الغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عالي، فالغنى السافل الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث، وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى. وأما الغنى العالي: غنى القلب، وهو سلامته، وغنى النفس وهو استقامتها، والغنى ب...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
كان أحد الأفاضل يحدثني عن منظر تأثر به كثيراً، ورأى فيه من العبر ما يكشف للعاقل حقيقة الدنيا وقيمتها، ومدى تخليها عن الإنسان.
يقول: عندما رأيت أحد العظماء، والذي كان له من الملك والسلطة والمال، ما لا يخطر على بال، رأيته في المقبرة محمولا إلى قبره، بلا خدم ولا حراس، بعد أن كان مسيره في الدنيا عامرا بهم، عامرا بالهيلمان والحرس.
رأيته وقد صار الغبار عن يمينه وشماله إثر وقع أقدام المشيعين، بعد أن كان يوما ما يسير وسط دخان العود والبخور.
ثم رأيته يسجى في قبره الضيق، وكانت اللحظة التي أثرت في كثيرا، بل كانت أعظم المشاهد عبرة لي، لما تم وضعه في القبر في قبره، وسحب مشلحه الذي كان يلف كفنه، قلت: سبحان الله! حتى المشلح لم يأخذه معه في القبر، لا أموال ولا أراضي، ولا قصور، ولا يخوت، ولا أسهم ولا أرصدة بنوك، ولا مزارع ولا بساتين، ولا ألاف الملايين.
كل هذه الخيرات العظيمة التي جمعها وحرص عليها، وسعى في الحفاظ عليها وتنميتها، طوال حياته تركها خلفه، وغادر الدنيا دون أن يأخذ منها شيئا أبدا، ولا شيء حتى المشلح لم يأخذه معه، وتذكرت قوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88- 89].
أيها الإخوة: ما أصدق كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يصف علة من أعظم علل أمته، فيقول: "إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال" [أخرجه الترمذي وابن حبان].
سبحان الله! كلما فتحوا باب الاكتتاب لشركة هب الآلاف، بل الملايين للاشتراك فيها، ولا بأس لتحريك رأس مال الإنسان، لكن القلة من هؤلاء من يسأل عن طبيعة أعمال الشركة، وحكم أسهمها.
وهؤلاء الذين لا يقترفون بالحكم الشرعي لأعمال وأرباح الشركات أصناف؛ فمنهم المعرض الذي لا يرفع بحكم الشرع رأسا، لا في المال ولا في غير المال -نسأل الله السلامة-.
كما وصف صلى الله عليه وسلم من لم يقبل هديه لما نزل إلى الأرض، فقال: "وأصاب منها -أي ذلك الهدي الذي شبهه بالغيث- الكثير طائفة أخرى -أي من الأراضي- إنما هي قيعان لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ".
ثم قال مشبها هذا النوع من الأراضي الملساء الجرداء التي لا خير فيها؛ لأنها مثل لمن لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
فهذا الصنف من الناس لا هو يسأل عن الحكم الشرعي، ولا يفكر في السؤال، ولا يهمه سخط عليه ربه أو رضي عنه، سيان عنده، إما لأنه لا يكاد يدين الله بشيء أصلا، وربما صلى أحيانا، بل وربما لم يصل مطلقا، وهذا -والعياذ بالله- قلبه ميت، ولو فتشت في أنحاء قلبه لربما وجدت وميضا ضئيلا جدا لا يكاد يبين، يدرك به أن للشرع حكما معتبرا في الحياة، ولكنه من ضآلته لا يؤثر في قلبه، ولا عمله، ولا يرفع صفة الموت عن قلبه.
قال تعالى في هذا المبتعد عن أحكام الدين: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا) أي عن القرآن، والدليل الشرعي: (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[النجم: 29].
قال شيخ الإسلام في هؤلاء: "لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن" أي بقطع النظر عن حكم الله، ما عاد على المال والبدن بالمصلحة فهو عنده مصلحة فقط، دون أن ينظر إلى الشرع وحكمه، فعند هذا الهوى هو الدافع وشهوة المال والجسد هو الهدف بلا قيم دينية، كالبهيمة -نسأل الله العافية-.
والإنسان إذا كان في الأصل مسلما إنما ينحدر إلى هذا المستوى بسبب كثرة الفتن المتوالية على قلبه، قال صلى الله عليه وسلم: "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه".
فاعتياد المعاصي والادمان عليها يعمي القلب، ويجعله قاسيا وأسودا، بحيث يصبح ميزان المعروف والمنكر، والصحيح والخطأ، لدى صاحبه هو الهوى، هو ما تهواه نفسه.
الصنف الثاني: هو صاحب القلب المريض، وهو القلب الذي له حياة، ولكن به علة، ففيه من محبة الله، والتوكل عليه، والإخلاص له، والإيمان به نصيب، وفيه من إيثار الشهوات على حرمتها، والحسد والكبر والعناد، وغيرها من الأمراض أيضا، له نصيب.
فهو مضطرب غير مستقر، تارة يتأثر بالمرض، وتارة يعود إلى صحته، ثم مرة أخرى، يميل إلى المرض، وهكذا.
فداع يدعوه إلى العاجلة وشهواتها ومكاسبها الجذابة، وداع يدعوه إلى الآخرة ودوامها ونعيمها؛ فإذا سمع عن الأسهم مثلا وأن شركة ما طرحت أسهمها للاكتتاب سال لعابه، وانشغل ذهنه، وبادر للاكتتاب مع الجماهير الغفيرة، فإن كان قلبه أقرب إلى الصحة سأل عن الحكم الشرعي، واجتهد في سؤال الثقات المعروفين بقوة دينهم وتقواهم، وعلمهم وحرصهم على استبراء الدين من الشبهات، لا أن يقصد من يحقق له هواه.
الحاصل أن من كان قلبه أقرب إلى الصحة، سأل عن الحكم بصدق وإخلاص، ثم اتبع حكم الشرع بكل سكينة، وطيب نفس.
أما من كان قلبه أقرب إلى المرض، فهو بين حالين: إما أن يتجاهل السؤال أصلا؛ لأن طفرة شهوة المال جعلت على قلبه غشاوة عن السؤال، وإما أن يسأل ولكن بلا صدق في طلب الحق، يعني تحصيل حاصل.
فالمال -أيها الإخوة-: فتنة أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فبسبب المال أحدهم يكذب، ويسرق، ويرتشي ويرشي، ويحتكر ويغش، ويخاصم ويقطع رحمه، وينسى قيمه، وتجد أحدهم ما شاء الله لو رأيته استأنسته: لحية طويلة، وثوب فوق الكعبين، وسواك، وكلام طيب؛ وكل هذه المظاهر جميلة ومطلوبة، لكن إذا دخل عالم المال والأعمال، وذاق لذة الثراء تغير حاله، وبدأ يرتخي في مبادئه وقيمه الدينية، وقليلا قليلا يبدأ التنازل واللف والدوران، بل حتى الأخلاق تتأثر.
فقد تجد من يقف في الصف الأول في الصلاة، لكن إذا دخل في خلاف مالي، أو بيع، أو شراء، ذهب الورع، وساءت الأخلاق، وغاب التسامح، وأحضر الشح والكذب، وسوء القول، وانقلب الحمل الوديع، وحشا كاسرا.
ولم تكد تصدق ما ترى وما تسمع من هذا الرجل، ولا نبرأ غيره ممن لا يتبعون السنة في مظهرهم، من مثل هذه الأخلاق السيئة أبداً، ولكن المقصود أن على هذا وأمثاله مسئولية أكبر؛ لأنه محل النظر.
لكن أعود وأقول حتى هؤلاء لم يسلموا من فتنة المال -إلا من رحم الله-.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش".
وأخبر عن أثر فتن الدنيا على الإنسان؛ كما في صحيح مسلم بقوله: "يبيع دينه بعرض من الدنيا" .
أسأل الله -تعالى- أن يحفظ علينا ديننا، وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.
وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وسلم ومن والاه.
أما بعد:
فلئن كان الإسلام حث على طلب الرزق، فقد نهى أن يتمادى طالبه في ذلك، فيقدم دنياه على دينه، بل أمر بتقديم الآخرة على الدنيا: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].
قد يتأثر البعض عندما يرون حولهم من يثرى مستغلا نفوذه وسلطته، ومن يثرى بالتعامل الربوي، ومن يثرى بالرشوة والخداع، ومن يثرى بالسرقة الخفية، فيقول: لماذا أتركها لهؤلاء؟ لماذا؟ فيسير سيرهم.
ينبغي أن يحذر الإنسان من غرور الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، ويحمد الله على السلامة والعافية مما ابتلاهم به.
فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد عن الأوزاعي قال: سمعت بلال بن سعد يقول: "رب مسرور مغبون ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك، وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار".
فالعز لا يبتغي بالدرهم، والمتكبرون يحشرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار.
قال الحسن: "والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله".
وقد تقدم أن شيئا من المال لا يتبع الميت، لا يتبعه إلا عمله، بل حتى المشلح يسحب منه، ويبقى للورثة يتنازعونه من بعده.
هذه هي الدنيا لمن فطن لها، هذه هي حقيقتها، وأعمالها بالإنسان، والذين لا يفرقون بين كثرة الحلال الطيب والحرام الخبيث، على خطر كبير.
إذ قست قلوبهم ففقدوا الإحساس الإيماني، والخوف من سوء العاقبة؛ جاء في الزهد عن قتادة قال: قال سليمان النبي -عليه السلام-: "عجبا لتاجر كيف يخلص يحلف بالنهار وينام بالليل؟".
قد صح في السنن وفي المسند قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به".
إن المؤمن -أيها الإخوة-: لا يبلغ الغنى الحق إلا إذا اغتنى بالله ربه -جل وعلا-، وسيشعر بالغنى، ولو كان قليل المال.
أما الشقي الذي يسعى وراء المال، بلا تفريق بين حلال ولا حرام، فمهما مكن الله له من أموال الدنيا كلها، فسيظل فقيرا شحيح النفس، كالذي يأكل ولا يشبع؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: " فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عالي، فالغنى السافل الغنى بالعواري المستردة من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث، وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى".
قال: "وأما الغنى العالي غنى القلب، وهو سلامته، وغنى النفس وهو استقامتها، والغنى بالحق قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس" [أخرجه البخاري].
ولاَ شَيءَ إلاَّ لَهُ آفَة ٌ *** وَلاَ شَيْءَ إلاَّ لَهُ مُنْتَهَى
وليْسَ الغِنَى نشبٌ فِي يَدٍ *** ولكنْ غِنى النّفس كلُّ الغِنى
صح في السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم".
أخيرا: قال عليه الصلاة والسلام: "يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله"[أخرجه مسلم].
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي