عباد الله: حديثنا اليوم عن عظيم من عظماء الإسلام، وفارس من فرسان التوحيد، وبطل شهم من أبطال الصحب الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-. إنه أحد رجالات التاريخ القلائل الذين ضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة، والكرِّ والإقدام. لقد كان أسطورة التاريخ ومفخرة المسلمين، لم يشارك في معركة في جاهلية ولا في إسلام، إلا انتصر فيها! فكانت بحق أعجوبة من أعاجيب الزمان!. إنه أسد الإسلام، وليث المشاهد، وقائد المجاهدين، أبو ...
الحمد الله المبدئ المعيد الفعال لما يريد، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وصلى الله وسلم على الرسول المجتبى، والنبي المصطفى، بعثه الله رحمة للعالمين، وهداية للخلق أجمعين، أخرجنا الله به من الضلالة، وأنقذنا به من الغواية، اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى سنته إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -تبارك وتعالى-.
من يتق الله يُحمد في عواقبه *** * ويكفه شر من عَزُّوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركانُ
عباد الله: حديثنا اليوم عن عظيم من عظماء الإسلام، وفارس من فرسان التوحيد، وبطل شهم من أبطال الصحب الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
إنه أحد رجالات التاريخ القلائل الذين ضربوا أروع الأمثلة في الشجاعة والبطولة، والكرِّ والإقدام.
لقد كان أسطورة التاريخ ومفخرة المسلمين، لم يشارك في معركة في جاهلية ولا في إسلام، إلا انتصر فيها! فكانت بحق أعجوبة من أعاجيب الزمان!.
إنه أسد الإسلام، وليث المشاهد، وقائد المجاهدين، أبو سليمان خالدُ بن الوليد القرشيُّ المخزومي المكي، سيف الله المسلول، وسيف رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
نشأ خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في بيئة غنية مترفة، فكان أبوه أغنى رجل في قريش، وأبوه هو الوليد بن المغيرة الذي عناه الله تبارك وتعالى في سورة المدثر بقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) [المدثر: 11 - 15].
وإنك لتعجب أن يُخرج الله -سبحانه وتعالى- هذا العبد الصالح وهذا الصحابي الجليل من صلب ذلك الرجل الكافر الفاجر! ولله -تبارك وتعالى- الحكمة فيما يشاء وفيما يذر، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
أسلم رضي الله وأرضاه في صفر من السنة الثامنة للهجرة، وخرج مهاجراً إلى المدينة، فسُرَّ المسلمون وفرحوا فرحاً شديداً بإسلامه، وفرح بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إنه حين رآه هشَّ في وجهه وبشَّ، وقال: "الحمد لله الذي هداك؛ قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير" [أخرجه الواقدي في مغازيه (2/749)].
ولقد فرح المسلمون فرحا عظيماً بإسلام هذا البطل الشجاع الذي أعزه الله بالإسلام، وأعز الإسلام به، وتحول عداءُ خالد السالف للإسلام إلى معاداة سافرة وشدة وبأساء على أعداء الله الكفار.
وكان لهذه الشخصية -شخصية خالد بن الوليد- سمات جعلته يتألق ويصل إلى هذه المرتبة، وله من المناقب والأفضال ما حكته دواوين السنة وكتب التاريخ؛ فمن سمات هذه الشخصية العظيمة:
أنه رضي الله عنه وأرضاه كان صادقاً في تعلقه بربه -عز وجل-، شديد التوكل عليه؛ ولهذا نصره الله في جميع المعارك التي خاضها، فما من معركة انهزم فيها؛ لأنه كان معتصماً بربه -جل وعلا-، واثقاً بحبل الله المتين، ومتى كان العبد مع الله في شأنه كان الله معه، وإذا كان الله معك فنم قرير العين.
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نَـمْ فالحوادث كلّهن أمانُ
في أحدى الغزوات في شمال الجزيرة لما كان قائداً للمسلمين في ذلك الجيش حوصر المسلمون، وكادت أن تذهب بيضتهم، وأن تُستأصل شَأْفتهم، فالتفتوا يمينا وشمالا، فإذا العدو يحاصرهم من كل جانب، وكان هناك جبلان مشهوران معروفان عند قبائل طي، هما جبلا: سلمى وأجا، فقال أحد جنود خالد: "يا خالد، إلى سلمى أو إلى أجا؟" أي هل نفر إلى سلمى أو إلى أجا؟ فهملت عينا خالد وبكى رضي الله عنه، وقال: "لا إلى سلمى ولا إلى أجا؛ ولكن إلى الله الملتجأ!" [بتصرف يسير من مختصر السيرة للإمام ابن عبد الوهاب، ص (263)].
فقاتل رضي الله عنه بتوكله وتصميمه ورباط جأشه، فهزم الكفار في تلك الموقعة.
ومما يدل على عظيم توكله على ربه -عز وجل-: ما حدث به أحد أصحابه أنه قال: "نزل خالد بن الوليد على أم بني المرازبة من الفرس فقالوا له: يا خالد، احذر لا تسقك الأعاجم من السم! فقال رضي الله عنه بلسان فصيح وقلب واثق: أين السم؟! هلمَّ أحضروه إليَّ! فأُحضر إليه السم في كأس فقال: "بسم الله"، ثم شربه فلم يضره شيء! [انظر السير للذهبي (3/229)].
إنه إنما فعل ذلك لأنه كان يريد أن يقيم الحجة على هؤلاء الكفار، وأن يبين لهم أن المسلمين على جادة الحق والهدى، وليس ذلك تساهلاً منه رضي الله عنه، ولا ينبغي أن يفعل المرء كما فعل خالد؛ إنما هي حالة خاصة أردنا من ذكرها فقط أن نبين أن هذا الرجل العظيم كان متوكلا على الله -تبارك وتعالى- كمال التوكل.
ومن مناقبه العظيمة: أنه الله -تبارك وتعالى- قد شرفه بأن جعل نهاية صنم العُزى على يديه! وصنم العزَّى هو أحد ثلاثة أصنام كانت تعبد في الجاهلية ولها شهرة واسعة، وقد ذكرها الله -تبارك وتعالى- في سورة النجم، فقال عز وجل: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)[النجم: 19- 20].
قال قتادة -رحمه الله-: "مشى خالد إلى العزى، فكسر أنفها بالفأس، ثم أتى عليها بالفأس، فقال:
يا عُزَّ كُفرانَكِ لا سُبْحَانَكِ *** إني رأيتُ الله قد أهانَكِ
[الاستيعاب لابن عبد البر (2/428)].
ومن أعظم مناقبه رضي الله عنه: أن كان عاشقاً للجهاد في سبيل الله، لم يكن لدى خالدٍ وقت للهو ولا للعبث، إنما سخر حياته كلها للجهاد في سبيل الله -عز وجل- ومقارعة أعداء الله؛ بل إنه رضي الله عنه كان يتحسر على تقصيره في قراءة القرآن، وكان سبب ذلك ليس لأنه كان يلهو ويعبث ويعبُّ من زخارف الدنيا، كلا وإنما كان السبب هو انشغاله بميادين القتل والقتال، يقول قيس بن أبي حازم: "سمعتُ خالداً يقول: منعني الجهادُ كثيراً عن القراءة"!.
تأملوا -عباد الله- إلى هذه الكلمة التي تأخذ بمجامع القلوب! خالد -رضي الله عنه- يقول: "منعني الجهاد عن قراءة القرآن"! [السير للذهبي (1/375-376)].
فماذا نقول عن من منعته الدنيا ومنعه اللهو بها عن قراءة كتاب الله الكريم؟!.
فاللهم ارحمنا بواسع رحمتك.
لقد سخر حياته كلها للجهاد في سبيل الله، واحتبس أدراعه وجعل كل متاعه من أجل الجهاد والمجاهدين.
ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مَن بعث إلى الصدقة ليجبيها -ليأخذها من الناس-، فمنع بعض الناس الصدقة والزكاة منهم ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فلما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-بذلك، فقال: "ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالدٌ فإنكم تظلمون خالداً؛ قد احتبس أدراعه وعتاده في سبيل الله" يعني لم يكن عنده شيء حتى يبلغ النصاب فيزكي فقد وهب وجعل كل ما يملك في سبيل الله، فلا تجب الزكاة عليه حينئذ.
"وأما العباس فإنها عليَّ" أي الزكاة: "ومثلها معها"، ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب، وقال: "يا عمر، أما شَعُرْتَ أنَّ عمَّ الرجل صِنوُ أبيه؟" [أخرجه البخاري برقم (1468)، ومسلم برقم (983) بلفظه].
لقد كان حب الجهاد يسري في مفاصل خالد -رضي الله عنه-، وكان رضي الله عنه وأرضاه يستمتع بغبار الجهاد في سبيل الله، كان يستمتع بمشاهد الغزو والقتل والقتال، ليس تشفياً وحباً وتسلطاً على الناس كلا؛ وإنما كان حباً لنصرة هذا الدين لأنه يعلم أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام.
ومما اشتهر عنه رضي الله عنه كلمة بديعة عجيبة تدل على شديد تعلقه بالجهاد في سبيل الله، يقول: "ما من ليلة يُهدى إلى فيها عروس أنا لها محب أو أُبشر بغلام هي أحب إلي من ليلة شديدة البرد شديدة المطر في صبيحة أصبح فيها أعداء الله"! [مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (8/16)].
لقد كان الصبر على مشقة الجهاد وملاقاة العدو أحب إليه وألذ على نفسه من أن تهدى إليه عروس جميلة، أو أن يبشر بغلام مليح!.
ومما قاله رضي الله عنه: "ما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بِتُّهَا وأنا متَتَرِّسٌ، والسماء تُهِلُّني، ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار !" [تاريخ دمشق لابن عساكر (16/269)].
إن هذه المشاعر كانت عامرةً قلوبَ المجاهدين في سبيل الله، فهم يسيرون في الدنيا والجنة ماثلة أمامهم لا تغيب عنهم طرفة عين؛ ولذلك كانوا يبذلون كل شيء من أجلها.
ومن مناقبه رضي الله عنه شجاعته الفائقة وجرأته النادرة، يقول عن نفسه: "لقد رأيتُني يومَ مؤتة وقد انْدَقَّ في يديَّ تسعةُ أسياف"! لم تصبر تسعة أسياف في يده كلها تكسرت، فلم يصبر عليه إلا صفيحة يمانية [تاريخ دمشق لابن عساكر (16/248)].
أجل لقد كان مضرب المثل في الشجاعة والاستبسال، والحنكة وبعد النظر، ومنذ أن أسلم خالد رضي الله عنه وهو قد نذر نفسه لله ورسوله فلا تسل حينها عما سطره له التأريخ من مجد أثيل، وعزٍّ عريض.
كانت أولى حلقات الصراع ومسلسل الجهاد في سبيل الله -في حياة هذا الفارس الشهم البطل- كانت بين خالد والمشركين بعد أن أسلم بثلاثة أشهر فقط! وكان ذلك في السنة الثامنة في شهر جمادى الأولى.
ثلاثة أشهر فقط كانت كفيلة بصناعة هذا الشخصية العجيبة! فماذا نقول لمن سلك طريق الهداية منذ سنوات، ولا يزال إلى الآن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى في نصرة هذا الدين، والدعوة إلى الله -عز وجل-؟! لم تكن هذه صفة خالد -رضي الله عنه- وإنما كان خالد جندياً من جنود الله -عز وجل-.
أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية من سرايا المسلمين إلى مؤتة؛ وذلك لملاقاة الروم بسبب أنهم قتلوا رسوله الحارث بن عمير -رضي الله عنه-، وكان قتل الرسل يُعدُّ أشبه ما يكون بحالة إعلان الحرب؛ فجهزَّ عليه الصلاة والسلام جيشاً قوامه قرابة ثلاثة آلاف، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة، قال: "فإن قُتِل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قُتِل جعفر فعبد الله بن رواحة" [أخرجه البخاري برقم (4261)].
سار الصحابة -رضي الله عنهم- إلى تلك الموقعة، وإذا بالروم يفاجئونهم بجيش عرمرم لم يكن يخطر لهم على بال، لقد كان عدد جيش الروم يزيد على مائتي ألف!.
لك أن تتخيل -يا عبد الله- ثلاثة آلاف مقابل مائتي ألف! إذا أردت أن تتصور المشهد بصورة أوضح فتخيل ثلاثة رجال أمام مائتي رجل! كيف سيكون حالهم ولكن الصحابة مضوا رضي الله عنهم؛ لأنه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولأنهم إنما جاؤوا يطلبون ما عند الله -تبارك وتعالى- فدارت الدائرة على المسلمين وكانوا في وسط الروم، وقد التحم جيش الروم عليهم من جميع الجهات فقتل في المسلمين أعداد غفيرة، قُتِل قائدهم زيد، ثم قتل جعفر، ثم قتل عبد الله بن رواحة وسقطت راية المسلمين؛ فأصبحوا بلا راية وبلا قائد، فقام أحد المسلمين وأخذ الراية ورفعها ونادى: يا خالد، يا خالد بن الوليد، هلم إلى الراية، فأبى، وقال: أنت أولى مني؛ وقد أسلمت قبلي، قال: لا والله لست أولى منك بذلك، فقام خالد -رضي الله عنه وأرضاه-، وأخذ الراية، ثم ارتفع في ربوة فنظر إلى ما يكون من موقع الجيش وعددهم، ثم جاء كالصاعقة المرسلة، ودخل في أوساط هؤلاء الكفرة، ثم عمل فيهم قتلاً وتشويهاً وإسقاطاً، حتى اخترق مائتي ألف بمن معه، ومن بقي معه من المسلمين، وخرج من هذه الدائرة المغلقة، وهذه الكربة الشديدة!.
إن هذا في مقياس الحروب العسكرية يعد نصراً إذ كيف يفلت ثلاثة آلاف في وسط جيش يبلغ مائتي ألف؟! ولهذا حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- بخبر هؤلاء رضي الله عنهم قبل مقدمهم كما يقول أنس -رضي الله عنه وأرضاه-، يقول: "قام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "أخذ الرايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخذَها جعفرٌ فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب"، وعيناهُ تَذرِفانِ صلى الله عليه وسلم، ثم قال بعد ذلك: "حتى أخذ الرايةَ سيفٌ من سيوف الله حتى فتحَ الله عليهم" [أخرجه البخاري برقم (4262)].
ومنذ ذلك الوقت وخالدٌ يلقب بسيف الله المسلول.
واستمر خالد -رضي الله عنه- في الجيوش قائداً وجندياً، ولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كتيبة من جيش المسلمين في فتح مكة، ثم بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت له في حروب الردة صولات وجولات، فقد استطاع بفضل الله أن يخمد فتنتهم ويعيد كثيراً منهم إلى حظيرة الإسلام، ولم يسترح خالد بعد تلك المعارك -معارك حروب الردة- لم يسترح حتى فاجأه أمر الصديق رضي الله عنه وأوامره بأن ينطلق بعد ذلك إلى أعظم مملكة، وأقوى قوة وجدت على وجه الأرض في ذلك الزمان، وهي مملكة الفرس!.
أمره أن ينطلق هناك لمقاتلتهم، فانطلق إلى هناك وبدأ بقتال الفرس في عدة معارك إلى أن انتصر عليهم في خاتمة المعارك التي قادها رضي الله عنه في معركة ذات السلاسل.
ولقد كان رضي الله عنه مثالاً للعزة، مثالاً للكرامة، مثالاً لشموخ المسلم، الذي لا يكون ذليلاً، وإنما يكون دائما مرفوع الرأس لأنه مع الحق.
ومما يدل على اتصاف خالد بهذه الصفة ما جاء في خطاب وجهه رضي الله عنه إلى قائد الفرس في ذلك الزمان، حيث قال له: "بسم الله الرحمن الرحيم" اسمع وانظر إلى العزة، وانظر إلى منطق خالد: "بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى مرازبةِ فارس، سلام على من اتبع الهدى، فالحمد لله الذى فضَّ وسلب ملككم، ووهَّن كيدكم، من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا؛ فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا، فإما أن تسلموا، وإما الجزية، وإما الحرب، وإلا فوالله لقد جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة!" [بتصرف يسير من المنتظم في تاريخ الملوك لابن الجوزي (4/101،105)].
ثم بدأ رضي الله عنه بقتال هؤلاء إلى أن انتصر عليهم.
ولما رأى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- استبسال خالد، وما قام به أراد أن يكافئه مكافأة عظيمة، وأن يجهز له هدية تليق بمقامه، أتعلمون ما هي هذه الهدية؟ إنها لم تكن شيئاً مفتوحاً، ولا عقاراً في أجمل البلاد وأفخم الفنادق، كلا، إنما كانت المكافأة من الصديق أن وجهه لقتال الروم بني الأصفر! هكذا كافأه رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه يعلم أن ما عند الله خير وأبقى.
لقد كان سبب إرسال خالد -مع أن المعارك لم تنتهِ مع الفرس- لأجل أن يكون مدداً لجيش المسلمين الذي كان أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه- قائداً له.
خرج جيش المسلمين بقيادة أبي عبيدة لملاقاة الروم، فلما سمع إمبراطور الروم أن الصديق قد أرسل له جيشاً غضب غضباً شديداً، وقال: "والله لأُشغلنَّ أبا بكر عن أن يورد بعد ذلك خيلَه إلى أرضنا" [البداية والنهاية لابن كثير (7/5)].
ثم جهز جيشاً لملاقاة المسلمين يزيد على مائتين وأربعين ألفاً! قرابة ربع مليون في مقابل جيش ضعيف قليل العدد والعتاد!.
فلما بلغ ذلك أبا بكر، وما قاله زعيم الروم لم يفتّ ذلك في عزيمته، وما كان ذلك ليضعف الصديق ويوهن قلبه وهو المستمسك بحبل الله المتين، لقد رد عليه بقوله: "والله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"! [انظر: البداية والنهاية لابن كثير (7/ 5)].
أجل بخالد! بطل الإسلام وأسد الحروب، فأصدر الخليفة الأمر إلى الفارس الرشيد، والبطل العنيد، خالد بن الوليد أن يترك العراق، وينطلق مسرعاً إلى الشام، ليتولى القيادة مكان أبى عبيدة.
أرسل أبو بكر رسالة إلى أمين هذه الأمة أبي عبيدة، فقال فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من أبى بكر لأبى عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك وبعد: فإني قد ولَّيتُ خالد بن الوليد القيادة في بلاد الشام، فلا تخالفه، واسمع له وأطع، واللهِ ما ولَّيتُ خالداً القيادة إلا لأني ظننت أن له فطنةً في الحرب ليست لك، وأنت عندي -يا أبا عبيدة- خيرٌ منه، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام" [سيرة الصديق للصلابي، ص (358-359) بتصرف يسير].
ولاشك -عباد الله- أن أبا عبيدة خير من خالد، فأبو عبيدة أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن أهل بدر، لكن خالداً رضي الله عنه يفوقه في القدرة القتالية، هكذا رأى الصديق -رضي الله عنه وأرضاه-.
ومع هذا فلما جاء خالد ليتولى قيادة الجيش وكان صاحب خلق عظيم، وقد أحس بالحرج من أن يكون قائداً على رجل هو من أشرف وأعظم الصحابة وهو أبو عبيدة -رضي الله عنه-، فكتب إلى أبي عبيدة رسالة يقول فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمين" الذي سماه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة" [أخرجه البخاري برقم (4382) بلفظه، ومسلم برقم (2419)]، قال: "من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمين أبى عبيدة بن الجراح، سلام الله عليك، وبعد: فإني قد تلقيت كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالسير إلى بلاد الشام لتولّي جندها، والقيام على أمرها، وواللهِ ما طلبت ذلك وما أردته، فأنت في موطنك الذي أنت فيه -يا أبا عبيدة- لا نستغني عن مشورتك، ولا عن رأيك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك الخير، خيراً والسلام" [سيرة الصديق للصلابي، ص (359) بتصرف].
يا له من تجرد! يا لها من محبة ونقاء! بمثل هذه القلوب النقية والصدور السليمة وصل هؤلاء إلى ما وصلوا!.
إن النزاعات والخلاف والتشاحن وتطاول الرؤوس من أجل المناصب وبلوغ الرئاسات هو الذي أفسد وقطف ثمرة الجهاد في سبيل الله في عدد من بلاد المسلمين، أما هذه النفوس الصادقة التي تعمل لله عز وجل فبسببها كان النصر سريعاً للمسلمين، فنسأل الله أن يرضى عن أصحاب رسوله أجمعين، وأن يجعلنا ممن يقتدي بهم، ويسير على منهجهم إلى أن يلقاه جل جلاله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واقتفى سنته إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليماً كثيراً.
عباد الله: بعد أن وصل خالد -رضي الله عنه- إلى بلاد الروم، وتولى القيادة كان أول ما بدأ به أن حاور أحد قوادهم، واسمه "ماهان"، وذلك حينما قال هذا القائد الرومي لخالد بن الوليد: "يا خالد، قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجهدُ والجوع، وإني سأمنح كل واحد منكم عشرة دنانير فإن شئتم أعطيتُ كل واحد منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً، وترجعون إلى بلادكم, وفي العام القادم أبعث إليكم بمثلها"!.
هكذا كانوا يعرفون العرب في الجاهلية، فهم لم يكونوا يعيشون إلا لذواتهم.
فماذا كان رد خالد؟ اسمع إلى هذه الإجابة العجيبة، إلى قوة المنطق وإلى رباط الجأش، قال له خالد -رضي الله عنه-: "إنه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت, ولكننا قوم نشرب الدماء, وقد علمنا أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم؛ فجئنا لذلك!" [بتصرف يسير من البداية والنهاية لابن كثير (7/10)].
فكبر المسلمون لجواب خالد -رضي الله عنه-.
إنه منطق العزة والكرامة، إنه منطق الاعتزاز بدين الله -عز وجل-.
إن التاريخ لا يكتبه إلا الأشداء الأقوياء، أما الضعف والمهانة والاستكانة فإنها لا تصنع تاريخاً ولا تبني رجالاً.
قام هذا القائد العبقري الفذ لينظم الجيوش، وبدأ القتال بأن اعتلى بجواده ربوة في أرض المعركة، ثم صرخ صرخةً دوت في الجيش كله، وبعثت القوة والحماسة في عروق جند الله، وهم يسمعون خالداً وهو يقول: "الله أكبر، هُبِّي يا رياح الجنة!" وماذا غيرُ الجنة يتمنى هؤلاء رضي الله عنهم؟!
لقد أبلى المسلمون في ذلك اليوم بلاءاً عظيماً، لا يستطيع أديب بليغ أن يعبر عن تفاصيله!.
ها هو رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينادى في أرض المعركة على أبى عبيدة بن الجراح، ويقول: يا أبا عبيدة، فيلتفت إليه أبو عبيدة، ويقول: ما حاجتك؟ فيقول: بل أنت هل لك حاجة أبلغها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإني عازم اليوم على الشهادة، وسألقى رسول الله، فهل لك حاجة لأبلغها له؟ فقال أبو عبيدة: "نعم، أقرئ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلام، وقل له: إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا!" [تاريخ دمشق لابن عساكر (2/151) بتصرف].
وهذا عكرمة ابن أبي جهل يصرخ في أرض المعركة، وينادي على الصحابة، ويقول: "يا أصحاب رسول الله، من يبايع على الموت؟! من يبايع على الموت؟! فقال له خالد: "لا تفعل؛ فإنّ قتلك على المسلمين شديد"، فيقول حينها عكرمة: "خلّ عني يا خالد؛ فإنه قد كان لك مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سابقة، وإني وأبي كنّا من أشد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فمشى حتى قُتِل، فوجدوا به بعد ذلك بضعةً وسبعين ما بين ضربة وطعنة ورمية!" [انظر: الكامل لابن الأثير (2/257)].
وانتهت موقعة ذلك اليوم بنصر مؤزر لخالد بن الوليد وللمسلمين، وفى أوج هذه الانتصارات المذهلة إذا بالخبر يأتي إلى جند المسلمين بأن خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر قد انتقل إلى الله -عز وجل-، فكان الخبر كالصاعقة على نفوسهم، وإذا بهم يأتيهم أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قد تولى الخلافة بعد ذلك، وكان مما اتخذه عمر -رضي الله عنه- من القرارات -بعد أن تولى الخلافة- أن عزل خالد بن الوليد عن إمرة الجيش وولى أبا عبيدة!.
عند ذلك أرجف المرجفون، وتكلم المنافقون، وقالوا: كان ذلك لخلاف كان بينهما من أيام الجاهلية!.
سبحان الله! أعمر بهذا القدر وبهذا الوصف؟! عمر الذي أجرى الله الحق على قلبه ولسانه يكون حاله كذلك؟! كلا والله ليست هذه أخلاق عمر، ولا أخلاق أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإنما كان ذلك لأجل سببين:
أما أولهما: فيتضح من قول عمر: "أما عزلي لخالد فإنه لا إمرة على أبي عبيدة".
لقد كان يرى أن أبا عبيدة لا يمكن أن يتأمَّر عليه أحد، وذلك لأفضلية أبي عبيدة، وهذا من اجتهاده رضي الله عنه.
وأما السبب الثاني وهو السبب الأقوى: فإنه كان لأجل خوف عمر من أن يفتتن الناس بخالد بن الوليد، حيث إن خالدا لم يدخل في معركة إلا وانتصر فيها، فخشي عمر -وهو الموحِّد- على عقيدة المسلمين، خشي أن تتعلق القلوب بغير الله، وأن يظن المسلمون أن النصر إنما كان لأجل خالد، فأراد أن يضرب لهم مثلاً حقيقياً واقعياً، بأن النصر من عند الله -تبارك وتعالى-؛ ولأجل ذلك عزل خالد بن الوليد -رضي الله عنه وأرضاه-[انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (16/268)].
فلما بلغ خالداً عزل عمر له، قال: "واللهِ ما قاتلت بالأمس لأجل عمر، وما قاتلت اليوم لعمر، وإنما قاتلت لله، أنا أقاتل لله قائداً أو مقوداً!".
وتمضي الأيام في تاريخ خالد مضيئة براقة مشرقة، يرابط فيها في الثغور، ويحمي بيضة المسلمين إلى أن بلغ عمره الستين وجاءه الأجل المحتوم، وإذا به يموت على فراشه! هذا الذي خاض المعارك! هذا الذي تتبع الموت مظانِّه يريد أن يُقتل شهيداً في سبيل الله! قدرة الله وحكمته أن يموت هذا الرجل الصالح البطل الشجاع على فراشه!.
فلما حضره الأجل، ودنت ساعة الاقتراب، وعلم أنها النهاية، قال رضي الله عنه وأرضاه: "لقيت كذا وكذا، وشاركت في كذا وكذا" يعني من المعارك: "أتتبع الموت مظانَّه" أريد الشهادة في سبيل الله: "وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، من عاش لنفسه عاش ذليلاً ومات ذليلاً، ومن عاش لله عاش حميداً ومات حميداً"، ثم قال: "إذا أنا متُّ، فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عِدةً في سبيل الله" [انظر: أسد الغابة لابن الأثير (2/140)، والبداية والنهاية (7/116)].
ثم فاضت روحه رضي الله عنه بعد ذلك العمر الطويل من التضحيات، ومن الجهاد في سبيل الله، فهنيئاً له رضوان ربه، ودار كرامته.
لما توفي خالد -رضي الله عنه-، ووري التراب قالت أمه ترثيه، وتقول:
أنت خير من ألف ألفٍ من القو *** م إذا ما كبت وجوه الرجالِ
أشجاعٌ فأنت أشجع من ليــــــ *** ــثٍ غَضنفر يذود عن أشبال
أجوادٌ فأنت أجود من سيــــ *** ــل غامر يسيل بين الجبال
فسمعها عمر -رضي الله عنه-، فازداد قلبه خفقاً، ودمعه دفقاً، فقال: "صدقتِ والله إنه كان كذلك" [انظر: البداية والنهاية (7/116-117)].
ولما بلغ خبر وفاته المدينة ارتجت مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء، فبكى الصغير والكبير، وبكى النساء والرجال، وجاء رجل إلى عمر -رضي الله عنه وأرضاه-، يقول: "يا أمير المؤمنين، إن النساء يبكين خالداً! فمرْهن بالسكوت"، فقال عمر: :"اسكت لا أمَّ لك؛ على مثل أبي سليمان فلتبكِ البواكي!" [المنتظم لابن الجوزي (4/315) بتصرف].
سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت *** له الفتوح و هل أغنى تواليها
غزى فأبلى وخيل الله قد عَقَدَت *** باليمن والنصر والبشرى نواصيها
يرمي الأعادي بآراء مسـددة *** وبالفـوارس قد سالت مذاكِيـها
ما واقع الروم إلا فرَّ قارِحها *** ولا رمى الفرس إلا طاش راميها
ولم يجُزْ بلدة إلا سمعت بـها *** الله أكبـر تـَدْوي في نواحـيها
عشرون موقعة مرَّت محجلة *** من بعد عشر بنان الفتح تُحصيها
وخالد في سبيل الله موقـدها *** وخالـد في سبيل الله صـاليها
اللهم ارض عن خالد، واجمعنا به في دار كرامتك مع سائر الآل وأصحاب رسول الله الذي أمركم الله -جل وعلا- بالصلاة والسلام عليه في محكم التنزيل، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال نبيكم وحبيبكم محمد: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً" [أخرجه مسلم برقم (384)].
الله صل على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعل آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم ارض عن أصحاب نبيك الكريم أجمعين، واجمعنا بهم في دار الكرامة والنعيم.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا في سوريا، اللهم فرج كربتهم، اللهم أزل عنهم همهم وغمهم، اللهم كن مع إخواننا المستضعفين في مالي، اللهم كن مع إخواننا في فلسطين وفي سائر البلدان يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وأقم الصلاة؛ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي