اللغو جريمة في حق الأمة

صالح بن محمد آل طالب
عناصر الخطبة
  1. تعريف اللغو .
  2. خطر التوسع في المباحات .
  3. أهمية تزكية النفس وإصلاحها .
  4. أسوأ اللغو في الأوقات الفاضلة .
اهداف الخطبة
  1. تحذير الناس من اتخاذ حياتهم سبهللا
  2. تقبيح اللغو في نفوس الناس

اقتباس

ليس في قاموس الأمة الرائدة عبث ولا هزال حتى في مواطن الترويح؛ لأن ضياع الأوقات فيما لا فائدة فيه ضياع للأعمار وإهدار للحياة، والنفس إن لم تشغلها في الحق شغلتك بالباطل, والنفس الفارغة لا تعرف الجد فتلهو في أخطر المواقف وتهزل في مواطن الجد وتستهتر في مواطن القداسة حتى تنتهي إلى حالة من التفاهة والانحلال؛ فلا تصلح للنهوض بعبء ولا القيام بواجب ولا تبني دنيا ولا أخرى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

فاتقوا الله تعالى -أيها المسلمون- اتقوا الله تعالى حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70 – 71].

أيها المسلمون: آية جاءت بين آيتين وصفة كريمة توسطت بين ركنين عظيمين تبوأت مكانها بين الصلاة والزكاة وتعلق بها فلاح الدنيا والآخرة إنها صفة المؤمنين الذين هم عن اللغو معرضون (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [المؤمنون: 1 – 11].

عباد الله: اللغو هو الباطل وهو كل مالا نفع فيه ولا فائدة من الأقوال والأفعال ومن صفات المؤمنين الحميدة أنهم يتنزهون عن اللغو والباطل ويربؤون بأنفسهم عنه، وفي سورة الفرقان (وَالَّذِينَ لا يَشهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان:72] لا يشهدون الزور أي: لا يحضرونه, والزور: هو كل قول وفعل محرم؛ فيجتنبون مجالسه ويتحاشون مظانه ومن باب أولى ألا يقولوه ولا يفعلوه, (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا): إشارة إلى أنهم لا يقصدون مجالسه وأماكنه لكن إن حصل ذلك من غير قصد فإنهم يكرمون أنفسهم عنه حتى ولو نزل عن رتبة الحرام فهو سفه ونقص, والإعراض عن اللغو صفةٌ أساسٌ من صفات المؤمنين تكرر التأكيد عليها في القرآن ونُزِّه عنها المؤمنون في الجنان (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا) [مريم: 62]

وفي سورة القصص في وصف الله للمؤمنين الصادقين (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55].

ومن اللغو فارغ الحديث الذي لا طائل تحته ولا حاصل وراءه وهو الهذر الذي يقتل الوقت دون أن يضيف إلى القلب أو العقل زاداً جديداً.

ومنه البذيء من القول الذي يفسد الحس واللسان سواء وجه إلى مخاطب أم حُكي عن غائب.

ومنه الاشتغال بما لا ينفع, والقلوب المؤمنة لا تلغو ذلك اللغو ولا تسمع إلى ذلك الهذر فهي منشغلة بتكاليف الإيمان متطهرة بنوره، بل إنهم لا يدخلون في جدل مع أهل اللغو؛ لأن ذلك من الجهل وضياع الأوقات (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).

عباد الله: إن في الحق ما يشغل عن الباطل وفي حياة المسلم من الواجبات ما لا يستقيم معه ضياع الأوقات والأمة التي تبتغي المجد لن ترقى إليه بالعبث واللغو والغفلة والأمة الجادة هي الأمة المنتجة المنشغلة بما ينفعها وفي تكاليف الحياة ما يدعو للجِد (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح: 7 – 8].

ليس في قاموس الأمة الرائدة عبث ولا هزال حتى في مواطن الترويح؛ لأن ضياع الأوقات فيما لا فائدة فيه ضياع للأعمار وإهدار للحياة، والنفس إن لم تشغلها في الحق شغلتك بالباطل, والنفس الفارغة لا تعرف الجد فتلهو في أخطر المواقف وتهزل في مواطن الجد وتستهتر في مواطن القداسة حتى تنتهي إلى حالة من التفاهة والانحلال؛ فلا تصلح للنهوض بعبء ولا القيام بواجب ولا تبني دنيا ولا أخرى.

أيها المسلمون: إن التوسع في المباحات والاشتغال بالملهيات وصرف الطاقات والأوقات فيها وجعلها مقصد لهو إلهاءٌ وتغفيل ولغو مذموم؛ فكيف إذا خالطتها المحرمات وعلت رايتها بالمنكرات وصار الإثم علماً على الإسعاد والترفيه.

إن مبدأ الترويح عن النفس أمر مشروع لا مزايدة فيه، لكن التغفيل والإلهاء وإشغال عموم الأمة بما لا ينفعها بل بما يضرها ويبعدها عن الله ويقصيها عن رضاه ويعرضها للعقاب ويقعدها عن السبق في علوم الدنيا والآخرة هو جريمة في حق الأمة وإقعاد لها وإهانة وتخذيل وتوهين, ومرد اللغو إلى التيه والغفلة ونسيان الله والدار الآخرة.

واللغو في كل معانيه من الأقوال والأفعال في كل الأحوال غفلة تميت القلب فتتلاشى الطاعة من النفس ويقسو القلب فتكون الاستهانة للذنوب والآثام والتخبط في دياجير الظلام فلا ينتفع بنصح ولا إرشاد.

عباد الله: السمع والبصر واللسان مَصَابُّ في القلب تروّيه ما يغشاه و يتشبع القلب بما يرد عليه من هذه الجوارح إنْ خيراً أو شراً, و الغيبة والنميمة والخوض في أعراض المسلمين من أقبح اللغو وتتبع أحوال الناس وحديث الإنسان فيما لا يعنيه لغو يفسد القلب وسهر الليالي فيما لا ينفع لغو مضر والسمع والبصر إن أطلقا في تتبع العورات وسماع المحرمات ورؤية المنكرات ومتابعة الأفلام والمسلسلات كانت عاقبة هذا اللغو فساد القلب وتعصِّيه عن الطاعة وتنكره للمعروف وإن الإنسان قد يستقبح السوء في أول الأمر حتى إذا تكرر وقوعه وألفت نفسه رؤيته خفت حِدة استقباحه وسهل على النفس أن تسمع وترى لذا حذر الله من المجاهرة بالسوء (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) [النساء: 148].

لا يحب الله الجهر بالسوء من القول فكيف بالفعل أو عرض السوء على الناس ونشره والدعوة إلى رؤيته والمطالبة بتخصيص الأماكن العامة لعرضه إنه يبدأ كتابة وعرضاً ويبدأ قولاً -وقد يكون فردياً-، ثم ينتهي انحلالاً اجتماعياً وفوضى أخلاقية تضل فيها تقديرات الناس وتنتشر الشكوك والشائعات وتنعدم الثقة في داخل المجتمع حتى بين الأقارب بسبب هذه الأفكار التي أشربت بها قلوب الناس وينتشر الفساد بلا نكير؛ فأي صلاح ونتاج يرجي من أمة غارقة في الشهوات سادرة في الملهيات ألا قُلْ لمن يلتمس الملاهي لصرف وقته: أراك تحسب الحياة لهواً؛ فهل تحسب الموت لهواً, وقل لمن يصرف الأيام بين الأوهام والأحلام: إن كنت تجهل ما تضيع من الزمن فقف بالقبور ملتمساً من سكانها برهة من الوقت لتعلم أنه العزيز الذي لا يُملك والفائت الذي لا يستدرك وكم من قائل: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون:99-100] فيقال: كلا إن العمر لا يعود ومن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعه الله الجنة.

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة أقول قولي هذا واستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

أيها المسلمون: إن النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة منوط بزكاء النفس وصلاحها وذلك لا يكون إلا باجتناب ما يضر بها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:9-10]، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى:14-15], وإن اللغو والباطل والإثم والمعاصي تطفئ نور الإيمان وتخمد جذوة الطاعة وتمنع زكاة النفس وطهارتها ويجثم الظلام على القلب حتى لا ينتفع بموعظة ولا يهتدي بهدي قال الله عز وجل: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: " هو الذنب بعد الذنب ".

وعن حذيفة ابن اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكتت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض, والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لايعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه " رواه مسلم.

عباد الله: ومن أسوء اللغو ما كان في الزمن الفاضل وما كان سبباً في ترك الطاعة والعبادة ويقال هذا مع إقبال شهر رمضان المبارك والذي تنتظره القلوب المؤمنة بعد أيام لتتروي من الطاعات وتتعرض للرحمات وتترقى في مدارج الإيمان وتلتمس النفحات في وقت اجتهد فيه أهل اللغو والباطل وتسابقوا بملئه بما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة فترى وسائل الإعلام والإلهاء في تسابق محموم للدعاية لكل ما يلهي ويصد عن سبيل الله ويتعارض مع روحانيه هذا الشهر الكريم؛ فكيف تزكو النفوس، وكيف تصلح القلوب مع هذا اللغو المتكاثر؛ كالطوفان والمشحون بالإثم والعصيان. وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يدع قول الزور والعمل به و الجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ".

وقد كان السلف رحمهم الله يتركون التعليم والتحديث ويتفرغون للعبادة وقراءة القرآن, بل إن زكاة الفطر المشروعة في ختام الشهر ليست إلا طهرة للصائم من اللغو والرفث؛ فكيف بمن كان شهره كله لهواً وعبثاً وصدوداً.

عباد الله: وكما اجتهد العابثون في توفير كل ما يصد عن الله فالخليق بالمؤمن أن يحذر ذلك وأن يحفظ صومه وشهره أن يضيع في لغو وخسران.

اللهم بلغنا رمضان ووفقنا فيه لما يرضيك وتقبل منا صالح أعمالنا وجنبنا مواطن سخطك.

ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة رسول الله محمد بن عبد الله اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين, اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى وخذ به للبر والتقوى, اللهم ارزقه البطانة الصالحة واصرف عنه بطانة السوء, اللهم وفقه ونائبه وإخوانهم وأعوانهم لما فيه صلاح العباد والبلاد.

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.

اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في فلسطين وفي كل مكان.

اللهم أصلح أحوال المسلمين وأظهر أمنهم وأرغد عيشهم واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.

اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.

اللهم فرج همَّ المهمومين من المسلمين ونفِّس كرب المكروبين, وفكَّ أسر المأسورين واقض الدين عن المدينين, واشف برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين.

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسر أمورنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذريَّاتهم ولجميع المسلمين.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي