مع قدوم شهر جمادى الأولى من كل عام هجري، تعود بنا الذكريات إلى العام الثامن من الهجرة، لنطرق باب غزوة لها مكانة خاصة في نفوس الأمة، نطرق باب غزوة مؤتة لنفتح للأمة باب أمل وعمل، ولرفض مقولة: "الرضا بالممكن، وليس في الإمكان أفضل مما كان"، فلقد نقلت غزوة مؤتة الأمة من المواجهة المحلية إلى المواجهة الخارجية، لا من أجل الهيمنة، وإنما من أجل الدفاع عن المبادئ السامية، والأخلاق الفاضلة...
مع قدوم شهر جمادى الأولى من كل عام هجري، تعود بنا الذكريات إلى العام الثامن من الهجرة، لنطرق باب غزوة لها مكانة خاصة في نفوس الأمة، نطرق باب غزوة مؤتة لنفتح للأمة باب أمل وعمل، ولرفض مقولة: "الرضا بالممكن، وليس في الإمكان أفضل مما كان"، فلقد نقلت غزوة مؤتة الأمة من المواجهة المحلية إلى المواجهة الخارجية، لا من أجل الهيمنة، وإنما من أجل الدفاع عن المبادئ السامية، والأخلاق الفاضلة، حتى ولو كانت المواجهة ضد الروم التي كانت تهيمن على النظام العالمي في ذلك الوقت، ومع أنها قابلت رسولَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- دحية الكلبي -رضي الله عنه- بمكر ودهاء على مشارف الأقصى، ولبسَّت عليه أنها نصيرة للعدل والمساواة، والتعايش السلمي تحت مظلة احترام حقوق الآخرين، إلا أن أذنابها من عملائها في شبه الجزيرة العربية علمت كيف ترفض احترام القانون من باب المصلحة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لرسوله دحية الكلبي إلى هرقل الروم عندما عاد إليه: "كذبك عدو الله".
الغزوات عندنا مسببة، وليس في الإسلام أعمال قرصنة، وقطع طرق كما يدعي المتخرصون، والسبب المباشر لهذه الغزوة هو قتل السفير المسلم الذي بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى شرحبيل بن عمرو الغساني، ومعلوم أن الرسل لا تقتل، والسفراء لا يضارون، هذا أمر لا يختلف عليه أصحاب النفوس الزكية، والقلوب النقية، إلا أن أصحاب النفوس العفنة، والقلوب المريضة يطوعون هذا الأصل حسب المصلحة التي يرجونها.
وهناك البعض ممن فقدوا عقولهم وأصبحوا آلة في يد غيرهم، وكل همهم أن ينالوا رضا سيدهم، وكذلك كان شرحبيل بن عمرو الغساني أحد أمراء الغساسنة أراد أن يبين ولاءه التام للروم؛ لأنه كان تابعًا لها، فلقد قام بقتل رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحارث بن عمرو الأزدي، ولقد أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ملك بصرى شرحبيل بن عمرو الغساني. كما هدد بالعدوان على المدينة.
فعزَّ على المسلمين مصرع صاحبهم، والطريقة الشائنة التي عومل بها، فلقد أوثق شرحبيل بن عمرو رباطه، ثم قدمه فضرب عنقه، والرسل لا يقتلون، لذلك كان وقع هذه الإهانة شديدًا على المسلمين، فعزموا على الاقتصاص لرجلهم، وعلى زلزلة الوالي الأثيم الذي صنع ما صنع لحساب الرومان.
وهناك أسباب أخرى منها قطع أهل المنطقة الطريق على الصحابي دحية الكلبي وهو عائد من عند هرقل واستلاب ما معه وتجريده من ملابسه بطريقة مخزية لم تعهدها العرب.
ومنها: قتل بعثة دعوية في ذات أطلاح بقيادة عمرو بن كعب الغفاري، حيث قتلوا جميعًا ونجا أميرهم بأعجوبة، ومنها: تعاهد الرومان وحلفاؤهم بالاعتداء على كل من يفكر في الدخول في الإسلام في بلادهم. فلهذه الأسباب وغيرها وجب فرض هيبة الدولة في هذه المنطقة، فكانت غزوة مؤتة.
تجهز المسلمون في جيش يعد بالنسبة لهم كبيرًا، إذ بلغت عدته ثلاثة آلاف جندي، لكن أهم ما يثير الدهشة في هذه الغزوة، تلك النسبة الكبيرة من الفرق بين عدد المسلمين وعدد مقاتليهم من الروم والمشركين والعرب، فلقد بلغ عدد الروم وأتباعهم من العرب ما يقرب من مائتي ألف مقاتل، فعدد المسلمين أشبه ما يكون بساقية ماء صغيرة بالنسبة إلى بحر خضم مائج، هذا بالإضافة إلى ما جهز به جيش الأعداء من العدة والذخيرة ومظاهر الأبهة والبذخ، على حين كان المسلمون يعانون من الفقر والقلة.
ومكان الدهشة في الغزوة أن تجد المسلمين بعد هذا كله، وليس معهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبلين غير مدبرين، ولا يقيمون لكل هذه الحشود الهائلة وزنًا؛ لأن القرآن رباهم بقوله تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ? وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249].
والمواقف السابقة أثقلت فيهم هذا الشعور، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "شهدت مؤتة، فلما رآنا المشركون رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري. فقال لي ثابت بن أقرم: ما لك يا أبا هريرة؟! كأنك ترى جموعًا كثيرة؟! قلت: نعم، قال: ألم تشهد معنا بدرًا، إنا لم ننصر بالكثرة". دلائل النبوة للبيهقي.
خرج الجيش من المدينة، وأهل المدينة يودعونه، ويقولون له: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين.
وانطلق الجيش إلى مشارف الشام بعدما رتب النبي -صلى الله عليه وسلم- أمراءه، فجعل الأمير زيد بن حارثة، وقال: "عليكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ؛ فَإِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فجَعْفَرٌ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ". مسند أحمد.
إلا أن أخبار الجيش قد سبقته إلى الروم عن طريق بعض العيون من المنافقين في المدينة، ولما وصل المسلمون إلى مكان يسمي (معان) عرفوا الأمر، وعلموا أن في انتظارهم مائتي ألف، والهجوم على جيش تلك عدته مجازفة كبرى بالموازين الأرضية.
وأقام المسلمون ليلتين يتدبرون أمرهم، فقالوا: نكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له.
وهذا موقف يثير الدهشة عندما يقف أمامه من يحرصون على الكروش والعروش، ويعدون مثل هذه المواجهة مجازفة وانتحارًا، إلا أن الدهشة تزول عندما نتذكر ما يفعله الإيمان بالله، والاعتماد عليه، واليقين بوعده: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
فيقوم عبد الله بن رواحة ويحول هذا الميزان التحليلي والتدبيري إلى مشاعر ملتهبة، وأشواق إلى الجنة التي بايع عليها المسلمون ربهم ورسولهم -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111]. كلمة قالها ابن رواحة أعادت الطمأنينة إلى النفوس، والبرد والسلام إلى القلوب، قال: "يا قوم: والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة".
فالدهشة ليست في عدد جيش الأعداء، وإنما الدهشة أن يجعل المسلمون للأرقام والأعداد حساباً في أفكارهم، إلى جانب ما وعد الله به من نصر وتأييد، وجنة ونعيم خالدين.
التقى الجمعان، وقاتل زيد بن حارثة -رضي الله عنه- حتى شاط في رماح القوم، وتلقف الراية جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- فأقبل على الروم غير مدبر يجالدهم بعنف.. وروى أبو داود حديث شاهد عيان يقول: لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم على فرس له شقراء ثم عقرها، قطع عرقوبها لئلا ينتفع بها العدو، أو يستخدمها في قتال المسلمين بعد أخذها غنيمة، ثم قاتل حتى قتل وهو ينشد:
يـا حبـذا الجنة واقترابها *** طيبة وباردًا شرابها
والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
فلما قتل جعفر -رضي الله عنه-، ويُرَى فيه بعد استشهاده بضع وتسعون طعنة في صدره مقبلاً غير مدبر، فما طَعْنة واحدة في دبره، ألا لا نامت أعين الجبناء، ثم حمل الراية عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه-، ثم تقدم بها على فرسه، فلما أحس دقة الموقف، وشدة الضغط عراه بعض التردد، ثم أقنع بورود المصير الذي ذاقه صاحباه على الساحة المضطرمة وهو يقول:
يا نفس إلا تقتلي تموتي *** هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت *** إن تفعلي فعلهما هـديت
ويأتيه ابن عم له بقطعة لحم ليشد بها صلبه، فما كاد يمضغها حتى سمع الحطمة في ناحية استعرت بها الحرب، فقال لنفسه: وأنت في الدنيا! ورمى بالطعام من يده، ثم انطلق يتقدم بسيفه حتى قتل.
هذا الموقف الرائع من عبد الله بن رواحة ومن سبقه يقيم على الأمة الحجة في هذا الوقت العصيب الذي يبني الأعداء فيه ونحن نهدم، يقيمون المصانع، ونحن نقيم الملاهي، يعيشون حياة الجد والعمل ونحن نعيش عيشة الترف واللعب والكسل.
إن ابن رواحة -رضي الله عنه- يلقي بقطعة اللحم؛ ليغيث إخوانه، وليفوز بالجنة، ونحن نعطي لإخواننا ظهورنا، أعداؤنا يمسكون بالسيوف ونحن بالدفوف. ألا لا نامت أعين الجبناء.
وأخذ الراية التي تداولتها أيدي الأمراء الثلاثة ثابت بن أقرم، فما حرص عليها، ولكنه أعطاها للأكفأ والأصلح لها منه، ثم نادى في المسلمين: اصطلحوا، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد -رضي الله عنه-. وثابت أبى القيادة لا نكوصًا عن الموت، بل شعورًا بوجود الأصلح منه للأمة، وليت كل امرئ يعرف قدر الناس، ينزلهم منازلهم التي يستحقونها، فلا يكلف أمته أن تحمل عجزه وأثرته. فهنا نرى معرفة الإنسان لإمكاناته التي تؤهله، فالمسألة ليست زعامة، وإنما مصلحة أمة، فكم من دول دفعت كثيرًا نتيجة حب الظهور والسيادة، وإنما الأولى النظر في مصلحة الأمة.
وأخذ الراية خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فاحتال للخلوص بالجيش من هذا المأزق، وقتال الانسحاب شاق ومرهق، وخصوصًا وخالد لا يريد إشعار الروم بهذه الخطة، والعجيب أن الروم أعياهم القتال فلم يلحقوا بخالد بن الوليد -رضي الله عنه-.
أما بعد:
وأما نتائج المعركة فأولاً: أن المعركة بالميزان المادي نصر للمسلمين، فلقد أصيب الروم بخسائر كبيرة، بل إن بعض فرقهم انكشف، وولى مهزومًا.
ثانيًا: أن عدد قتلى الروم لا حصر له، أما عدد قتلى المسلمين فحوالي أربعة عشر مسلمًا منهم القادة الثلاثة.
ثالثًا: أصبح الروم يقيمون ألف حساب للمسلمين.
ومن ثمرات الغزوة: أن قوة الإيمان واليقين لا تعلوها قوة في الأرض، مع الأخذ بالأسباب وفق الإمكانات المتاحة: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) [الأنفال: 60].
ثانيًا: أمتنا أمة كفاح: فالاستهتار بالخطر والطيران إلى الموت ليس فروسية احتكرها الرجال المقاتلون وحدهم، بل هي قوة غامرة تعدت الرجال إلى الأطفال، فأصبحت الأمة كلها أمة كفاح غال عزيز، وحسبك أن جيش مؤتة عندما عاد إلى المدينة قابله الصبية بصيحات الاستنكار يقولون: يا فرار: فررتم من سبيل الله؟! لأنهم تربوا على العزة والكرامة، وعلى مواجهة الأعداء مهما تكن الظروف، ولم يتربوا على التخاذل والخنوع. بينما الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يطيب الخاطر، ويرأب الصدع فيقول: "ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله". ويا ليت الذين يرفعون لواء الخنوع والاستسلام أن يتعلموا من هؤلاء الصبيان، فالمسلم لا يعرف للجبن طريقًا، ولا يطرق للخور بابًا.
يرى الجبناء أن الجبن حزم *** وتلك طبيعة الرجل الجبان
فأي جيل نحن؟! وأي جيل كانوا؟! لقد كانوا جيلاً صنعه الإيمان بالحق، جيلاً صاغته رسالة الإسلام!! أولئك الأطفال العظام، مَنْ آباؤهم؟! من أمهاتهم؟! إن مسلمة اليوم بحاجة ماسة إلى أن تعرف هذا الدرس لتقوم بواجبها في تربية جيل النصر.
وفي الغزوة دروس وعبر أخرى؛ منها: اليقين بالله وبنصره، والإقبال على الجهاد في موقف عبد الله بن رواحة لما عبأ الجند وشحذ هممهم للمضي قدمًا للجهاد.
ومنها: الحرص على ألا يكون الإنسان ظهيرًا لأهل الكفر، أو معينًا لهم بشراء بضاعتهم، أو إعطائهم ما ينفعهم، أو ترك ما يساندهم في فعل جعفر وعقره فرسه لما أحيط به، فلا يأخذها العدو.
ومنها: معرفة الإنسان بإمكاناته تعود على الوطن بالنفع العميم، فإنه يحمي الأمة من أن تدفع حياتها واقتصادها لغرور أغيلمة سفهاء دفعهم الطموح والطمع في بناء زعامة واهية. في موقف ثابت بن أقرم وإقراره بأنه لا يحسن القيادة.
ومنها: حياة الأمة مقدمة على حياة الفرد، وذلك في إلقاء عبد الله بن رواحة طعامه مع حاجته الشديدة إليه، ولكنه أسرع لنجدة إخوانه.
ومنها: على القائد أن يتصرف في المواقف العصيبة التي تتعرض لها الأمة، وأن يخرج بها خروجًا مشرفًا يحفظ عليها ماء وجهها وبأقل خسارة ممكنة. كما فعل خالد بن الوليد في الانسحاب بالجيش.
ومنها: العناية كل العناية بالجيل الجديد من الأطفال حتى يتربوا على العزة والكرامة لا على الخلاعة والمجون، فتكون حياتهم بعد ذلك أكل الجبن بالجبن. وذلك في موقف الأطفال.
ومنها: المرأة شريك الرجل، وتعليمها وتثقيفها دينيًا يصنع الرجال، فهي مرضعته ذلك مع لبنها، ويتجلى في موقف عَمْرَة أخت ابن رواحة لما بكته وهو مريض ولم تفعل ذلك وهو شهيد.
ومنها: ألا تعتقد الأمة في نفسها ضعفًا وذلاً وهوانًا؛ لأنها لو فعلت لتخاذلت وتراخت وأصبحت غرضًا لكل طامع ورضيت بدفع الجزية، وإنما عليها أن توقن في نفسها -حتى ولو كانت جريحة- أنها مع الله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]، ولتوقن بأنه (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ? وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249].
ومنها: على أولي الأمر أن يدركوا أن الإعلام العابث وما يقوم به من غرس المفاهيم الغربية في نفوس الأطفال ستحصده الأمة ذلاً وهوانًا، فما النصر الذي حققه المسلمون الأوائل إلا بيد هؤلاء الأطفال الذين ربوا أحسن تربية، وما خارت قوى الدولة إلا يوم أن ربى القواد أولادهم على أفخاذ النساء.
ومنها: أن المسلم يثبت إخوانه في وقت الشدة، وقد تمثل هذا في موقف ثابت بن أقرم حينما رأى أبا هريرة -وكان حديث عهد بالإسلام- مشدوها من كثرة الأعداء، فثبته قائلاً: مالك يا أبا هريرة؟! لعلك هالك من أعدائنا كثرة عتاد وعدة، إنك لم ترنا في قتالنا وإنا لا ننصر بالكثرة.
واجب الأمة نحو أبناء الشهداء: ليس هناك أفضل من الموقف الرائع الذي يرويه لنا عبد الله بن جعفر -ابن الشهيد- يقول: "جاءنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث من موت جعفر، فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم، وادعوا لي بني أخي". قال عبد الله: فجيء بنا كأننا أفراخ، فقال: "ادعوا لي الحلاق"، فجيء بالحلاق، فحلق رؤوسنا، ثم قال -عليه الصلاة والسلام- مداعبًا: "أما محمد -أي محمد بن جعفر بن أبي طالب- فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خَلقي وخُلقي"، ثم أخذ بيدي، فأشالها وقال: "اللهم أخلف جعفراً في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه". قالها ثلاث مرات، قال عبد الله: وجاءت أمنا فذكرت يتمنا، وجعلت تحزنه، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟!". أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم.
وكيف لا وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا في سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا". متفق عليه.
إن الأمة اليوم مطالبة بأن تحيا بروح غزوة مؤتة، وما تحمله معها من معانٍ إيمانية، وسمات أخلاقية تجاه المقدسات والبلاد والعباد في فلسطين، بل وفي كل الأمصار، فلا عدد ولا عتاد ولا اجتماع للأعداء يفل وحدتها، ويضعف إيمانها، فلا يأس مع الإيمان ولا ضعف مع اليقين، ولا انهزام مع التضحية وطلب الشهادة: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51]، (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40]، (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ? وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 249]، (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 250].
فأسر الشهداء وأبناء الشهداء يهتفون فينا أن قوموا بواجبكم، ولا تضيعوا دماء المجاهدين هدرًا، فإن عدوكم لن يسكت عنكم، فكيف تسكتون عنه؟!
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي