حوادث المرور والوضع المروع

عبد الله بن علي الطريف
عناصر الخطبة
  1. إحصائيات مذهلة عن حوادث السير في المملكة لعام م .
  2. الخسائر البشيرة والمادية لحوادث السيارات .
  3. التدابير الإسلامية لحفظ النفس من التلف .
  4. وقفات مهمة حول حوادث السيارات .
  5. أسباب حوادث السيارات .
  6. الآثار الناتجة عن حوادث السيارات .
  7. بعض الأحكام المتعلقة بحوادث السيارات .
  8. ضرورة الالتزام بقواعد السير وآداب المرور .

اقتباس

أيها الإخوة: أرقام ضخمة مزعجة، وأخبار مروعة، نشرها مركز مرموق من مراكز الأبحاث في بلادنا؛ مفاده قتلى بالآلاف، وجرحى ومصابين بعشرات الآلاف، وخسائر مادية بالمليارات!. قد يظن بعضكم أني أتحدث عن حرب ضروس خاضتها بلادنا! أو أن زلزالاً مروعاً ضربها سجل أعلى رقم بمقياس جهاز رصد الزلازل! أو أن أعاصير هوجاء اجتاحت نواحٍ من البلاد فأهلكت الأنفس والأموال في...

الخطبة الأولى:

أيها الإخوة: أرقام ضخمة مزعجة، وأخبار مروعة، نشرها مركز مرموق من مراكز الأبحاث في بلادنا؛ مفاده قتلى بالآلاف، وجرحى ومصابين بعشرات الآلاف، وخسائر مادية بالمليارات!.

قد يظن بعضكم أني أتحدث عن حرب ضروس خاضتها بلادنا! أو أن زلزالاً مروعاً ضربها سجل أعلى رقم بمقياس جهاز رصد الزلازل! أو أن أعاصير هوجاء اجتاحت نواحٍ من البلاد فأهلكت الأنفس والأموال في دقائق!.

لا، ليس الأمر كما تظنون، إن الأرقام التي سأذكرها نتاج تفريط واستهتار وتعد طائفة منا، استهتار يسمع منه صرير الإطارات، وتهشم المركبات والمنشئات، وأبواق إنذار مراكب الإسعاف والنجدات، لعلكم أدركتم ما أقصد، إننا بصدد حديث قديم جديد قديم في وجوده حديث في أرقامه، ومتجدد بآلامه وأحزانه، أطفال تيتم وشباب يؤد ونساء ترمل وآباء وأمهات تلوع، وأسر بكاملها تفقد، أنات وآهات وعيون باكيات، ومصائب قاصمات.

أيها الإخوة: بلغ عدد حوادث السير في المملكة لعام 2012م، 544 ألف حادث، نتج عنها أكثر من 14300 حالة وفاة، أي 64 حادثا في الساعة، و41 حالة وفاة باليوم حسب الإحصائيات شاملاً للوفيات بمكان الحادث وفي أقسام الطوارئ، أو في غرف العمليات أو العناية المركزة، ومن يتوفى خلال شهر نتيجة الحوادث، كما تقرره منظمة الصحة العالمية.

وتخلف حوادث الطرق سنويا ألفي معاق بإعاقات دائمة، و73% من مجمل الوفيات دون الأربعين سنة، وأكثر من 39 ألف مصاب يشغلون أكثر من 30% من أسرة المستشفيات.

مما يجعل المملكة في صدارة الدول فيما يخص حالات الوفيات الناجمة عن الحوادث المرورية، وجعل شوارع المملكة من بين أكثر الشوارع خطرا على مستوى العالم.

أما الخسائر المادية سنوياً فتنفق المملكة ما يَقْرُب من ثلاث وعشرين مليار ريال على إدارة حوادث المركبات، إضافة إلى ما يقارب من 950 مليون ريال على التكاليف الطبية للمصابين في حوادث الطرق.

إن الألم يعتصر قلبي وأنا أرى عناوين صحفية مثل "طرق السعودية بين الأخطر عالمياً". "حوادث المرور بالسعودية أرقام مروعة".

حق على كل ناصح أن يطلق صفارة الإنذار التي يجب أن يتجاوب معها كل عاقل يتفيأ ظلال هذا الوطن الكريم.

أيها الآباء أيها المربون، أيها المسئولون، أيها الأبناء يا أحباب قلوبنا ويا أمل أمتنا، يا.. يا.. يا كل واحد منا: لو تمت هذه الوفيات والإصابات والخسائر في حرب ضروس لكانت كارثة كبيرة على الأمة، وهزيمة نكراء لجيشها واعتداء صارخ على سيادتها! كيف وهي تقع بسبب التفريط والتهاون والاستهتار بالنفس البشرية، ومن أناس يتفيؤون ظلال هذه البلاد، وينعمون بخيراتها، لكنهم في الغالب لم يقدروا المسئولية حق قدرها، وسأقف مع وهذه الإحصائية عدة وقفات:

الأولى: لقد جاء الإسلام بحفظ الضروريات الخمس التي لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد واضطراب.

وهذه الضروريات الخمس هي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأعظمها بعد مقصد حفظ الدين مقصدُ حفظ النفس، فقد عُنيت الشريعة الإسلامية بالنفس عناية فائقة، فشرعت من الأحكام ما يحقّق لها المصالح ويدرأ عنها المفاسد، وذلك مبالغة في حفظها وصيانتها ودرء للاعتداء عليها. والمقصود بالأنفس التي عنيت الشريعة بحفظها الأنفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو العهد أو الأمان.

وقد وضعت الشريعة الإسلامية تدابير عديدة كفيلة -بإذن الله- بحفظ النفس من التلف والتعدي عليها، بل سدّت الطرقَ المفضية إلى إزهاقها أو إتلافها أو الاعتداء عليها، وذلك بسدّ الذرائع المؤدّية إلى القتل؛ كتحريم الانتحار، وقد توعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قتل نفسه، فقال: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ شَرِبَ سَمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا"[رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-].

معاشرَ الإخوة: إذاً محوَرُ تلك المقاصد وعنوانها وجَوهرُها بعد حفظِ الدين حِفظُ النفسِ البشريّة التي كرَّمها الله وشرَّفها، وصانها بأبلغ الحدود والزوَاجر فعرَّفها، وجعَلها قالَبَ حِفظ الدين ووِعائه الثمين، ونوَّه وأقسَم بها في محكم كتابه، فأعلى شأنها وزكّاها، فقال عزَّ مِن قائل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا)[الشمس: 6].

وقال: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء: 29- 30].

وقال سبحانه: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151].

أجَل -أيها الإخوةَ-: لقد غالى الإسلامُ بالنَّفسِ الإنسانيّة المُصانَة فأحلَّها مراقِيَ العلو والكرامَة، فكان تكريمه وتبجيلُه لها أفضلَ ما عرَفته النظُم من احتفاء وتأمين، وضنَّ بها أن تُزهَق دون حقٍّ مبين، كيف وقتلُ النفس تحدٍّ لخلقِ الله وحِكمته وتعدٍّ على قدرتِه ومنَّته.

الثانية: إذا كان هذا مقام النفس المعصومة عند الله -تعالى- فما بال أولئك السفهاء يعبثون بأنفسهم، وأنفس المواطنين والمقيمين بِمُمَارساتهم الهوجاء من سرعة جنونية، وقطع للإشارة، وتفحيط وتغزيل وتطعيس أهوج.. الخ .. تلك القائمة السوداء المظلمة من التهاون بالأنفس المعصومة.

وقد اتخذوا شوارعنا وطرقنا ومتنَزهاتنا ميادين لعبثهم، ومسرحا لعنفهم، قد أشهروا فيها آلة قتلهم، وقتل المعصومين، حق علينا النصيحة والإنكار والإبلاغ، وحق على الجهات المعنية تطبيق النظام فيهم من غير هوادة.

الثالثة: أن النفس الإنسانية ليست ملكاً لصاحبها، وليست ملكاً لأحد من الناس، وإنما هي ملك لله وحده ومن أجل ذلك حرم سبحانه الاعتداء عليها حتى من قبل صاحبها، فقال: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء: 29].

وقال: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة: 32].

ومع وضوح ذلك وجلائه لكن المؤسف أن من أبناء المسلمين من يمارس أفعالاً تلقي بالنفس إلى التهلكة، فترى أرواحاً تزهق، ونساء تُرمل، وأُسراً تُفنى، وأطفالاً تيتم، وأطرافاً تبتر، وإعاقات مستديمة، ترى منشآت تهدم، ومنجزات تتلف، وآلاف الملايين من الريالات تهدر، فواجع تصل إلى حد الهلع، وخسائر تصل إلى حد الإفلاس.

أطفال في مستقبل الحياة وشباب في نضرة العمر، ما حالهم وقد فقد عائلهم، وما حال المرأة وقد فقدت من يرعاها وأطفالها.

ما حال الوالدين وقد أُزهقت روح ابنهما اليافع وحبيبهما الأمل؟! ما حال الأسرة وقد حل بها معاق علاجه مكلف، والكد عليه مرهق، أصبح مقعداً عاجزاً وعالة على أهله ومجتمعه ودولته، حسرة في القلوب، وكمد في النفوس آهات وأنات ودموع جاريات وحزن وألم وهم وغم بسبب ماذا كل هذا؟!

بسبب فعل متهور، وتصرف طائش، وعمل غير مسئول.

أحبتي: ماذا يبقى إذا هانت الأرواح ورخصت الدماء، وإلى أي هاوية هؤلاء ينحدرون؟ فمتى يهتدي المتهورون؟ ومتى يستفيق الغافلون؟

كل هذه المصائب، وكل هذه المآسي راجعة إلى الإخلال بحق الطريق والتفريط في آداب المسير والإهمال في قواعد المرور.

فالطريق لم يوضع من أجل أن يتصرف فيه المتهورون بسياراتهم كيف يشاءون، متجاوزين الخلق الحسن.

إن الطرق هي مسالك الناس إلى شؤونهم ومعابرهم، إلى قضاء حوائجهم، وهي دروبهم في تحركاتهم، وتحصيل منافعهم، هي سبيلهم إلى أسواق التجارة وكسب المعاش، وهي منافذهم إلى المعاهد والمدارس ودور العلم والمساجد، وكل أنواع الحركة والتنقلات.

الوقفة الرابعة: إن الفاقد من الموارد البشرية والموارد المالية والطبيعية، والتي تمثل مقومات أساسية للتنمية كبيرة جداً بسبب الحوادث.

وذكرت الدراسات أن الفاقد من الناتج الوطني يفوق الفاقد في الدول الكبرى مثل أمريكا وانجلترا واستراليا، بل يتجاوز الضعف لهذه الدول، وهذا يعيق تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية المنشودة، ويزيد من حركة تجارة الاستيراد؛ مما يزيد في التحويلات النقدية إلى خارج البلد.

كما أن الآثار الناتجة عن حوادث السيارات تشمل الفرد والأسرة والمجتمع بأسره، وهيكله الاقتصادي والاجتماعي؛ نظراً لما تخلفه من حالة الإعالة وإعاقات للمصابين، وتعطيلهم عن العمل، وتكاليف مالية لعلاج الضحايا المصابين وإصلاح التلفيات في الطرق والمرافق والمركبات، وزيادة في الطلب للاستيراد من قطع الغيار.

إذاً الآثار الاقتصادية التي تخلفها الحوادث المروية تمثل عقبة كبرى أمام التنمية الاقتصادية في بلادنا.

أسأل الله بمنه وكرمه أن ينزل علينا سكينته، وأن يبصرنا بأمر ديننا ودنينا، وأن لا يجعلنا سبباً في حادث أو ضحية لحادث، وأن يكتب لنا السلامة والعافية في الدنيا والآخرة، إنه جواد كريم.

وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: لا تهلكوا مع الهالكين، وعليكم بأسباب السلامة التي هي الرفق والانتباه للطريق واليقظة الدائمة مع الاعتماد على الله، والمحافظة على الأنفس والأموال، والتزام الأدب والطمأنينة وإتباع أنظمة المرور، حتى لا تتسبب في إزهاق نفس كانت على الوجود، ثم إذا فقدت بهذه الحوادث لزم من ذلك:

أولاً: إخراج هذا الميت من الدنيا وحرمانه من التزود بالعمل الصالح والاستغفار من العمل السيئ.

ثانياً: ترمل زوجته وتيتم أولاده إن كان ذا زوجة وعيال، وتحسر والدية ولوعتهما بفقده.

ثالثاً: غرامة ديته وتسلم إلى ورثته إلا إذا عفو عنها.

رابعاً: وجوب الكفارة حقاً لله -تعالى-، فكل من قتل نفساً خطأ أو تسبب لذلك أو شارك فيه فعليه الكفارة، فلو اشترك اثنان في حادث وتلف به شخص، فعلى كل واحد منهما كفارة كاملة، والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد كما هو الواقع في عصرنا، فصيام شهرين متتابعين، لا يفطر بينهما يوماً واحداً إلا من عذر شرعي، فإن أفطر قبل إتمامهما ولو بيوم واحد من دون عذر وجب عليه أن يبدأ بالصوم من جديد، وهذه الكفارة حق الله -تعالى- لا تسقط بعفو أهل الميت عن الدية، فأهل الميت إذا عفوا عن الدية إنما يملكون إسقاط الدية إن رأوا في إسقاطها مصلحة.

وأما الكفارة فلا يمكن إسقاطها؛ لأنها حق الله -عز وجل-، وهذه الكفارة أيضاً تتعدد بتعدد الأموات بسبب الحادث.

نسال الله السلامة والعافية للجميع.

وبعد أحبتي: كل واحد منا قد وقع له أو لحبيب له حادث فكم من الألم والغم أصابه بعد ذلك! لنخرج من هذا المسجد بعد هذه الفريضة العظيمة، وبعد ما سمعنا آثر الحوادث علينا وعلى مجتمعنا واقتصادنا وقد عقدنا العزم على الالتزام بآداب الطريق وقواعد المرور مهما كانت وأين كنا سواء وجد مراقب أولم يوجد، ولا نستطيل الطريق من أجل الالتزام بالنظام، ونراجع تصرفاتنا كل فترة ونقومها، ونقدم النصح لكل من لنا به صلة.

ومتى التزم هذا الجمع المبارك بالنظام فحتما سيكون له أثر بالغ على حركة السير في بلدنا هذه، ولعل الله يعين البقية ويوفقهم للالتزام.

وصلوا وسلموا على نبيكم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي