الكسل -عباد الله- صفة ذميمة، ارتقاها واصطبغ بها واتسم بها المنافقون، ولذا من أعظم ما يصاب به الإنسان من فوات الخير أن يكسل في أمور دينه؛ ولذا قال -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء"، الصلوات كافة هي عليهم ثقيلة، لكن من أثقلها صلاة الفجر وصلاة العشاء، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء، ولو يعملون ما فيهما -أي من الخير- لأتوهما ولو حبوًا"...
أما بعد:
فيا عباد الله: يقال في الأمثال: "مَن تعود الكسل ومال إلى الراحة فَقَدَ الراحة"، ويقال أيضًا: "إن أردت ألا تتعب فاتعب حتى لا تتعب"، وهذا له أمثلة كثيرة في واقعنا، "إن أردت ألا تتعب فاتعب حتى لا تتعب".
تصوروا لو أن الطالب في المدرسة جدّ وثابر من أول ما التحق بها -ولا سميا في مواد الدراسة العلمية كالرياضيات واللغة الإنجليزية وما شابه ذلك- لو شد على نفسه وأتعب نفسه في أول الأمر فإنه لو ارتقى إلى مراحل أعظم وأكبر فإنه لا يحتاج في نهاية أمره إلى معلم ولا مُعِين ولا مُفَهِم له في هذا الدرس.
مثال آخر: لو أن طالب العلم الشرعي جدَّ واجتهد في شبابه، وثابر وبحث وسأل وراجع وحفظ، فإنه إذا تقدم به السن فأصبح متجاوزًا عمر الخمسين أو الستين، وكثرت مشاغله وأعماله، فإنه لا يجد صعوبة ولا معاناة.
وعلى هذا فقس -عبد الله-، ولذا يقال أيضًا: "إياك والكسل والضجر؛ فإنك إن كسلت لم تؤدِّ حقًّا، وإن ضجرت لم تصبر على الحق". ويقال أيضًا -وهذا شيء يلحظه من يمارس الرياضة أو من كان ممارسًا لها ثم تركها-: "كل عضو إذا تُرِك استعماله بطل، كالعين إذا غمضت، واليد إذا عطلت"، ولذا عضو الإنسان إذا اعتاد على الحركة أصبحت الحركة له سهلة ميسرة، حتى لو زادها حركة في مستقبل أمره فإنه لا يجد معاناة ولا مشقة، بينما من أهمل عضوًا من أعضائه وأراد أن يحركه ولو بعض الحركة فإنه يجد صعوبة ومشقة في هذا الأمر، كذلك من أعظم ما يصاب به الإنسان من الكسل أن يصاب في عقله، أن يكسل عقله؛ ولذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إن البحث في دقائق الأمور ومسائلها يفتق الذهن". فكلما كان الإنسان متقد الذهن محركًا له فإن ذهنه يكون متقدًا ويتفتق ويصبح أكثر قبولاً لأية معلومة تأتيه، ولذا من أعظم نوعي الكسل أن يكسل عقل الإنسان، وكيف يكسل عقله؟! إذا أهمله ونحَّاه عن التفكر والتدبر في آلاء الله -عز وجل-، كما أن النوع الآخر -وهو كسل البدن- سبب من أسباب تأخر الأمم في جميع شؤونها، ولذا لا ترون الأمة قد تأخرت إلا من أسباب كسل العقول وكسل الأبدان.
الكسل -عباد الله- صفة ذميمة، ارتقاها واصطبغ بها واتسم بها المنافقون، ولذا من أعظم ما يصاب به الإنسان من فوات الخير أن يكسل في أمور دينه؛ ولذا قال -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء"، الصلوات كافة هي عليهم ثقيلة، لكن من أثقلها صلاة الفجر وصلاة العشاء، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر وصلاة العشاء، ولو يعملون ما فيهما -أي من الخير- لأتوهما ولو حبوًا"، ثم انطلق -عليه الصلاة والسلام- إلى صنف آخر من المسلمين ممن به بعض صفة المنافقين وهي صفة الكسل، قال -عليه الصلاة والسلام-: "ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة". يعني في المساجد، هم يصلون في البيوت ولكنهم لا يصلون في المساجد، وهذا ناتج من الكسل، " ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار". ولذا قال -عز وجل- عن هؤلاء المنافقين.
ويقول ابن عباس -رضي الله عنهما- مستدلاً بهذه الآيات التي ذكرتها آنفًا: "إن على المسلم الراغب في إقامة الصلاة والإتيان إليها ألا يقوم إليها على هيئة وصفة الكسلان، وإن كان يريد القيام إليها وذلك حتى لا يتشبه بالمنافقين". قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 142]، وقال تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى) [التوبة: 54]، وحذرنا الله -عز وجل- نحن المؤمنين أن نتصف بهم فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ) [التوبة: 38]، وقال -عز وجل-: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ)، وهذا ناتج عن الكسل، (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81]، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة: 86]، ولذا النبي -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في صحيح مسلم "يستعيذ بالله -سبحانه وتعالى- من العجز والكسل". يقول ابن القيم -رحمه الله- كما في زاد المعاد يقول: "إن العجز والكسل أحدهما قريب من الآخر"، فيقول -رحمه الله- فيما يقول بتصرُّف: "إن الإنسان ما يفوته من الخير إلا بسبب أمرين؛ إما إنه لا يقوى على هذا الأمر الخيِّر، أو أنه يقوى عليه ولكنه لا يريده، فإن فاته هذا الخير بسبب عدم قدرته عليه فهذا هو العجز، وإن فاته هذا الخير ومعه قدرة على الإتيان به لكنه لا يريده فهو الكسل".
فالإنسان لا يفوته أي خير من خيري الدنيا والآخرة إلا وتجد أن سببه إما العجز وإما الكسل، ولذا الشيطان حريص على هذا الأمر، حريص على أن يثبط ابن آدم وأن يثقله عن العبادة، ولذا في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عُقَدُة، وإن توضأ انحلت عقدة، وإن صلى انحلت عقده، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".
وهذا ما تراه على البعض إذا استيقظ من نومه كأنه يحمل هموم الدنيا على رأسه، ما سببه؟! الكسل عن ذكر الله -عز وجل-، الكسل عن الإتيان إلى الصلاة.
ولذا لو قال قائل: إن العجز أمر ليس من طاقتي وليس من إرادتي!! فيقال: إن الله -عزّ وجل- قد جعل لك إرادة وجعل لك مشيئة، لكنك لما تثاقلت عاقبك الله -عز وجل- نظير هذا التثاقل، ولذا في صحيح مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس". والكيس: هو الحذاقة والمهارة والإتقان في الشيء.
فيقول: كما أن بعض الناس متقنٌ لبعض الأشياء فكذلك مَنْ وقع في العجز فهذا كله بقضاء الله -عز وجل- وقدره، فلا يتكل الإنسان على هذا الأمر دون أن يفعل شيئًا، ولذا لا ترون المتكاسل إلا وقد أصيب بالهوان والذل وفقد الكرامة والمكانة عند الناس، ولذا حرص -عليه الصلاة والسلام- حتى في أمور الدنيا ألا يكون الإنسان عرضة للابتذال والامتهان؛ قال -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح البخاري من حديث الزبير -رضي الله عنه- قال: "لأن يأخذ أحدكم أحبُلَها ثم يذهب فيأخذ حزمة من حطب فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه". ولذا قال الشاعر:
إن تقوى ربنا خير نَفَلْ *** وبإذن الله ريثي وعَجَـل
أحمد الله فلا ند لــه *** بيديه الخير ما شاء فعـل
أَعْمِلِ العيس على عَلَّاتها *** إنما ينجح أصحاب العمل
والعيس: الإبل.
ولذا قال الآخر:
اطلـب الخيـر ولا تكسـل *** فما أبعد الخير عن أهل الكسل
ولذا لو سبرتم أحوال الناس الذين فاتهم الخير لا تجد أن سبب فوات هذا الخير إلا من الكسل، نسأل الله -عز وجل- أن يعصمنا منه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أما بعد:
فيا عباد الله: الكسل سبب من أسباب موات الهمم، بل إنه مقبرة النبوغ، ولكم عُرف من أشخاص عندهم من الذكاء والفطنة الفهم ما ليس عندهم، لكنهم نحُّوا أفكارهم وأبدانهم عن ممارسة الأعمال التي تعود عليهم بالخير، فأصبحوا في عداد الموتى وهم وللأسف أحياء.
إذاً الكسل مقبرة النبوغ، بل إنه طريق لاستباحة أموال الناس بغير حق، ولذا ما تراه من كثرة المتسولين في هذا العصر ليس إلا ناتجًا من الكسل، وإلا لو أن أحد هؤلاء ذهب فتكسَّب فأنفق على نفسه وعلى أسرته لكف وجهه من الامتهان والابتذال.
الكسل -عباد الله- سببه البعد عن ذكر الله -عزّ وجل- كما ذُكِر في الحديث: "فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإن توضأ انحلت عقدة، وإن صلى انحلت عقده، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان". فسبب الكسل هو البعد عن ذكر الله -عز وجل-، ولذا ابن تيمية -رحمة الله عليه- ماذا كان يقول؟! يقول عن جلوسه بعد صلاة الصبح يذكر الله -عز وجل- حتى تطلع الشمس: "هذه غدوتي أستعين بها على عمل يومي، فإن تركتها خارت قواي". لم؟! لأن الذكر -بإذن الله عز وجل- سبب من أسباب النشاط، ولذا النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أتته ابنته فاطمة لتسأله خادمة تعينها على قضاء شؤونها في البيت، أرشدها -صلى الله عليه وسلم- عند النوم أن تسبح الله ثلاثًا وثلاثين، وأن تحمده ثلاثًا وثلاثين، وأن تكَبِّره أربعًا وثلاثين، قال: "فإن هذه خير لك من خادم".
ولذا يقول بعض العلماء: إن أصحاب المهن الشاقة إن اعتادوا على هذا الذكر فبإذن الله -عز وجل- يستعينون على قضاء أعمالهم الشاقة بكل سهولة ويسر إذا استمروا عليه.
إذاً الكسل مظهر من مظاهر تأخر الأمم والشعوب، ودليل على سقوط همَّة الإنسان، ويورث كما أسلفنا الذل والهوان، ولن ترتقي إلى أعلى المراتب في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالنشاط وترك الكسل، ولذا يقول الشاعر:
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَّبِرا
الصبر: دواء مر.
ملاحظة مهمة: وهو تنبيه رأيته في هذه الجمعة وقد رأيته قبل ذلك، لكنه أصبح ملحوظة ظاهرة، فالبعض من الإخوان يتأخر -هداه الله عز وجل-، نعرف أنه حريص لكنه يتقدم ويتخطى رِقاب إخوانه من أجل أن يبحث له عن فرجة وعن مكان آخر، وهذا قد ورَد فيه الوعيد الشديد من النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أتى رجل وقد تخطى رقاب الناس يوم الجمعة، قال: "اجلس فقد آذيت". وفي رواية: "فقد آذيت وآنيت". يعني تأخرت المجيء مع أنك آذيت غيرك، بل إنه ورد حديث صحيح أن مَنْ تخطى رقاب الناس أصبحت له الجمعة ظهرًا.
فليتنبه لمثل هذا الأمر، ولعل حديثنا في هذا اليوم يلتقي مع هذه الظاهرة وهو أن على الإنسان أن لا يكسل وأن يأتي مبكرًا وأن يحرص على الخير، ولذا الله -عز وجل- أمر بالتنافس على الخيرات: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26]، (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)، (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)، هذه هي المسارعة التي تنبئ عن النشاط والتي لا تدل على الكسل، لكن التأخر يدل على كسل وعجز الإنسان، لكن لو أن الإنسان أخرته نفسه أو أنه تأخر لعذر من الأعذار عليه أن يبقى في مكانه وألا يؤذي إخوانه وألا يتخطى رقابهم وألا يفرِّق بين اثنين منهم حتى لا يفوته أجر الجمعة.
نسأل الله للجميع التوفيق والسداد والإعانة على الخير.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي