أشج بني أمية

عبدالله بن محمد العسكر
عناصر الخطبة
  1. تفقد عمر بن الخطاب لأحوال رعيته .
  2. قصة تزويج عمر لابن عاصم بفتاة امتنعت عن خلط اللبن بالماء .
  3. اسم عمر بن العزيز ونسبه وبعض مناقبه .
  4. علو همته .
  5. خوفه من الله .
  6. بكاء عمر رعيته .
  7. استشعاره لعظم للمسؤولية .
  8. سلامة سريريته .
  9. عدله .
  10. زهده .
  11. تعامله مع أبنائه .
  12. تواضعه .
  13. بعض مواعظه وخطبه .
  14. مرضه ووفاته وحسن خاتمته .

اقتباس

كان هذا الرجل عظيماً بحق؛ لأنه كان قمة في كل خلق حسن، لم يكن زاهداً فحسب، أو عادلاً فحسب، أو أواباً عابداً فحسب، بل جمع تلك الصفات جميعاً، فكان عبداً لله، أواباً منيباً، صالحاً تقياً، نقياً ورعاً، عدلاً إماماً، لا يُذكر العدل والصلاح والتقى إلا ويُذكر عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -. يحدث عن نفسه وعن طبيعته، فيقول: "إن لي نفساً تَوَّاقَة، لم تنل شيئاً إلا إذا نالته تَاقَت إلى ما هو أعلى منه، وإني اليوم قد نلت الـ...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، الحمد لله الذي خلق الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة من عذابه يوم القيامة، وأصلي وأسلم على من بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

اللهم صل على محمد وآله، وأصحابه وزوجاته، وذريته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا ربكم، وأنيبوا إليه، واستغفروه، وتوبوا إليه؛ يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضله.

عباد الله: جاء في أخبار الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما حدَّث به مولاه أسلم، قال: "كنت أنا وعمر -رضي الله عنه- في ليلة من الليالي، وهو يعس بالمدينة" يتفقد أحوال الناس ويبحث عن المحتاجين والفقراء والمساكين "كنت أنا وعمر في ليلة من الليالي وعمر يعس المدينة، فأعياه المشي؛ فاتكأ على جدار ليرتاح، فإذا به يسمع خلف جدار هذا البيت امرأة تقول لابنتها: با بنية، قومي فامْذِقِي اللبن بالماء" أي اخلطيه بالماء حتى يزيد، ولعلهم كانوا يبيعون هذا للناس "قومي -يا بنيه- فامْذِقِي اللبن بالماء، فقالت هذه البنية: يا أماه، أما علمت بعَزْمَة أمير المؤمنين؟!

قالت: وما عزمة أمير المؤمنين يا بنية؟ قالت: إن منادي عمر قد نادى في الناس: أن لا يُشَاب اللبن بالماء، فقالت أمها: قومي - يا بنية - فامذقيه بالماء؛ إنك الآن في موطن لا يعلم بك عمر، ولا منادي عمر، فقالت هذه الفتاة الصالحة التي تربت على خوف الله -عز وجل-، وعلى مراقبته، قالت: والله يا أمتاه، ما كنت لأطيعه في العلن وأعصيه في السر!.

المراقبة الصادقة لله -عز وجل- في مواقف الخلوات كمواقف الجلوات، لا فرق بينهما، سمع عمر هذا الكلام العجيب،

فقال لمولاه أسلم: "يا أسلم، علِّم على الباب"؛ لأن عمر كان يريد أن يعرف مَنْ أهل هذا البيت، فلما جاء الصباح قال عمر لمولاه أسلم: "اذهب إلى ذاك البيت، فاسأل عن حالهم، وعن تلك الفتاة، هل هي ذات بعل أم لا؟ فذهب أسلم وسأل، فإذا الفتاة أيّمٌ لا زوج لها، فجمع عمر بنيه، وقال: "يا بَنيَّ! هل منكم أحد يحتاج إلى امرأة فأزوجه؟" قال عاصم ابنه: أنا يا أبتاه ليست لي زوجة؛ فزوجني، فخطب عمر لابنه عاصم تلك الفتاة الصالحة [بتصرف من أخبار أبي حفص للبغدادي (1/48-49)].

لم يسأل عمر عن جمالها، وعن نسبها وحسبها! إنما كان الأهم عند عمر أن يزوج ولده بامرأة صالحة، امرأة تقية، فتزوجها عاصم، ومرت الأيام، فولِد لهم، ثم تمر الأيام وتدور دورتها، فتكبر بنت عاصم، فتُزوجُ برجِل، فتنجب منه فتى كان علماً من أعلام الإسلام، وعظيماً من عظماء هذه الأمة.

يقول فيه الإمام الذهبي -رحمه الله-: "كان من أئمة الاجتهاد، ومن الخلفاء الراشدين".

وكان "حسن الخَلْق والخُلُق، كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة، حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أواهاً منيباً، قانتاً لله حنيفاً" [سير أعلام النبلاء (5/ 114، 120)].

ولعلكم عرفتم -عباد الله- من هو هذا الفتى، ومن هو هذا العظيم الذي هو من نسل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه-، إنه: أشج بني أميه، عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم -رضي الله عنه ورحمه-.

كان هذا الرجل عظيماً بحق؛ لأنه كان قمة في كل خلق حسن، لم يكن زاهداً فحسب، أو عادلاً فحسب، أو أواباً عابداً فحسب، بل جمع تلك الصفات جميعاً، فكان عبداً لله، أواباً منيباً، صالحاً تقياً، نقياً ورعاً، عدلاً إماماً، لا يُذكر العدل والصلاح والتقى إلا ويُذكر عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -.

يحدث عن نفسه وعن طبيعته، فيقول: "إن لي نفساً تَوَّاقَة، لم تنل شيئاً إلا إذا نالته تَاقَت إلى ما هو أعلى منه، وإني اليوم قد نلت الخلافة"

وهل بعد الخلافة شيء؟! وهل بعد هذه المنزلة منزلة؟! فهل توقفت نفس عمر عن أن تطمح إلى ما فوق ذلك؟ كلا، بل إنها النفس التواقة، قال: "فلما نلت الخلافة تاقت نفسي إلى الجنة" [بتصرف من وفيات الأعيان لابن خلكان (2/301)].

وهي منتهى الآمال، وغاية المنى -جعلنا الله وإياكم من أهلها-.

أجل، لقد تاقت نفس عمر إلى الجنة؛ فرخُصَت عنده الدنيا جميعاً، الدنيا التي أتت إليه بكل ما فيها، فهو يملك - لو شاء - خزائن المال، وكنوز الذهب والفضة! ولكنه كان يخشى الله -تعالى-، ويخاف من ربه -عز وجل-؛ فزهد في الدنيا وتركها كلها، يقول مالك بن دينار -العالم الزاهد العابد-: "يقول الناس عني: مالك زاهد، مالك زاهد! وأي زهدٍ زهدُ مالك، وليس لمالك إلا جبة وكساء؟! إنما الزاهد عمر بن العزيز؛ الذي أتته الدنيا راغمة فأعرض عنها" [بتصرف من تاريخ دمشق لابن عساكر (45/209)].

أجل، لو شاء عمر لامتلك القصور والأموال والعقارات، ولكنه كان يعلم أنه ليس له في ذلك حق.

إن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- لم يكن ليصل إلى هذه المنزلة العظيمة من الذكر الحسن الذي تتذاكره الأجيال جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن، لم يكن عمر ليصل إلى هذه المنزلة السامية العلية لولا أنه يمتلك قدراً من الصفات العظيمة التي صنعت شخصيته، وصقلت ذاته، فبلغ هذا المنزلة السامية.

لقد كان من أجلِّ صفات عمر خوفه من الله -عز وجل-، ولم يكن خوف عمر إلا من الله -تعالى-؛ لأنه كان الخليفة، فإذا كان خليفةً فهل سيخاف من أحد من أهل الأرض؟! خاصة وأن خلفاء المسلمين في ذلك الزمن كانوا هم سادة الدنيا، وكانت تذِل لهم ملوك الشرق والغرب، فمِمَّنْ يخاف عمر إذاً؟!.

ولقد بلغ الخوف في قلب عمر مبلغاً عجيباً! تُحدث عنها زوجته فاطمة -رحمها الله-، وهي أقرب الناس إليه، تقول: "كان عمر يذكر الله في فراشه، فينتفض كما ينتفض العصفور، ثم يستوي جالساً يبكي حتى أخاف أن يصبح المسلمون ولا خليفة لهم"[بتصرف يسير من لطائف المعارف لابن رجب ص (254)].

تخاف أن تخرج روحه، وأن يموت لِما رأت من شدة بكائه وخوفه -رضي الله عنه وأرضاه-، تقول رحمها الله: "في ليلة من الليالي - بعد أن فرغ عمر من قضاء حوائج الناس - أطفأ السراج، ثم صلى ركعتين لله - عز وجل -، ثم قعد جالساً، ووضع يده تحت خده مطرقاً متأملاً، فما هو إلا قليل حتى بدأت الدموع الغزار تنفجر من عيني عمر، وإذا به يبكي وينتحب وينتفض".

فتقوم زوجته فزعةً، أتت إلى زوجها، إلى خليفة المسلمين الذي يبكي هذا البكاء العجيب، فقالت له: " يا أمير المؤمنين، ما الذي أبكاك؟!".

ما الذي تظنون -يا عباد الله-: أن يبكي عمر؟ وأخاف عمر فجعله لا يهنأ بنوم، والناس على فرشهم نائمون؟! جعله يبكي هذا البكاء العجيب، قال رحمه الله: "إني تذكرت رعيتي، فذكرت الأسير المقهور، واليتيم الجائع، والأرملة الثكلى؛ فخشيت ألا أكون قد قمت بحقهم، وعلمت أن حجيجي فيهم هو محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فخفت ألا تثبت لي قدم بين يدي الله -عز وجل-" [بتصرف من تاريخ دمشق لابن عساكر (45/197)].

هذا الذي أبكى عمر! ثقل الأمانة، واستشعار المسؤولية هو الذي جعل عمر يبكي هذا البكاء العجيب.

عن وهيب بن الورد قال: "بلغنا أن عمر بن عبد العزيز لما توفي جاء الفقهاء إلى زوجته فاطمة يعزونها، ثم قالوا لها: "رحمك الله إن أعلم الناس بالرجل أهل بيته؛ فحدثينا كيف كان عمر، فقالت فاطمة -رحمها الله-: "والله ما كان عمر بأكثر صلاة ولا صياماً منكم، ولكن واللهِ ما رأيت أحداً أشد خوفاً لله من عمر! لقد كان فيما ينتهي إليه سرور الرجل بأهله يعني معي على الفراش- فيتذكر الأمر من أمر الآخرة؛ فيقوم ينتفض وينتحب، فأطرح عليه اللحاف رحمة به، وشفقة عليه، وأنا أقول: يا ليت بيننا وبين الإمارة بعد المشرقين، والله ما رأينا خيراً منذ دخلنا فيها" [بتصرف من تاريخ دمشق لابن عساكر (45/236)].

لقد كان عمر -رضي الله عنه- يذكر الآخرة، فكأنه يرى مشاهدها ويبصر أهوالها، كأنه يرى أهل النار وهم يعذبون ويتضاغَوْن فيها، لقد كان عمر عابداً لله، خائفاً منه، مراقباً له في سره وعلانيته.

يحدث عبد الأعلى بن أبي عبد الله قال: "رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة، فلما صعد المنبر خطب بالناس، فقرأ قول الله -تعالى-: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)[التكوير: 1] ثم قال: وما شأن الشمس؟ ثم قرأ: (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير: 2] حتى إذا بلغ قوله تعالى: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)[التكوير: 12، 13] قال: فبكى، وبكى أهل المسجد جميعاً حتى رأيت كأن حيطان المسجد تبكي معه! " [بتصرف يسير من الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص (90)].

أجل إنه الصدق في الموعظة، وسلامة السريرة، وعظيم الخوف من الله -عز وجل-.

أما عدل عمر، فما ظنك برجل بلغ خوف الله منه هذا المبلغ؟! كيف سيكون عدله إذاً؟! رجل لا يخاف إلا الله أتظن به الظلم والبغي والاعتداء على حقوق الناس وأموالهم؟! كلا والذي لا إله غيره.

حينما تولى الخلافة دعا زوجته فاطمة، فقال لها: يا فاطمة، الحُلِي والذهب الذي عندك تعلمين من أين هو؟ - بالطبع من بيت مال المسلمين-؛ فهما أمران: إما أن أُرجِع هذا الحلي إلى بيت المال، أو فخذيه وفارقيني، فو الله لا أجتمع أنا وهو في دار واحدة!، قالت: لا والله - يا أمير المؤمنين - لا أُوثر على صحبتك شيئاً، فردته رحمها إلى بيت مال المسلمين، فلما مات عمر، وجاء أخوها يزيد بن عبد الملك رد إليها الحُلِي، وقال: هو لكِ، قالت: لا والله لا آخذه؛ وقد أخذه مني عمر! فأخذه يزيد، وقسمه على بناته. [بتصرف من تاريخ دمشق لابن عساكر (70/31)].

أتاه أحد أبناء عمومته - وهو عنبسة بن سعيد، وكان سليمان بن عبد الملك الخليفة السابق لعمر قد أمر لعنبسة هذا بعشرين ألف دينار إلا أنه مات قبل أن يُمضِيَها، يقول عنبسة: "فلما ولِيَ عمر دخلت عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنَّ سليمان قد أمر لي بعشرين ألف دينار، وإنه مات قبل أن أقبضها، وأنت أحق من أمضى عطاءه، فانتفض عمر، وقال: عشرون ألف دينار؟! تكفي لأربعة آلاف من المسلمين!".

انظر -عبد الله- إلى الحساب العجيب عند عمر! حتى هذا الرقم لم يكن عمر ليعرفه بهذه السرعة لولا أنه كان دائماً يمارس هذه العملية، كم يحتاج الفقير؟ كم يحتاج المسكين؟ فعمر غضب، وقال: "عشرون ألف دينار تأخذها تكفي لأربعة آلاف من المسلمين! لا والله لا أعطيكها أبداً".

فولى عنبسة حزيناً مكسور الخاطر، فلما دنى من الباب، يقول: "ناداني عمر، فقال: يا أبا خالد! قال: فخطر في قلبي أنه رحمني، وأنه سيعطيني" خاصة أن عمر وعنبسة كانا صديقين، وكان بينهما ألفة ومحبة، لكن عمر لم يكن يحابي في دين الله أحدا، لم يكن يقرب فلاناً وفلاناً لأجل قرابته ولمحبته، كلا إنما هو العدل والميزان الذي لا يختلف فيه الناس، قال: "فقال: يا أبا خالد، يا أبا خالد، اذكر الموت؛ فإنه ما ذُكر في قليل إلا كثَّره، ولا في كثير إلا قلَّله!" [بتصرف من سيرة عمر لابن عبد الحكم المصري، ص (55)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (5/264)].

الله أكبر! هكذا كانت أُعطيات عمر! هذه جوائز عمر! مواعظ وكلمات تنير الدرب، وتقرب العبد من الله -جل وعلا-.

لقد ضرب عمر -رضي الله عنه- مثلاً عالياً في العدل، ومنارة سامِقَة في سمائه البَهِيَّة؛ اسمعوا -عباد الله- إلى هذه القصة التي حدثت في عهد عمر، والتي تدل على عظيم عدله -رحمه الله ورضي الله عنه-: أرسلت إليه امرأة فقيرة من الموالي رسالة من مصر، أرسلت إليه ببرقية -إن صح التعبير- تقول فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من فرتونة السوداء إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز".

تأملوا، واسمعوا إلى هذا الخطاب، وما هي القضية التي ستُكلم بها أمير الدنيا، وأعظم رجل في ذلك الوقت: "من فرتونة السوداء إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، أما بعد: فإن لي جداراً على حائطي انهدم بعضه؛ فأصبح الغلمان يعبرون على حائطي، فيسرقون دجاجي"!.

انظر إلى القضية التي كانت تُشغل بال هذه المرأة، وكيف جَرُأت أن تكتب خطاباً لأمير المؤمنين، وخليفة المسلمين بهذه القضية اليسيرة؛ ولولا أنها تعلم تواضع عمر، وعدل عمر، وإلا لما كتبت إليه، فما كان من عمر -رضي الله عنه- إلا أن رد عليها بقوله: "من عبدِ الله عمرَ بنِ عبد العزيز إلى فرتونة، أما بعد: فإني قد أمرت عاملي" أي الأمير على مصر "أن يقيم لك الجدار، والسلام"[بتصرف من سيرة عمر لابن عبد الحكم المصري ص (62)].

هكذا بلغ عدل عمر وحرصه حتى على هؤلاء الذين ربما لا يعلم بهم أقرب الناس إليهم.

أما زهد عمر، فقد كان مضرِب المثل، كيف كانت معيشة عمر؟ وكيف كان عمر في بيته؟ ما تقولون في رجل أتته الدنيا جميعاً فأعرض عنها؟!.

لما تولى عمر الخلافة تغير حاله، فكان شيئاً عجباً! تخلى عن مظاهر الدنيا، تخلى عن نعيم الدنيا بأسره، حتى تغير شكله، وشحب وجهه، وثار رأسه، دخل عليه محمد بن كعب القرضي -رحمه الله-، فلما رآه بعد أن تولى الخلافة بأيام إذا به ينظر إلى وجه شاحب، وبدن ناحل، ورأس أشعث، وهيئة رثة، وهو خليفة المسلمين! كنوز الأرض تحت قدميه! ينظر إلى رجل كأن جبال الدنيا على عاتقه يحملها -وهي هموم المسلمين-؛ هي التي فعلت واللهِ بعمر هذا الفعل، فجلس متعجباً ينظر إليه، ففطن فيه عمر، وقال: "ما لك يا ابن كعب تنظر إليَّ؟!" فقال: "يا أمير المؤمنين، عجبت والله من حالك!".

وقد كان عمر قبل الخلافة ناعم البشرة، بهي الثياب، وكان يُضرب به المثل حتى في مشيته، وفي لباسه، ثم لما تولى الخلافة -وكان من المتوقع أن يزداد من هذا النعيم- إذا به يتحول هذا التحول المذهل، فيراه محمد بن كعب، وقد تغير حاله، فقال: "الذي جعلني أعجب هو حالك -يا أمير المؤمنين-".

فماذا قال عمر -رضي الله عنه-؟ قال: "يا محمد، يا محمد كيف لو رأيتني بعد ثلاث من دفني، وقد سالت العينان، وانخسفت الوجنتان، وأتى على الجوف الديدان؟! أما لو رأيتني عند ذلك لكنت لحالي من حالي أشد عجباً، وكنت لي أعظم إنكاراً! فبكى محمد، وضج المجلس بالبكاء!" [انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/288)].

عباد الله: دعونا نتأمل كيف كان عمر يعامل أولاده؟ هل كان أولاد الخليفة يخبطون في مال المسلمين، ويأخذون ما يشاؤون بحجة أنهم أبناء الخليفة؟

كلا، ليس هذا منهج عمر أبداً، بل كان يقيم العدل على أهل بيته قبل الناس، وكان يضع فيهم ميزان العدل قبل غيرهم، بل ربما شدد عليهم أكثر من غيرهم.

كان من عادة عمر -رضي الله عنه- أنه إذا صلى العشاء رجع إلى بيته، وجلس مع بنياته الصغار، وفي ليلة دخل كعادته ليسلم ويجلس مع بناته، فلما رأينه قد دخل ابتدرن الباب جميعاً، وقد وضعن أيديهن على أفواههن، فعجب عمر! ما الذي جعلهن يهربن ويمضين لما رأينه على غير العادة؟!

فسأل الحاضنة، وقال: "ما شأن بنياتي؟ لم خرجن وقد وضعن أيدهن على أفواههن؟ قالت: يا أمير المؤمنين".

اسمعوا -عباد الله- كيف كان حال أبناء الخليفة وبناته؟ "يا أمير المؤمنين، إنه لم يكن عندهن شيء يأكلنه إلا العدس والبصل، فأكلنه؛ فخشين لما دخلت أن تجد منهن رائحة البصل، فهذا الذي جعلهن يهربن من بين يديك!".

فبكى عمر -رحمه الله-، ثم قال: "يا بنياتي، ما ينفعكن أن تعيشن الألوان، ويؤمر بأبيكن إلى النار".

أجل، لقد أكل خوف النار قلبه، يخاف من عذاب الله، فهذا الذي جعله -رحمه الله- يشدد على بناته؛ لأنه لا يملك شيئاً، فبكين حتى علت أصواتهن، ثم انصرف بعد ذلك [بتصرف من سيرة عمر لابن عبد الحكم المصري، ص (54)].

بلغه عن أحد أبنائه -ممن كان له مال ورثه من قبل أن يتولى عمر الخلافة- بلغه أنه اشترى خاتماً فصُّه بألف درهم، فاستدعاه عمر، وقال له: "أعزم عليك بالله إلا بعت فصك هذا، وأشبعت به ألف بطن جائع، واشتر خاتماً فصه بدرهم، واكتب عليه: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه!" [انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (5/305)].

هكذا كان عمر -رضي الله عنه- يتعامل مع أهل بيته، يقيم فيهم العدل، وهكذا كان عمر في هيئته وملبسه، يلبس متواضع الثياب التي لا يملك غيرها، وقد كان عماله وسعاتُه يسيحون في الديار يحملون الزكاة لا يجدون من يقبلها؛ لأن المال قد فاض، والخير قد انتشر، فلم يعد هناك فقراء [انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (45/213)].

لقد عَرف عمر بحقٍّ قدر نفسه؛ فرفع الله منزلته، وأعلى شأنه، فأصبحنا نذكره على المنابر بعد مئات السنين! رحم الله عمر، وغفر لعمر، وجمعنا بعمر في الجنة مع أحبابنا ووالدينا، وأزواجنا ونبينا الكريم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى سنته إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليماً كثيراً.

عباد الله: لقد عاش عمر بن عبد العزيز بين المسلمين وكان لسان حاله أعظم واعظ، وأفصح معلم، كان وعظه بمقاله غاية في البيان، ثم كان يتبع ذلك بفعال تبرهن صدق كلامه، لم يكن يجيد الخطابات، ويتحدث أمام الناس بعبارات يعلم الناس أنها محض كذب! كلا، لقد كان عمر يقول ويفعل، كان ينصح، فينكفئ على نفسه، فيكون أشد لها نصحاً.

خطب مرة خطبة على المنبر، وكانت خطبةً نورانيةً بهية، خرجت من قلب معمور بخشية الله، مملوءة بالزهد والإعراض عن الدنيا، فكان مما قال في خطبته: "أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإنه لا يأمن غداً إلا من حَذَر الله وخافه، وباع نافذاً بباق، وقليلاً بكثير، وخوفاً بأمان.

إنكم تُشَيِّعون في كل يوم غادياً ورائحاً إلى الله قد قضى أجله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهَّد، قد فارق الأحباب، وباشر التراب، وواجه الحساب؛ فاتقوا الله وموافاته، وحلول الموت بكم! أما والله إني لأقول هذا وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، ثم خنقته العبرة؛ فأخذ طرَف ردائه، فوضعه على وجهه، فبكى وأجهش بالبكاء، وأبكى من عنده، ثم نزل من منبره ذلك، فكانت تلك الخطبة هي آخر خطبة خطبها" [تاريخ دمشق لابن عساكر (45/213) بتصرف يسير] رحمه الله ورضي الله عنه.

وتدور الأيام دورنها ثم ينزل بعد ذلك بعمرَ الموت! الموت الذي طالما كان يستعد له عمر، الموت الذي طالما كان يذكره عمر، ويزين به مجلسه، فلما دنا أجله، واقتربت ساعاته الأخيرة دخل عليه مسلمة بن عبد الملك، فقال: "يا أمير المؤمنين، إنه قد نزل بك ما أرى، وإنك قد تركت صبيةً صغاراً لا مال لهم؛ فأوص بهم إليَّ، أو اقسم لهم من هذا المال" لقد مات عمر وهو لم يبلغ الأربعين من عمره، فكان أطفاله صغاراً لا يملكون شيئاً، فقال عمر -رضي الله عنه- وهو على فراش الموت-: "ادعوا إلي بَنِيَّ"، فجيء بهم، وكانوا بضعة عشر صبياً، كأنهم أفراخ، فنظر إليهم عمر، نظر إليهم بحنان الوالد، وعطف الأبوة، نظر إلى ضعف الطفولة، وإلى براءة أعينهم، فقال متألماً حزيناً: "بنفسي من تركتهم ولا مال لهم، أيْ بَنيَّ، إن أباكم قد كان خُيِّر بين أمرين: إما أن يُغنيَكم ويدخل النار، أو يُفقرَكم ويدخل الجنة؟ وإن أباكم قد اختار أن يُفقركم ويدخل الجنة، إن وليِّي عليكم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين، انصرفوا عني، فانصرفوا".

فجعل عمر -رضي الله عنه- يبتهل إلى الله في دعاء خاشع، يقول: "رباه، أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن أفضل ما أقول: "لا إله إلا الله".

ثم قال لمن حوله: "اخرجوا عني؛ فإني أرى خلقاً ما هم بإنس ولا جن، يزدادون كثرة" فخرجوا من عنده، فجعل عمر -رحمه الله- يلهج بالقراءة، يلهج بآيات كتاب الله - التي طالما قام بها في الليالي والناس نيام، طالما وقف في ظلمات الليل يناجي ربه خوفاً من هذه الساعة-، فجعل يردد القرآن، فسمعوه رحمه الله يقرأ هذه الآية: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].

ثم هدأ الصوت وسكن، وانقطع الكلام، فدخلوا عليه، فإذا هو رحمه الله قد مات، وقد أغمضت عيناه، ووُجِّه إلى القبلة[انظر: موارد الظمآن للسلمان (4/91) والمحتضرين لابن أبي الدنيا، ص (84)].

مَن وجَّهَه؟! من أغمض عينيه؟! إنها كرامة الله لأوليائه!.

لقد أغمضت عينان طالما بكتا من خشية الله، ويبس لسان طالما كان رطباً بذكر الله، وهدأت يدان طالما قامتا بطاعة الله -عز وجل-.

لقد أسلم عمر روحه لله، وفارق الدنيا بعد أن ضرب المثل في العدل والزهد، والصلاح والتقى.

مات عمر بعد أن لمست الأمة في عهده الأمن والطمأنينة، والراحة والسكينة، والعدل والأمان.

لقد مات عمر وقد حقق ذلك كله في سنتين وخمسة أشهر وبضعة أيام فقط!.

بهذه المدة الوجيزة صنع عمر هذا التاريخ المذهل، فرحم الله عمر، وأعلى ذكره في المهديين، وجمعنا به في جنات النعيم.

صلوا وسلموا على إمام العادلين الزاهدين محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم الله -جل وعلا- بذلك في محكم التنزيل، فقال جل شأنه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

وقال نبيكم وحبيبكم محمد: "أكثروا الصلاة علي في يوم الجمعة فإنه ليس يصلي علي أحد يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته"[أخرجه البيهقي في شعب الإيمان برقم (2769)].

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

اللهم كن للمستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم كن لإخواننا المكروبين المنكوبين في سوريا، اللهم كن لهم ناصراً ومعيناً، ومؤيداً وظهيراً، اللهم عجل لهم بالنصر يا رب العالمين، اللهم عليك بأعدائهم؛ فإنهم لا يعجزونك.

اللهم يا قوي يا عزيز، يا منتقم يا جبار، يا ذا القوة المتين، أنزل بطشك وعقابك وعذابك بطاغية الشام، اللهم أرنا فيه ما يشفي صدورنا، اللهم زلزل ملكه، اللهم أسقط عرشه، اللهم اجعله عبرة للمعتبرين يا رب العالمين.

اللهم كن للمستضعفين من المجاهدين في سبيلك في فلسطين، وفي بورما، وفي العراق، وفي سائر البلدان يا رب العالمين.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار.

اللهم آمنا في دورنا، وأصلح ولاة أمورنا، ووفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180 - 182].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي