أيها الإخوة: إن التسليم لنصوص الكتاب والسنة ركن عظيم من أركان الدين، ولا تثبت قدم المسلم على الإسلام إلا على هذا الركن العظيم، ومن لم يسلم بالنصوص فإنه حقير، عن الدين القويم بعيد؛ دخل رجل على الشافعي –رحمه الله- فسأله عن مسألة، فأفتاه بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الرجل: أتقول بهذا؟! فقال الشافعي مغضبا: أرأيت في وسطي زنارا؟! أتراني خرجت من كنيسة؟! أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول لي: أتقول بهذا؟! ويحك...
يا أيها المسلمون: اتقو الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فتقوى الله سبب للبركة في الدنيا، وتكفير السيئات، ودخول جنات النعيم، قال تعالى عن أهل الكتاب: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [المائدة: 65].
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96].
أيها المسلمون: أرسل الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- وجعله ختاما للنبيين، وجعل شريعته ناسخة لما قبلها من شرائع المرسلين، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهدى وبشرى للمسلمين، وأنزل معه السنة التي هي بيان للكتاب المبين، وقرينة له في تبيين شرائع الدين: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].
"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي".
الكتاب والسنة: المصدر الذي يصدر منه المسلمون، والمورد الذي يرد إليه المؤمنون، الإيمان بهما واجب، والخضوع والتسليم لما فيهما حتم لازم: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء: 65].
الكتاب والسنة، الوقوف عند أدلتهما من صفات المؤمنين، والطاعة والتسليم لما فيهما دليل المفلحين: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51].
إن المؤمنين الصادقين الذين ليس لهم بعد أمر الله ورسوله خيار، وليس لهم بعد العلم بهما إلا التطبيق والإذعان: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) [الأحزاب: 36].
"فلا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام" كما قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى-، فلا يثبت إسلام لمن لم يسلم لنصوص الوحيين، ولا يثبت إسلام لمن لم ينقاد لنصوص الشريعة، ولا يثبت إسلام لمن اعترض عليها أو عارضها برأيه أو عقله أو قياسه أو رأي غيره من البشر" [انظر: شرح الواسطية، تعليق السقاف، ص339].
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات: 15].
فسمعوا آيات الله، وأوامر رسوله، فآمنوا بها إيمانا لا يخلص إليه شك ولا ارتياب، قال الإمام الزهري- رحمة الله-: "من الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"[رواه البخاري، انظر: شرح الواسطية تحقيق السقاف، وانظر: كلاما مشابها للأوزاعي في ضوابط النصوص من مجلة البيان].
أيها الأحبة: إن التسليم للنصوص الوحي، هو الخضوع لها، والانقياد لأوامرها.
إن التسليم هو: الاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة.
إن التسليم هو طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
فأيّ أمر من الله قرأناه، قلنا: سمعنا وأطعنا، وأيّ أمر من رسوله علمناه، قلنا: سمعنا وأطعنا، وبذلك يحصل المرء على القلب السليم الذي لا ينجو من يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بهذا القلب السليم: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [لقمان: 22].
أيها المؤمنون: إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، امتلأت قلوبهم إيمانا بنصوص الشريعة، فلا يسمع أحدهم نصّا إلا كان من المستسلمين له، المنقادين لما فيه من أمر أو نهي، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمة الله-: "وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القران لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، فإنه ثبت عندهم بالبراهين القطعيات، والآيات البيّنات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق وأن القران يهدي للتي هي أقوم"[ضوابط في فهم النصوص، عبد اللطيف، مجلة البيان].
إن الصحابة -رضي الله عنهم- يسمعون الآيات والأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيسلمون لها على الفور، ويصدقونها واقعا في حياتهم؛ أخرج البخاري -رحمة الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أخذا بيد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر مباشرة: فإنه الآن لأنت أحب إلي من نفسي، قالها عمر بدون تردد أو تفكير أو مشورة أو تأخير[انظر: مذكرات اليحي، ج1 ص11].
أيها الإخوة: إن المؤمنين عظمت في قلوبهم نصوص الوحيين، حتى إنه ليزعجهم أن تقابل آيات الله وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- بحديث غيره من البشر؛ أخرج مسلم –رحمه الله- عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أنه حدث بحديث: "الحياء كله خير" فقال أحدهم مقابلة للحديث: إنا لنجد في بعض الكتب أن سكينة ووقارا، ومنه ضعف! قال: فغضب عمران، فقال: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن صحيفتك؟! فأعاد عمران الحديث، ثم أعاد الرجل مقالته، فغضب عمران حتى احمرت عيناه، فقيل له: "إنه منا يا أبا نجيد، إنه لا بأس به" أي ليس ممن يتهم بنفاق أو زندقة.
وذكر السيوطي -رحمه الله-: أن هارون الرشيد ذكر عنده مرة حديثا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حديث: "احتج آدم وموسى" فقال رجل من وجهاء قريش: "وأين لقي آدم موسى؟!" مستنكرا للحديث، فغضب الرشيد، وقال: النطع والسيف!! النطع والسيف، زنديق يطعن في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-!".
قال من كان حاضرا: "فما زلت أسكنه، أقول: يا أمير المؤمنين كانت منه نادرة، حتى سكن"!.
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حده الجد بين الجد واللعب
أيها الأحبة: لقد ذم الله في كتابة اليهود والذين من أعظم صفاتهم تحريف الكلم من بعد مواضعه، وإذا سمعوا آيات الله قالوا: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ)[النساء: 46].
وأثنى على المؤمنين الذين: (وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 83].
خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأحد أصحابه امرأة من الأنصار، وكان قصيرا دميما، فكأنَّ الأنصاري أبا الجارية وامرأته كرها ذلك، فسمعت الجارية بما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتلت قول الله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً) [الأحزاب: 36].
وقالت: رضيت وسلمَّت لما يرضى به رسول الله، فدعا لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "اللهم اصبب عليهما الخير صبَّا، ولا تجعل عيشهما كدًّا" فكانت من أكثر الأنصار نفقة ومالا[انظر: مواقف إيمانية، لأحمد زيد، ص52].
أيها الإخوة: إن التسليم لنصوص الكتاب والسنة ركن عظيم من أركان الدين، ولا تثبت قدم المسلم على الإسلام إلا على هذا الركن العظيم، ومن لم يسلم بالنصوص فإنه حقير، عن الدين القويم بعيد؛ دخل رجل على الشافعي –رحمه الله- فسأله عن مسألة، فأفتاه بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال الرجل: أتقول بهذا؟! فقال الشافعي مغضبا: أرأيت في وسطي زنارا؟! أتراني خرجت من كنيسة؟! أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول لي: أتقول بهذا؟! ويحك أي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا، فلم أقل به نعم، على الرأس والعين[انظر: مختصر معارج القبول، ص435].
فرحم الله الشافعي -رحمة واسعة- الذي قال مقولته المشهورة: "كل قول لي خالف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاضربوا به عرض الحائط".
نسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والهداية والرشاد.
يا أيها المسلمون: إن مما ابتلينا به في هذه الأزمنة تطاول بعض المفرطين على آيات الله وسنة رسوله، فمن طاعن فيهما، ومن منكر لهما، ومن مستهزأ بهما، وذلك واضح في بعض صحفنا، ووسائل إعلامنا، وكأنهم لا يعلمون أن فعلهم هذا ناقض للدين، ومخرج عن ملة سيد المرسلين، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "الناقض الخامس من نواقض الدين [النواقض العشرة]: "من أبغض شيئا مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولو عمل به فقد كفر: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) [محمد: 9].
وقال رحمة الله: من استهزأ بشيء من دين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو ثوابه، أو عقابه؛ كفرَ: (قل أبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 65].
فأي إيمان يرجى ممن أشهر قلمه في الطعن في الدين؟! وأي إيمان يرجى فيمن جعل محاضراته وكلماته وقفا على ردّ نصوص الشريعة؟! والله -عز وجل- قد حذَّر من خالف أمر نبيه مجرد مخالفة؟!
حذَّره من الفتنة والعذاب الأليم، فما بالكم فيمن استهزأ بدين الله وأنكر نصوص شريعته أوردَّها؟! فهو –والله- من العذاب قريب: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "أتدرون ما الفتنة؟! الفتنة الشرك، لعله إذا أراد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك"[كتاب التوحيد والضوابط، لعبد اللطيف].
وجاء قوم إلى ابن عباس -رضي الله عنه-، فسألوه عن مسألة فأفتاهم بحديث النبي -صلى الله عله وسلم-، فقالوا: أبو بكر وعمر يقولان بغير هذا، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال الله ورسوله وتقولون قال: أبو بكر وعمر[كتاب التوحيد].
وذكر ابن رجب -رحمه الله-: أن أحد العلماء حدث بحديث: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع".
فقال رجل مستهزئا بالحديث: "قوموا من مجالسكم لا تكسروا أجنحة الملآئكة" مستنكرا بالحديث.
وجاء من الغد وقد طرق نعله بمسامير يريد أن يمشي بها في مجلس العلم ليكسر أجنحة الملآئكة كما يزعم، فلم يدخل المجلس حتى جفت رجلاه، ووقعت فيها الآكلة -أي الغرغرينة-[شرح حديث أبي الدرداء، لابن رجب، ص71]: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
وذكر أنه كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي:"نتحاكم إلى محمد، لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه، ثم تدافعا إلى عمر فذكر أحدهما ،القصة فقال عمر للمنافق الذي لم يرض برسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أ كذلك؟! قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله".
هكذا جزاء من استهزأ بدين الله، أو ردَّ نصوص شريعته.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي