الأمن وحراسة المقاصد الكبرى

عمر بن عبد الله المقبل

عناصر الخطبة

  1. داء الاستعجال ومعالجة النبي -صلى الله عليه وسلم- لذلك
  2. طيش الشباب وعقلانية كبار السن
  3. أهمية الأمن وخطر زعزعته
  4. مفهوم الأمن وشموليته
  5. وجوب المحافظة على الأمن وكيفية ذلك

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله …

أما بعد:

ففي يومٍ من أيام مكة الملتهبة بحرارة الصيف، والملتهبة بأذى قريشٍ للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؛ قال خبّاب بن الأرتّ -رضي الله عنه- وهو يمثّل شريحةً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين تعرّضوا لأشد أنواع الابتلاء في سبيل الله-: "شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة- قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه مِن عظمٍ أو عصب، وما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليُتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" [رواه البخاري ح(3612)].

هكذا يجمع النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في جوابه بين بيان السنن الإلهية في أوليائه وأعدائه، ومآل الأمر في ذلك، وشيءٍ من العوائق التي تَحوْل دونه!.

أما السنن، فهي ما ابتُلي به السابقون، وأنه أشدّ مما ابتُليتم به! وأما مآل الأمر فهو بالتمكينِ لهذا الدين، وانتصارِه، وحصولِ الأمن الوارف، وضرَب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لذلك مثلاً عجيباً يُدركه مَن زار تلك البلاد، وماذا يعني أن يسير الراكب من صنعاء -عاصمة اليمن حالياً- إلى حضرموت في جنوبها! ولكن ما العائق الأكبر الذي يحول دون ذلك؟ "ولكنكم تستعجلون".

إنه الداءُ الذي حذّر منه صلى الله عليه وسلم شُداةَ إصلاحِ الأمم، وتغيير واقع الناس إلى الأحسن!.

إنه الاستعجال الذي حمَلَ بعضَ الأنفس على اليأس!.

إنه الاستعجال الذي حمَلَ بعضَ الناس على ترك الدعوة إلى الله؛ لأن الناس تأخرت استجابتُهم!.

إنه الاستعجال الذي حمَل بعضَهم على ارتكاب المحاذير الشرعية لأجل الرغبة في قطف الثمرة مبكراً، قبل نضجِها وأوانِ حصولها!.

إنه الاستعجال الذي يَظن معه بعضُ الشباب أن عملية الإصلاح عمليةٌ سهلةٌ يمكن تنفيذها في مدة قصيرة، خاصةً كلّما تأخر الوقت!.

لنتأمل هذا الموقفَ الذي وقع لعبدالملك ابنِ الخليفة الراشد: عمر بن عبد العزيز، حين ولي أبوه الخلافة، دخلَ عليه فقال له: يا أمير المؤمنين! ما أنت قائلٌ لربك غدًا إذا سألك؟ فقال: رأيتَ بدعة فلم تُمتها، أو سنة لم تُحيها؟ فقال له: يا بنيّ! أشيءٌ حمّلَتْكَهُ الرعيةُ إليّ أم رأيٌ رأيتَه من قِبل نفسك؟ قال: لا والله ولكن رأيٌ رأيته من قِبل نفسي، وعرفتُ أنك مسئول، فما أنت قائل؟ فقال له أبوه: رحمك الله وجزاك مِن ولدٍ خيراً، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير، يا بني! إن قومَك -يقصد بني أمية- قد شدّوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أُريد مكابرتَهم على انتزاع ما في أيديهم؛ لم آمن أن يفتقوا عليّ فَتْقَاً تَكثر فيه الدماء، والله لزوالُ الدنيا أهون عليّ من أن يُهراق بسببي محجمةٌ من دم، أوَما ترضى أن لا يأتي على أبيك يومٌ من أيام الدنيا إلا وهو يُميت فيه بدعةً ويُحيى فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين؟ [حلية الأولياء (5/ 282)].

وفي قصة أخرى مشابهة: لما ولي عمرُ بن عبدالعزيز قال له ابْنه عبد الملك: إِنِّي لأرَاك يَا أبتاه قد أخّرت أموراً كَثِيرَة، كنتُ أحسبك لو وليتَ سَاعَة من النَّهَار عجّلتها! ولوددتُ أَنَّك قد فعلت ذَلِك، وَلَو فارت بِي وَبِك الْقُدُور!.

فقَالَ لَهُ عمر: أَي بني! إِنَّك على حُسْنِ قَسْمِ الله لَكَ؛ فيك بعض رَأْي أهل الحداثة،  وَالله مَا أَسْتَطِيع أَن أُخرج لَهُم شَيْئا من الدّين إِلَّا وَمَعَهُ طرف من الدُّنْيَا أستلين بِهِ قُلُوبهم؛ خوفًا أَن ينخرق عَليّ مِنْهُم مَا لَا طَاقَة لي بِهِ [سيرة عمر بن عبد العزيز (ص: 57)].

هكذا يبدو الفرق بين رأي الشاب، ورأي الشيخ المجرّب.

وهكذا يتبين الفرق بين رأي الحدَثِ الذي قلّ علمُه وعَظُم حماسُه للدين، وبين رأي العالم الذي لا يقل حماسةً عنه، لكن يحجبه عقلٌ وعلم يراعي أعلى المصالح، ويرتكب أدنى المفاسد عند تعارضها.

أيها المسلمون: هذان المشهدان اللذان ذكرتُهما آنفاً -مشهد خبّاب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومشهد عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز مع أبيه- يتكرران كثيراً في واقعنا المعاصر، ومع أن واقع الأمة -بعد هذه القرون المتطاولة- أصبح أشدّ وأصعب من حيث التفرق والضعف، وتسلّط الأعداء من كلّ مكان؛ إلا أن ذات الأسئلة تتكرر من شباب الإسلام الغيور على أمته، الذي يُبدي رغبتَه في فداء دينه بروحه وماله وولده وما يملك.

ولكن بعضاً من هؤلاء الشباب لم يُفْضِ بهذه المشاعر إلى أشياخ عقلاء نَصَحةٍ، يوجّهون رأيَهم، ويُهذّبون حماستَهم المتقّدة؛ حتى لا تقذف بشرَرها فتؤذيهم وتحرقهم قبل غيرهم، بل ذهب بعضُ هؤلاء الشَّبَبَة -أصلحهم الله- يُفضي بهذه المشاعر إلى شاب مثله، أو أصغر منه سنّاً؛ فوقع الحافر على الحافر، ووافق شنٌ طبقة! فاجتمع حماسٌ إلى حماس؛ فتُرْجِمَ هذا الحماسُ إلى تصرفات يعظُم معها الضرر، وتدفع الأمةُ فاتورتها داخلياً وخارجياً، مِن إحداثِ الفتن داخل الصفّ، وتسليطِ الأعداء على الأمة، وتجرئة السفهاء على ارتكاب الحماقات.

أيها الإخوة: إن أيّ تصرّف -مهما كان غطاؤه ومبرّره ودافعُه- يقضي على الضروريات الخمس، أو يهددها؛ فهو مرفوضٌ وغير مقبول، مهما كانت دواعيه!.

أتدرون ما هي الضروريات الخمس التي جاءت جميع الشرائع السماوية بحفظها: الدين، المال، العرض، النفس، العقل، فكلّ عمل يهدّدها أو يلحق بها الضرر؛ فهو محرم في الديانة اليهودية والنصرانية والإسلام، وبقية الشرائع التي نزلت من السماء.

وفي قصّتَيْ خبّاب وابن عمر بن عبد العزيز، ما يشير إلى الغطاء الأعظم لحفظ هذه الضروريات، وما هو الحارس الذي يحمي بيضتها، ويحفظ هيبتها، وما هذا الغطاء، وما ذاك الحارس؟ وكيف نحميه ونحافظ عليه؟ هذا  ما سنعرفه في الخطبة الثانية -إن شاء الله-.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم …

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

فإن الغطاءَ الأكبر، والحارسَ الأعظم لتلك المقاصد الكبرى -بإذن الله- هو الأمن؛ إذْ لا يَتصور أحدٌ قيامَ مجتمع أو أمة أو دولة بدون هذا العنصر الضروري، والأمنُ بمفهومه الشامل يشمل أمرين:

الأول: الأمن على النفوس والأموال والأعراض.

الثاني: الأمن الغذائي، وهو ما يتعلق بتوفر الطعام والشراب، وهو مرتبط بالأمر الأول.

ولأهمية هذين الأمرين، وعظيم أثرهما؛ امتن اللهُ -تبارك وتعالى- على قريش بتوفر هذين الأمرين لهما من بين سائر القبائل العربية، فقال جل وعلا: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)﴾ [قريش: 1 – 4].

وقال تقدست أسماؤه:  ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ [العنكبوت: 67].

وفي مقابل ذلك: جعل اللهُ -سبحانه وتعالى- مِن جملة الابتلاءات التي يَبتلي اللهُ -سبحانه وتعالى- بها عبادَه؛ ما يحصل لهم مِن نقص هذا الأمن بنوعيه: الجسمي والغذائي؛ فقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].

إن الحديث عن الأمنِ وضرورةِ الحفاظ عليه؛ أمرٌ يجب التواصي به في كلِّ وقت، وخصوصاً في هذا الوقت الذي تكالب فيه أعداءُ الأمة، وأعداءُ هذه البلاد عليها، يريدون تقويضَ أمنها، والعبثِ بمقدراتها، بإحداث القلاقل والفتن، ويريدون تحويلها إلى مناطقَ صراعٍ واحترابٍ داخلي -والعياذ بالله- بل يقسم بعضُهم بتحويلها إلى صورة مكررة من بعضِ الدول التي حولنا!.

وهذا كلّه يحتّم علينا أموراً مهمة وجليلة:

1- التواصي والتعاون على حفظ هذا الأمن، الذي لا يَعدله بعد الإسلام والسنة شيءٌ، فإن الإنسان قد يصبر عن الطعام يوماً أو يومين، لكنه لا يمكن أن يصبر على الخوف ساعةً أو ساعتين!.

2- تجريم كلّ عملٍ يزعزع الأمنَ ويخلّ به، أيّاً كان فاعلُه، وتحت أيّ غطاء كان، ومن أي شخصٍ صدر عنه، ولو كان مِن أقرب الناس لك، ومن ذلكم: الحدث الذيّ وقع في قريةٍ مِن قرى الأحساء أوائل هذا الأسبوع؛ فذهب ضحيتَه عددٌ من الآمنين، وعددٌ من رجال الأمن، فمثل هذا العمل منكرٌ شنيع، لا يُقرّه دين ولا عقل!.

ألا يتأمل الإنسان -وقد وقع الحدَث-، ويطرح الأسئلة التالية: مَن المستفيد مِن مثل هذه الأعمال الإجرامية؟ ما موقفه لو جرّ مثلُ هذا العمل -أيّاً كان فاعله- احتراباً داخلياً -نعوذ بالله من ذلك-؟ وهل يقبل محبٌ وغيورٌ على هذه البلاد التي احتضنت الحرمين الشريفين أن يكون مثل هذا الحدَث أو غيره سبباً في تأليب الخارج على الدولة؟ ألم يتصور من يتوقّف في تجريم هذه الأعمال، أو يفرح بها -عياذاً بالله-؛ لأنها وقعت على طائفة يكرهها: لو اضطرب حبلُ الأمن -لا قدّر الله- مَن الذي سيدفع ثمنَ فاتورة اضطرابه؟ إنه أنا وأنت وأعراضُنا من النساء وأموالِنا وأنفسِنا!.

3- ومما يجب التواصي به ونحن نمرّ بمثل هذا الحدَث الداخلي، ونتابع ما يجري في الدول من حولنا: أن علينا أن نكون السبب الأقوى -بعد الله- في حماية ما نعيشُه من أمنٍ بتمسكنا الحقيقي بديننا، واجتماعنا على من ولاه اللهُ أمرنا، والحذر من كل سبب للفرقة، وأن نقيم جميعاً العدلَ على أنفسنا وما وُلّينا، ونَخرج من مظالم الخلق، ونتوب إلى الله -تعالى- توبةً عامة وخاصة، ونجتهد في تحقيق ما أمرنا الله به ليحقق لنا ما وعده -ووعده الحق-: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)﴾ [النور: 55 – 56].

ويقول سبحانه: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 41].

اللهم احفظ على بلادنا أمنَها واستقرارَها وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا في ظل من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا سميع الدعاء.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين …


تم تحميل المحتوى من موقع