَانِسْتَانَ مَا لاَ يُحْصَى مِنَ المَسَاجِدِ.

وَهَدَمَ البُوذِيُّونَ مَسَاجِدَ كَثِيرَةً فِي تُرْكِسْتَانَ الشَّرْقِيَّةِ وَفِي مَانِيمَارَ، وَهَدَمَ الهُنْدُوسُ فِي الهِنْدِ مَسَاجِدَ قَدِيمَةً للمُسْلِمِينَ، وَسَلَّمَ الصَّلِيبِيُّونَ الجُدُدُ العِرَاقَ لِلصَّفَوِيِّينَ فَعَاثُوا فِيهَا فَسَادًا، وَاسْتَهْدَفُوا رُوَّادَ المَسَاجِدِ وَخُطَبَاءَهَا وَأَئِمَّتَهَا بِالذَّبْحِ، وَمَقَاطِعُ قَتْلِهِمْ يَتَنَاقَلُهَا النَّاسُ بِأَجْهِزَتِهِمْ، حَتَّى أَصْدَرَتْ رَابِطَةُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي العِرَاقِ قَرَارًا بِغَلْقِ المَسَاجِدِ مُدَّةً؛ احْتِجَاجًا عَلَى تَصْفِيَةِ الأَئِمَّةِ وَالخُطَبَاءِ وَالمُؤَذِّنِينَ وَالمُصَلِّينَ، وَحِفَاظًا عَلَى أَرْوَاحِهِمْ، وَرَأَى النَّاسُ صُورَةَ إِعْلَانٍ ضَخْمٍ مُعَلَّقٍ عَلَى مَسْجِدِ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الأَعْظَمِيَّةِ مَكْتُوبٍ فِيهِ: (الجَامِعُ مُغْلَقٌ إِلَى إِشْعَارٍ آخَرَ بِسَبَبِ اسْتِهْدَافِ الأَئِمَّةِ وَالخُطَبَاءِ وَالمُصَلِّينَ)!

وَرَأَى النَّاسُ مَقَاطِعَ كَثِيرَةً لِدَكِّ النُّصَيْرِيَّةِ لِمَسَاجِدِ الشَّامِ، وَإِحْرَاقِ المَصَاحِفِ، وَاسْتِحْلاَلِ دِمَاءِ المُصَلِّينَ، وَتَخْرِيبِ أَثَاثِهَا وَحَرْقِهِ، وَتَعَاطِي المُحَرَّمَاتِ فِيهَا، وَالسُّخْرِيَةِ من الصَّلاَةِ والقُرْآنِ.

وَفِي أَنْجُولا حَمْلَةٌ تَسْتَهْدِفُ المَسَاجِدَ، أَدَّتْ إِلَى هَدْمِ بَعْضِهَا، وَغَلْقِ بَعْضِهَا، وَيُرِيدُونَ إِنْهَاءَهَا عَلَى قِلَّتِهَا.

وَالجَامِعُ بَيْنَ أَحْدَاثِ القَدِيمِ وَالحَدِيثِ فِي اسْتِهْدَافِ مَسَاجِدِ المُسْلِمِينَ هُوَ: مُحَاوَلَةُ مَحْوِ شَعَائِرِ الإِسْلاَمِ بِأَيِّ طَرِيقَةٍ كَانَتْ.

إِنَّ كُلَّ دِيَانَاتِ البَشَرِ وَمَا تَشَعَّبَ مِنْهَا مِنْ مَذَاهِبَ فِيهَا شَعَائِرُ ظَاهِرَةٌ، وَلَهَا مَعَابِدُ بَارِزَةٌ، وَلاَ يُوجَدُ أَيُّ حَمْلَةٍ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ عَلَى شَعَائِرِ وَمَعَابِدِ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، بَلْ حُرِّيَّةُ التَّدَيُّنِ وَمُمَارَسَةُ الشَّعَائِرِ مَكْفُولَةٌ لِشَتَّى المِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَسَبَبُ الحَمْلَةِ عَلَى مَسَاجِدِ المُسْلِمِينَ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ المَعَابِدِ وَالشَّعَائِرِ أَنَّ الإِسْلاَمَ دِينُ الحَقِّ الَّذِي يَجْذِبُ النَّاسَ إِلَيْهِ، وَمَنْ ذَاقَ حَلَاوَتَهُ لَمْ يُفَارِقْهُ، وَالمُسْلِمُ -وَهُوَ يُؤَدِّي شَعَائِرَ دِينِهِ- لاَ يَشُكُّ فِيهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيَجِدُ حَلاَوَةً فِي عِبَادَتِهِ، أَمَّا أَصْحَابُ الدِّيَانَاتِ وَالمَذَاهِبِ البَاطِلَةِ فَهُمْ فِي شَكٍّ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ، وَيَرْوَنَ فِيهَا مَا يُنَاقِضُ العُقُولَ، وَمَا يُنَافِي الفِطَرَ؛ فَالصَّادِقُ مِنْهُمْ فِي تَدَيُّنِهِ يُلْزِمُ نَفْسَهُ بِالبَاطِلِ الَّذِي يَعْتَنِقُهُ مُدَّةً إِلَى أَنْ يَضِيقَ بِهِ ذَرْعًا، فَإِمَّا هَجَرَ المَعَابِدَ، وَعَطَّلَ الشَّعَائِرَ، وَصَارَ مُنْتَسِبًا لِلدِّينِ بِالاسْمِ دُونَ العَمَلِ، وَهُوَ حَالُ أَكْثَرِ النَّصَارَى وَالهُنْدُوسِ وَالبُوذِيِّينِ وَالبَاطِنِيِّينَ، وَإِمَّا بَحَثَ عَنِ الحَقِّ حَتَّى يَصِلَ للإِسْلاَمِ، وَهَذَا يُفَسِّرُ إِسْلاَمَ عَدَدٍ مِنَ الكَارِهِينَ للإِسْلاَمِ، المُنَاصِبِينَ لَهُ العِدَاءَ؛ لِأَنَّ عَدَاءَهُمْ لَهُ كَانَ عَنْ صِدْقٍ فِي التَّدَيُّنِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ اعْتَنَقُوهُ، وَصَارُوا مِنْ دُعَاتِهِ المُنَافِحِينَ عَنْهُ، وَخِيَارُ النَّاس فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا.

وَأَكْثَرُ مَا يُغِيظُ الأَعْدَاءَ مِنْ مَسَاجِدِ المُسْلِمِينَ أَنَّهُ رَغْمَ الحَمَلاَتِ المَسْعُورَةِ عَلَى الإِسْلاَمِ إِعْلاَمِيًّا وَثَقَافِيًّا وَسِيَاسِيًّا وَعَسْكَرِيًّا؛ فَإِنَّ رُوَّادَ المَسَاجِدِ يَزِيدُونَ وَلاَ يَنْقُصُونَ، وَكُلُّ بَلَدٍ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِ مُسْلِمٍ تَزْدَادُ فِيهِ المَسَاجِدُ وَتَتَّسِعُ وَتَنْتَشِرُ، وَيَكْثُرُ رُوَّادُهَا بَيْنَمَا تُهْجَرُ الكَنَائِسُ وَالمَعَابِدُ حَتَّى يَتِمَّ إِغْلاَقُهَا، وَكَمِ اشْتَرَى المُسْلِمُونَ مِنْ كَنَائِسَ وَمَعَابِدَ يُشْرَكُ فِيهَا بِاللهِ تَعَالَى فَحَوَّلُوهَا إِلَى مَسَاجِدَ يُذْكَرُ سُبْحَانَهُ فِيهَا، وَهَذَا الَّذِي أَفْزَعَ أَهْلَ الكُفْرِ وَالنِّفَاقِ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 32- 33].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ...

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَفَاخِرُوا بِدِينِكُمْ، وَافْرَحُوا بِهِدَايَةِ اللهِ لَكُمْ: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]، أَقِيمُوا أَرْكَانَهُ، وَأَظْهِرُوا شَعَائِرَهُ، وَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، وَادْعُوا غَيْرَكُمْ إِلَيْهِ: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].

أَيُّهَا النَّاسُ: الحَمَلاَتُ عَلَى مَسَاجِدِ المُسْلِمِينَ قَدِيمَةٌ قِدَمَ دَعْوَةِ الإِسْلاَمِ، وَفِي العَهْدِ النَّبَوِيِّ رَدَّ المُشْرِكُونَ المُسْلِمِينَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَكَانَ صُلْحُ الحُدَيْبِيَةِ وَأُنْزِلَ فِيهِ: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِد الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح: 25].

وَكَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ يَرَوْنَ أَثَرَ المَسْجِدِ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَابْتَنَى أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ المُنَافِقُ مَسْجِدَ الضِّرَارِ؛ لِيَكُونَ مَجْمَعًا لِلمُنَافِقِينَ، وَتَفْرِيقًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَرْصَدًا لِلْمُحَارِبِينَ، وَمَشَاقَّةً لِمَسَاجِدِ المُسْلِمِينَ، فَفَضَحَ اللهُ تَعَالَى قَصْدَهُ فِي قُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَأَخْبَرَ نَبِيَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- بِنِيَّةِ أَبِي عَامِرٍ الخَبِيثَةِ، فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ وَحَرْقِهِ.

إِنَّ مَنْعَ المُسْلِمِينَ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ، وَمُضَايَقَتَهُمْ فِيهَا، وَالحَيْلُولَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا طَرِيقٌ يَسْلُكُهُ الكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ لِإِخْرَاجِ المُسْلِمِينَ مِنْ دِينِهِمْ، وَتَعْطِيلِ شَعَائِرهِمْ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ، فَمَا أَفْلَحَ السَّابِقُونَ، وَلَنْ يُفْلِحَ اللاحِقُونَ، وَسَتَبْقَى مَسَاجِدُ اللهِ تَعَالَى يُصْدَعُ فِيهَا بالأَذَانِ والقُرْآنِ رَغْمَ أُنُوفِ الكُفَّارِ والمُنَافِقِينَ، وَهِيَ وَإِنْ هُدِمَتْ فِي بَلَدٍ زَادَتْ فِي بُلْدَانٍ، وَوَاجِبٌ عَلَى المُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ الأَرْضِ نُصْرَةُ مَسَاجِدِ اللهِ تَعَالَى وَرُوَّادِهَا بِكُلِّ أَنْوَاعِ النُّصْرَةِ؛ لِأَنَّ المَسَاجِدَ مِنْ أَعْلاَمِ الإِسْلاَمِ البَارِزَةِ، وَتُقَامُ فِيهَا الشَّعَائِرُ اليَوْمِيَّةُ الظَّاهِرَةُ، فَنُصْرَتُهَا وَنُصْرَةُ رُوَّادِهَا نُصْرَةٌ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى؛ وَ"مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ".

وَمِنْ نُصْرَةِ المَسَاجِدِ وَنُصْرَةِ أَهْلِهَا: عِمَارَتُهَا بِالطَّاعَةِ، وَالتَّرَدُّدُ عَلَيْهَا لِحُضُورِ الجَمَاعَةِ، وَتَكْثِيرُ سَوَادِ المُصَلِّينَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُغِيظُ الكُفَّارَ والمُنَافِقِينَ، وَإِغَاظَتُهُمْ بِإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الدِّينِ، وَلاَ يُحَافِظُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ أَهْلُ الإِيمَانِ وَاليَقِينِ: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِد اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَة وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ) [التوبة: 18]. والنَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- كَانَ يَقْصِدُ إِظْهَارَ شِعَائِرِ الدِّينِ؛ لِإِعْلاءِ المِلَّةِ، وَإِعْزَازِ الشَّرِيعَةِ، وَمُرَاغَمَةِ الكُفْرِ وَأَهْلِهِ.

وَمِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ مَنْعُ المُسْلِمِينَ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ، وَأَعْظَمُ مِنْهُ هَدْمُهَا أَوْ حَرْقُهَا أَوْ تَخْرِيبُهَا: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِد اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [البقرة: 114]، وَتَعْطِيلُ المَسَاجِدِ عَنِ الصَّلاَةِ وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الإِسْلاَمِ فِيهَا خَرَابٌ لَهَا، حَتَّى المَرَأَةُ لاَ تُمْنَعُ مِنَ المَسْجِدِ إِنْ أَرَادَتِ الصَّلاَةَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَتْ صَلاتُهَا فِي بَيْتِهَا خَيْرًا لَهَا مِنْ صَلاَتِهَا فِي المَسْجِدِ؛ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ جَرِيمَةِ مَنْعِ المُسْلِمِينَ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ بِهَدْمِهَا أَوْ حَرْقِهَا أَوْ إِغْلاقِهَا أَوِ الحَيْلُولَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا، حَتَّى كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وَمِنْ أَكْبَرِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ.

فَانْصُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ تَعَالَى، وَانْصُرُوا رُوَّادَهَا مِنَ المُصَلِّينَ يَنْصُرْكُمُ اللهُ تَعَالَى، وَيَرْفَعْ ذِكْرَكُمْ، وَيُعْلِ قَدْرَكُمْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 7 - 9]، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي