حديثنا اليوم عن معركة وقعت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعُدّت أكبر لقاء مثخن وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانت مقدمة وتمهيداً لفتح بلدان النصارى. إنها معركة مؤتة التي وقعت في جمادى الأول في مثل هذا الشهر من السنة الثامنة للهجرة.
حديثنا اليوم عن معركة وقعت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعُدّت أكبر لقاء مثخن وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكانت مقدمة وتمهيداً لفتح بلدان النصارى.
إنها معركة مؤتة التي وقعت في جمادى الأول في مثل هذا الشهر من السنة الثامنة للهجرة.
أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسالة مع الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بالشام يدعوه فيها إلى الإسلام، فقام عامله على أرض البلقاء باعتراض الحارث بن عمير الأزدي حامل الرسالة فاعتقله وقيده ثم ضرب عنقه، فوصل الخبر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان قتل السفراء والرسل من أقبح الأفعال وأشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، فاشتد الأمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هول هذا الخبر، فجهز جيشاً قوامه ثلاثة الآلف مقاتل، وأمّر عليه زيد بن حارثة وقال: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة". وعقد لهم لواءً أبيض فسلمه لزيد بن حارثة.، ثم أوصاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يأتوا المكان الذي قُتل فيه الحارث بن عمير، فيدعوهم من ذلك المكان إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم، وقاتلوهم وقال لهم: "اغزوا بسم الله، في سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناءً..
ولما تم الانتهاء من تجهيز الجيش خرج الناس لتوديعهم والتفوا حولهم، وخاصة حول الأمراء الثلاثة الذين عينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة، فسلموا عليهم سلام الوداع، ونظروا إليهم نظرة الفراق، وحينئذ بكى عبد الله بن رواحة -أحد الأمراء الثلاثة- فقالوا له: ما يبكيك؟! قال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا)، فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟! فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين غانمين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني اسـأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات قـرع تقذف الزبدَ
أو طعنـة بيدي حران مجهزة *** بحـربة تنفـذ الأحشاء والكبدَ
حتى يقال إذا مروا على جدثي *** يا أرشد الله من غاز وقد رشدَ
ثم خرج الجيش وخرج معهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشيعاً لهم، حتى إذا بلغ ثنية الوداع توقف وودعهم.
تحرّك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال فوصلت إليهم معلومات استخباراتية تخبرهم بأن هرقل نزل في أرض البلقاء ومعه مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من قبائل تلك المناطق مائة ألف آخرين.
لم يدخل المسلمون في حسابهم مثل هذا الجيش العرمرم في هذه الأرض البعيدة، وكيف يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل على جيش كبير كالسيل قوامه مائتا ألف مقاتل؟! احتار المسلمون في الأمر وأقاموا ليلتين يفكرون في هذا الموضوع وينظرون ويتشاورون، فقالوا: نكتب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له، ولكن عبد الله بن رواحة التواق للشهادة في سبيل الله عارض هذا الرأي وشجع الناس وقال لهم: يا قوم: "والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة". فاستقر الرأي في النهاية على رأي عبد الله بن رواحة -رضي الله عنه وأرضاه-.
فتحرّك المسلمون إلى مؤتة وعسكروا هناك وتعبؤوا للقتال وتجهزوا للقاء، والعدو يدنو منهم ويتقرب إليهم، فالتقى الفريقان وتلاحم الصفان وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بدهشة وحيرة وترقب، ولكن رياح الإيمان إذا هبت جاءت بالعجائب.
أخذ الراية زيد بن حارثة حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقاتل بضراوة بالغة وبسالة مذهلة، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم فخر صريعاً -رحمه الله-، فحمل الراية جعفر بن أبي طالب فقاتل قتالاً منقطع النظير حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، فقطعت شماله، فاحتضن الراية بعضديه، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل، فأثابه الله بجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، ولذلك سُمي بذي الجناحين، أو بجعفر الطيار، ووجد في جسده أكثر من تسعين طعنة وضربة كلها في أمامه ليس منها ضربة في الخلف، فلما قتل جعفر بهذه الضراوة أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد حتى حاد حيدة ثم قال:
أقسمـت يـا نفس لتنزلنه *** كـارهة أو لتطـاوعنـه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة *** ما لي أراكِ تكرهين الجنة
ثم نزل، فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال: شدّ بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذ اللحم من يده فانتهس منه نَهْسَة، ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قتل -رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
بعد مقتل الأمراء الثلاثة الذين عينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقدم رجل من المسلمين يسمى ثابت بن أرقم، فأخذ الراية وقال: يا معشر المسلمين: اصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً حتى تكسرت تسعة أسياف في يده من شدة القتال، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة يخبر الناس بوقائع المعركة ويخبرهم بالأخبار مباشرة عبر الوحي، ويبث لهم ما يدور في ساحة القتال هناك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب -وعيناه تذرفان- حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم".
استمر المسلمون يقاتلون عدوهم بشجاعة بالغة وروح معنوية عالية، يكفيهم فيها صمود جيشهم الصغير أمام جيوش جرارة من جيوش الروم، فرأى خالد بن الوليد -رضي الله عنه- أن يخرج الجيش الإسلامي من هذه الملحمة الطاحنة بخطة محكمة وتكتيك عسكري ناجح من غير أن يقوم العدو بحركات المطاردة؛ لأن المسلمين لو انكشفوا وكثر فيهم القتل فسيكون الإفلات من براثن العدو صعبًا جداً، وسيقوم الروم بمطاردتهم وتعقبهم، فقام خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في اليوم الثاني بتغيير أوضاع الجيش وتعبئته من جديد، فجعل الذين كانوا بالأمس في الميمنة جعلهم في الميسرة، ومن كان في الميسرة جعله في الميمنة، ومن كان في المقدمة جعله في الساقة، ومن كان في الساقة في المقدمة، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم وأيقنوا أن المسلمين قد جاءهم مدد، فدب الرعب في قلوبهم.
فلما تراءى الجيشان وبدأت المناوشة تأخّر خالد بالمسلمين قليلاً قليلاً مع حفظ نظام الجيش والحفاظ على توازنه، فظن الرومان أن المسلمين يخدعونهم ويكيدون لهم لجرهم للقتال في الصحراء المترامية الأطراف ليسهل تفريق جموعهم وتبديد صفوفهم، فلم يتبعوهم ولم يطاردوهم خوفاً من هذه الخديعة والمكيدة التي ظنوا أن المسلمين خططوا لها لإيقاعهم فيها، وهكذا نجح خالد بن الوليد -رضي الله عنه- من الانحياز بالمسلمين صالحين سالمين حتى عادوا إلى المدينة دون أن يتكبدوا خسائر كثيرة في الأرواح؛ إذ لم يقتل منهم في هذه المعركة سوى اثني عشر رجلاً فقط، أما الرومان فلم يعرف عدد قتلاهم غير أن تفاصيل المعركة تدل على كثرتهم.
عباد الله: إن هذه المعركة -وإن لم يحصل المسلمون فيها على الهدف الذي خرجوا من أجله وهو الثأر لمقتل حامل رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحارث بن عمير الأزدي- إلا أنه كان لها أثر كبير جداً في تضخيم سمعة المسلمين ومدى قوتهم وقدرتهم على مجابهة أعظم دولة في ذلك الزمان وأكبر قوة على وجه الأرض في ذلك الوقت، وهي قوة الروم أو دولة الرومان، خاصة وأن المسلمين رجعوا من الغزو من غير أن تلحق بهم خسائر تذكر.
كل ذلك أكد للناس أن المسلمين طراز آخر، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم هو فعلاً رسول مرسل من الله، ولذلك أسلمت كثير من قبائل العرب بعد هذه المعركة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي