حياة القلب وموته

خالد بن سعد الخشلان
عناصر الخطبة
  1. خطر أمراض القلوب .
  2. أقسام أمراض القلوب .
  3. علامات القلوب الحية .
  4. أهمية محاسبة النفس .
  5. علاج قسوة القلب .
  6. قصص رائعة في ذكر الموت .

اقتباس

إذا كانت الأبدان والقلوب يعتريها من الأمراض والعوارض ما يعتريها، ويسعى الإنسان جاهدا في معالجة ما ألم به من مرض، باذلا في ذلك شيئا عظيما من ماله ووقته، متنقلا بين العيادات الخاصة والعامة، والمستشفيات الحكومية والأهلية، طلبا للعلاج، ورغبة في الشفاء، ولا ننكر على من فعل هذا؛ لأنه من حق البدن الذي أمر...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله، فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واقتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله ربكم وخالقكم ورازقكم ومعبودكم، اتقوا من لا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء، اتقوا من يعلم خفقان القلوب وما فيها، وانشراح الصدور وما فيها، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فسبحانه من رب عظيم، وملك عظيم.

أيها الإخوة المسلمون: إن من أهم الساعات وأكدها ساعة يقضيها المسلم متفكرا في حاله مع ربه -عز وجل-، رغبة ورهبة، وخوفا ورجاءً، وإقبالا وإعراضا، ومراقبة ومحاسبة، يقضيها متأملا لحال قلبه، رقة وغلظة، وليونة وقسوة، وحياة وموتا.

وإذا كانت الأبدان والقلوب يعتريها من الأمراض والعوارض ما يعتريها، ويسعى الإنسان جاهدا في معالجة ما ألم به من مرض، باذلا في ذلك شيئا عظيما من ماله ووقته، متنقلا بين العيادات الخاصة والعامة، والمستشفيات الحكومية والأهلية، طلبا للعلاج، ورغبة في الشفاء، ولا ننكر على من فعل هذا؛ لأنه من حق البدن الذي أمر الشارع برعايته.

أقول: إذا كانت الأبدان يعتريها من الأمراض ما يعتريها، فإن القلوب تمرض أيضا مرضا معنويا؛ مرض شبهة، أو مرض شهوة، كما قال الله -عز وجل-: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً) [البقرة: 10].

وكما قال سبحانه وتعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) [الأحزاب: 32].

مرض القلوب -أيها الإخوة المسلمون- أشد –والله- فتكا، وأعظم ضررا، وأبلغ وقعا، من مرض الأبدان، إذ أن غاية ما يترتب على مرض الأبدان الموت الذي هو نهاية كل حي، لكن ما يترتب على مرض القلوب مرضا معنويا أشد وأشد؛ لأن مرض القلب المعنوي إذا لم يعالج تمكن من القلب؛ حتى يصبح القلب -والعياذ بالله- قلبا مختوما عليه، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، ومن كانت هذه حالة قلبه -والعياذ بالله-، فبئس المصير مصيره.

إخوة الإيمان: إذا كانت صحة الأبدان وأمراضها تعرف بما يظهر من أثار تلك الأمراض، فإن للقلوب السليمة المؤمنة، فإن للقلوب الحية المخبتة علامات تدل على حياتها، وإذا انعدمت هذه العلامات، وحل محلها ضدها؛ تبين من ذلك مرض القلب وموته، وقد ذكر الله -عز وجل- في كتابه الكريم ورسوله -صلى الله عليه وسلم- جملة من علامات حياة القلوب وموتها.

والعاقل من يعرض قلبه على هذه العلامات؛ لتتبين له حياة قلبه من موت قلبه.

لقد ذكر الله -عز وجل- من هذه العلامات الدالة على حياة القلب ويقظته: وجل القلب عند ذكره سبحانه وتعالى، ذكر عز وجل هذه الخصلة علامة على حياة القلب، فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[الأنفال:2].

فالقلب الحي هو الذي يوجل، هو الذي يخاف عند ذكر الله -عز وجل-، القلب الحي هو الذي يضطرب ويدفعه ذلك الخوف والخجل إلى امتثال أوامر الله، والبعد عن مناهيه.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله -عز وجل- عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله".

ثم وصف الله -عز وجل- المؤمنين، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[الأنفال:2].

فأدوا الفرائض، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهذه صفة المؤمن حق الإيمان الذي إذا ذكر الله -عز وجل- وجل قلبه، أي خاف منه، ففعل أوامره، وترك زواجره، كقوله سبحانه وتعالى‏: (‏وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران: 135]".

ولهذا قال الإمام سفيان الثوري -رحمه الله-: "سمعت السدي يقول في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)[الأنفال: 2] قال: هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله، فيجل قلبه".

كما ذكر الله -عز وجل- في كتابه الكريم علامة أخرى، علامة واضحة تدل على حياة القلوب، تدل على القلوب الحية ألا وهي: الإطمئنان عند ذكر الله -عز وجل-: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].

القلوب الحية -أيها الإخوة المسلمون-: هي تلك القلوب التي تطيب بذكر الله -عز وجل-، وتركن إلى جانب الله -عز وجل-، وتسكن عند ذكر الله -سبحانه وتعالى-، وترضى به وحده معبودا ومولى ونصيرا.

القلوب المؤمنة الحية لا يزيل همها وغمها إلا ذكر الله -عز وجل-، القلوب المؤمنة الحية لا يقضي على حزنها وكآبتها إلا ذكر الله -عز وجل-، القلوب الحية هي التي تطمئن بإحساسها بالصلة بالله -عز وجل-، والأنس بجواره سبحانه وتعالى، والأمن في جانبه وحماه، تطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق، تطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضر ومن كل شر إلا بما يشاء الله -عز وجل- مع الرضا بالابتلاء والصبر على الابتلاء، تطمئن برحمته في الهداية، تطمئن برحمته في الرزق والستر في الدنيا والآخرة: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].

الاطمئنان بذكر الله في قلوب المؤمنين حقيقة عميقة، يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، اتصلت بالله -عز وجل-، يعرفون هذه الحقيقة، يعرفون هذه الخصلة، وهي اطمئنان القلوب، يعرفونها ويذيقون طعمها، ويحسون بها، ولا يملكون بالكلمات أن ينقلوها إلى الآخرين، أو يصفونها للآخرين الذين لم يعرفوها.

والله -أيها الإخوة المسلمون-: ليس أشقى على وجه الأرض، ولو متع بمتع الدنيا كلها، ليس أشقى على وجه الأرض ممن يحرمون طمأنينة الأنس إلى الله، ليس والله أشقى على الأرض ممن ينطلق في هذه الأرض شاردا عن الله، معرضا عنه: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

هؤلاء المنيبون إلى الله، المطمئنون بذكر الله، يحسن الله -عز وجل- مآبهم عنده، كما أحسنوا الإنابة إليه في هذه الدنيا، وكما أحسنوا العمل في الحياة؛ يقول الله -عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)[الرعد: 28-29].

وثم علامة أخرى تدل على حياة القلوب، ألا وهي التأثر بالقرآن حينما يتلى، والخشوع عند سماع آياته، والبكاء عند سماع وعده ووعيده، وترهيبه وترغيبه؛ لأنه كلام الله -عز وجل-؛ لأنه كلام الحق الذي لا يتطرق إليه الباطل بوجه من الوجوه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر: 23].

هذه صفة قلوب الأبرار، هذه صفة قلوب المتقين الأخيار، عند سماع كلام الجبار، المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون من كلام ربهم من الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى الله -عز وجل- لما يرجون، لما يأملون من رحمة أرحم الراحمين، ولطفه بهم سبحانه، فهم مخالفين لغيرهم من الفجار من وجوه عديدة؛ منها: أن سماع الأبرار تلاوة الآيات، وأن سماع الفجار نغمات الأبيات من أصوات المغنيات والقانيات.

والثاني: أن الأبرار إذا سمعوا آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، بأدب وخشية ورجاء ومحبة، وفهم وعلم، أما أولئك فإذا تليت عليهم الآيات أصبحوا متشاغلين لاهين وإن خروا صميا وعميانا.

ولهذا ذكر الله -عز وجل- حال الفجار عند ذكر الله وحده، فقال: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[الزمر: 45].

وصفة أخرى من صفات القلوب الحية المؤمنة تتجلى هذه الصفة في الإنابة والرجوع إلى الله -عز وجل-، في كل صغيرة وكبيرة.

أيها الإخوة المسلمون: القلب الحي إذا طرأ عليه طارئ، وشغله عن الله شاغل، ما يلبث ذلك القلب الحي إلا أن يرجع إلى ربه وخالقه، وينيب إلى أمره وشرعه: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)[ق: 33].

هذه بعض صفات أصحاب القلوب الحية التي ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، وقد ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- جملة أخرى من علامات حياة القلوب؛ فذكر جملة منها: في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان" إنها معايير واضحة، وعلامات ساطعة، بإمكان كل أحد أن يعرض نفسه على هذه العلامات، ليدرك أهو داخل في مفهوم هذا الحديث أم لا؟.

"ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار".

للإيمان حلاوة ولذة يدركها المؤمنون الصادقون في إيمانهم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا ونبيا".

كما أن حب المساجد والمكث فيها، والتعلق بها، وشدة الشوق إلى المجيء إليها عند سماع نداء الله -عز وجل-، وترك كل ما يشغل عن المجيء إلى بيوت الله إلى مساجد الله، ذلك كله علامة من علامات حياة القلوب.

وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجل قلبه معلق بالمساجد".

ما إن يخرج من المسجد بعد صلاة إلا ويتعلق قلبه بالرجوع إليه مرة أخرى، يجد الأنس، يجد السكينة والطمأنينة في توجهه إلى بيت الله -عز وجل-، يجد الراحة في أن يجيب نداء الرحمن يوم يسمعه: "حي على الصلاة، حي على الفلاح".

يجد انشراح الصدر، يجد هدوء القلب وطمأنينة في ركعات وسجدات يسجدها بين يدي الله -عز وجل- في مصلاه في مسجده.

وصفة أخرى من علامات حياة القلوب، وهي صفة مهمة فقدت لدى كثير من الناس اليوم، ألا وهي: بغض المنكرات وأهله، ومقت مرتكبيها، بغض المعاصي وأهلها، معاداتهم في الله -عز وجل-، وعدم محبتهم في الله -عز وجل-، كره ما هم عليه من معاصي ومنكرات، والرغبة الجادة في هداياتهم وإرجاعهم إلى جادة الصواب.

وبعد -أيها الإخوة المسلمون-: فهذه طائفة يسيرة من العلامات والصفات التي تعرف بها سلامة القلوب وحياتها، تعرف بها زكاة القلوب وصلاحها، أو مرضها وموتها وفسادها.

فنسأل الله -عز وجل- الذي بيده كل شيء وبيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء، نسأل الله -سبحانه- وهو قادر على كل شيء أن يملأ قلوبنا بالإيمان، وأن يعمر قلوبنا بالإحسان والمراقبة له سبحانه وتعالى، نسأله سبحانه وتعالى أن يخلص قلوبنا من أسر الهوى والشيطان، وأن يجعلها قلوب مخبتة منيبة وجلة إلى باريها -عز وجل-.

أعوذ بالله من الشيطان: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الزمر: 22].

بارك الله لي ولكن في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله واهب الهبات والنعم، ومجزل العطايا والمنن، ورافع البلايا والنقم، وكاشف الكربات والظلم، أحمده حمدا يليق بجلاله وكبريائه وعظمته، وأشكره سبحانه على عموم آلائه، وعظيم نعمائه، وأصلي وأسلم على من رفع الله ذكره، وأعظم درجته، وشرف منزلته، فما ذكر الله -سبحانه وتعالى- إلا وذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقترن باسمه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أولى القلوب الحية، والعزائم الزكية الطاهرة، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون: رحم الله امرءً نظر في نفسه، وتفكر في حاله، وأقر بتقصيره، مع ربه، ودفعه ذلك إلى التوبة والإنابة والرجوع إلى الله -عز وجل-، ومبادرة الأوقات بشغلها بالطاعات ما دام في زمن المهلة والإمكان، قبل أن يحال بينه وبين ذلك.

المؤمنون الأتقياء الخلص الأصفياء، هم الذين يراقبون قلوبهم ويلاحظونها فترة بعد أخرى، لإزالة ما يعلق بها من أوزار الذنوب، وأقذار المعاصي، ولا تزال كلمة عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه- منارا يهتدي بها المهتدون، ويقتدي بها المقتدون، يوم قال: "اجلس بنا نؤمن ساعة، فإن القلوب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا".

أيها الإخوة المسلمون: إننا حينما ننظر إلى قلوبنا لا نرى في الأعم الأغلب إلا قلوبا قاسية، لا توجل عند ذكر الله، ولا تلين عند تلاوة آياته، وسماع عظاته.

من منا اليوم امتلأ قلبه بحب الله وحب رسوله، فأصبح يوالي في الله، ويعادي في الله، يقرب من قرب الله، ويبعد من بعد الله.

من منا اليوم لا يجد الأمن والطمأنينة والراحة إلا في ذكر الله -عز وجل-.

من منا اليوم يستشعر الإنس بالقرب من الله الوحشة بالبعد عن الله.

من منا اليوم يخشع عند تلاوة القرآن، ويتأثر لسماعه، وتدمع عيناه بذكر الجنة والنار، بل من منا اليوم يواظب على قراءة القرآن الكريم، ويجعل له في كل يوم حزبا لابد أن يقرأه في الصباح أو المساء.

إننا نعيش في حالة من قسوة القلب -إلا من رحم الله- لا يعلمها إلا الله -عز وجل- ولن يقضي على هذه الحالة إلا الرجوع إلى الله، إلا الإنابة إليه، والتعلق به وحده لا شريك له، وإفراغ القلب من كل ما سوى الله -سبحانه وتعالى-.

أيها الإخوة المؤمنون: إن مما يرقق القلوب، ويلينها وبقربها من مولاها: الإكثار من ذكر هاذم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، الإكثار من ذكر الموت، الإكثار من ذكر ساعة فراق هذه الدنيا، والرحيل عنها، كفى بالموت واعظا.

من لم يتعظ بالموت فمتى يتعظ؟ من لم يعتبر برحيل الأحباب وفراق الأصحاب فمتى يعتبر؟ من لم يتذكر بتشييع الجنائز وزيارة القابر فمتى يتذكر؟

طوبى لعبد جعل الموت نصب عينيه، وفراق الدنيا ماثلا أمامه، وبيت الوحشة والدود قدامه.

طوبى لعبد أكثر من زيارة المقابر فسالت هناك العبارات، وانحدرت الدموع، صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة".

سأل رجل أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقال: "يا أم المؤمنين إن لي داء فهل عندك دواء؟" قالت: "وما داؤك؟" قال: "القسوة" قالت: "بئس الداء داؤك، عد المرضى واشهد الجنائز وتوقع الموت".

وقيل لعلي: ما شأنك جاورت المقابر؟ قال: "إني أجدهم خير جيران أجدهم جيران صدق يكفون الألسنة ويذكرون الآخرة".

وكانت عجوز في عبد قيس عابدة، فإذا جاء الليل تحزمت، ثم قامت إلى المحراب، ثم إذا جاء النهار جاءت إلى المقبرة، فعوتبت في إتيان القبور، فقالت: "إن القلب القاسي إذا جفا لم يلينه إلا رسوم البلى، وإني لآتي القبور فكأني انظر وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني انظر إلى تلك الوجوه المتعفرة، وإلى تلك الأجسام المتغيرة، وإلى تلك الأجفان الدسمة".

وقال ميمون بن مهران: "خرجت مع عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- إلى المقبرة، فلما نظر في القوم بكى، ثم أقبل علي، فقال: يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم، أما تراهم صرعى قد خلت من قبلهم المثلات، واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهموم في أبدانهم مقيلا" ثم بكى  رحمه الله، وقال كلمة عظيمة: "والله لا أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور، وقد أمن من عذاب الله فصار إلى ما ترى".

ولله در القائل:

باتوا على قللِ الاجبال تحرسُهم *** غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم *** وأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهمُ صارخٌ من بعد ما قبروا *** أين الاسرّةُ والتيجانُ و الحللُ

أين الوجوه التي كانتْ منعمةً *** من دونها تُضربُ الأستارُ والكللُ

فافصحَ القبرُ حين سآئلهم *** تلك الوجوه عليها الدودُ يقتتلُ

قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا *** فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أكلوا

كان عثمان -رضي الله عنه- إذا وقف على قبر بكى حتى يبلل لحيته، فسئل رضي الله عنه عن ذلك وقيل له: "تذكر الجنة والنار ولا تبكي وإذا وقفت على القبر بكيت؟!" فقال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر وإن لم ينجو منه فما بعده أشد".

هذه هي الحقيقة الغائبة عن قلوبنا وعن نفوسنا -أيها الإخوة المسلمون-: من منا اليوم يستعد ويجتهد صباحا ومساءا لعمارة بيته في المستقبل، لعمارة تلك الحفرة الضيقة، الحفرة المظلمة التي لا ينيرها، ولا يدخل البهجة فيها والسرور فيها إلا الإيمان والعمل الصالح، والتقرب إلى الله -عز وجل- بالقربات والطاعات.

فهل نحن -أيها الإخوة-: في أمن من أن تحين ساعة الموت بنا في لحظة من ليل أو نهار؟!

لماذا -أيها الإخوة في الله-: نقصر في الاستعداد لتلك الحفرة الضيقة المظلمة؛ كأننا معصومون ومحفوظون وفي أمن وأمان عن النزول في تلك الحفرة المظلمة، وكأن الموت غير بعيد عنا.

أيها الإخوة المسلمون: والله إن السعيد من عمر دنياه بطاعة الله -عز وجل-، والله إن السعيد من عمر دنياه بتقوى الله -عز وجل-، ولو فقد المال ولو فقد الجاه ولو فقد الأولاد ولو فقد ما فقد من ملذات الدنيا، فإنها –والله- لا تعدل دقيقة واحدة ولا لحظة واحدة من لحظات القبر ونعيمه أو عذابه.

فنسأل الله -عز وجل- بمنه وكرمه أن يأخذ بنواصينا جميعا للبر والتقوى، وأن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى، إنه على كل شيء قدير.

هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".

اللهم صل وسلم وبارك...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي