الكبر آفة عظيمة هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء، فض?ً عن عوام الخلق، وكيف لا تعظم آفاته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، وإنما صار حجاب دون الجنة؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، فما...
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى، ولا وراءه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا، وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وزكاه روحًا وجسمًا، وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: يا سعد الذين ماجت أسرارهم بجبروته، وسرحت قلوبهم في ملكوته، وأهلوا لمأنسته، وخصصوا بمخالصته، فخافوا من هجره بعدما ذاقوا حلاوة وصله.
أيها الأحباب الكرام: للأذن سمع، وللقلب سمع، فيا أيها السامع بالأذن: هل لك شِرب من هذا المسموع بالقلب؟!
والحضور نوعان: حضور بالشخص، وحضور بالقلب، فيا أيها الحاضر بالشخص: هل لك حاصل من هذا الأنس؟.
والوجد نوعان: وجد بالشوق ووجد بالذوق، فيا أيها الواجد بالشوق: هل لك حس بالذوق؟
واللفظ نوعان: لفظ مقتصر ومعنى معبر، فيا أيها المعجب بالمبنى: هل لك نصيب من المعنى؟
والعبارة نوعان: عبارة محدودة وإشارة مقصودة، فيا أيها المدعو بالعبارة: هل لك حقيقة في الإشارة؟
فيا أيها العبد: ابذل جهدك في أمر رشدك، واستوصِ بنفسك خيرا، فإليك انتهى الخبر، وعليك وقف الأثر، فكن ولي نفسك في حياتك، ووصيها بعد وفاتك، ولا تكل مصلحتك إلى غيرك، فأنت المطالب، وأنت المخاطب، وأنت المحاسب، وأنت المعاتب، وأنت المجزي الفائز إن أطعت الواهب.
أما علمت: أن الكون كله بعظمته سخر لك: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) لمن؟ (لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية: 13] لقوم يتفكرون، التفكر: بساط الوصل، والفكرة تنتج عبرة، فتسقط عبرة.
يا هذا: إن ربك عظيم غاية العظمة، وإنك ضعيف غاية الضعف، فما الذي جرأك؟
افتح الكتاب المنزل لترى آيات الصدق، تؤكد أنك عبد في غاية الرق، أو انظر في الأفق لترى سحائب الحق كيف تسكب عجائب الودق: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)[فصلت: 53].
لا نزال في حديث التجليات عن رب البريات، تعالى جاهه، وتبارك اسمه، وتنزهت أسماؤه وصفاته، مع اسم الله الكبير، وأثره في الاستخلاف على هذه الأرض، وذكرنا في الخطبة الماضية بعض مقتضيات هذا الاستخلاف، انطلاقا من هذا الاسم الكبير: "الكبير".
وسنواصل -إن شاء -الله في نفس الطريق، سائلين الله التوفيق والمدد بشواهد التحقيق.
من مقتضيات هذا الاسم وأثره في المستخلف: معرفة الحقيقة، حقيقة ضعفك وعجزك وفقرك وحاجتك إلى هذا الكبير في كل أمورك كبيرها وصغيرها، وهذا ينفي عنك صفة خبيثة كريهة، إنها: "التكبر" -عياذا بالله-، فغير عارف لربه، ولا مؤهل للاستخلاف من اتصف بهذه الصفة المقيتة الدالة على مقت صاحبها، وانقطاعه عن الله.
بل إن المتصف بها -عياذا بالله- مصروف عن الفهم، غارق في الوهم، خائر العزم، بدليل قول الكبير المتعال: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[الأعراف: 146].
قال الإمام الماوردي -رحمه الله- في تفسيره المسمى: "النكت والعيون" للآية: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
قال: "وفي يتكبرون وجهان: أحدهما: يحقرون الناس، ويرون أن لهم عليهم فضل، والثاني: يتكبرون عن الإيمان وإتباع الرسل".
قال سفيان بن عيننه -رحمه الله-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) "أي سأمنعهم من فهم القرآن".
أيها الكرام: كفى بهذا زاجرا وواعظا عن التدبر، فأي خير يرجو، وأي فهم يأمل ممن لم يفهمه القرآن؟! وهل يصل العبد إلى موالاه إلا بالقرآن؟!.
وكلمة العبد هذه تكفي بأن تخرج ما بالنفس من عوالق الكبر، فأنى للعبد أن يتكبر؟! فمن كانت صفة العبودية ملازمة له في كل أحواله، فلا يجمل به الكبر، فإن تكبر فقد عرض نفسه للسخرية؛ لأن عدم التناسب في أي شيء يكون مثارا للسخرية، وما أبعد حقيقة العبودية عن صفة الكبر.
أيها الأحباب: يقول الإمام الغزالي -رحمه الله- صاحب الإحياء، وهذا كلام نفيس، قال: "فالكبر آفة عظيمة هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء، فض?ً عن عوام الخلق، وكيف لا تعظم آفاته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، وإنما صار حجاب دون الجنة؛ لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه، ليحفظ كبره، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه، خوفا من أن يفوته كبره وعزه".
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يقول الرجل للرجل: أنا أكرم منك، وليس أحد أكرم من أحد إلا بالتقوى، قال الله -تعالى-: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].
وهذا الأمر كثير الحصول في زماننا، كما ترون وتسمعون! من التفاخر بالمنصب، والمال والجاه، وغير ذلك، وكل ذلك خبال في خبال، ووبال على وبال؛ لأن الذي خرج من مبال إلى مبال، لا تناسبه هذه الحال، ولكنه الجهل والهوى.
قال الإمام الهيتمي في كتابه الزواجر: "للكبر أنواع ثلاثة: الأول وهو شرها وأعظمها -والعياذ بالله- أولها: الكبر على الله، وهو أفحش أنواع الكبر، وذلك مثل تكبر فرعون ونمرود، الثاني: الكبر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يمنع المتكبر من الانقياد له تكبرا وجهلا وعنادا، الثالث: الكبر على العباد بأن يستعظم نفسه، ويحقر ويزدريه".
وقد عد الإمام الذهبي، وكذا ابن حجر -رحمهما الله- "الكبر من الكبائر"، واستدل بالآيات والأحاديث.
وقال الإمام الذهبي وهذا كلام نفيس: "وأشر الكبر من يتكبر على العباد بعلمه، فإن هذا لم ينفعه علمه... " إلى أن يقول: "ومن طلب العلم للفخر والرياسة، وبطر على المسلمين، وتحامق عليهم وازدراهم، فهذا من أكبر الكبر، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر".
العلم -أيها الأحباب- نور، والنور إزالة للظلمة، وأكبر نتائج زوال الظلمة تبين الحقيقة رؤية الحقيقة، فإذا أدركت العلم، ولم تعرف حقيقتك كان هذا دليلا على عدم تسرب النور إلى قلبك، فمن أدرك العلم، وأراد أن يستخدم الناس، ويسخر منهم، ويرى نفسه فوقهم؛ فمثل هذا ليس للناس حاجة به، ولا بعلمه، ولا بقربه، وعاقبته الذل بلا ارتياب.
وقد قال أحد السلف كما ذكر ذلك أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، قال: "كنا نكره العالم الذي كأنما يمتن علينا بعلمه".
أيها الأحباب: ولنسلم قلوبنا، ولنحضر أفئدتنا، ولنصغِ لسيد المتواضعين، وإمام المتقين، وأكمل البشر أجمعين؛ سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
لنستمع إليه، وهو يفتح مغاليق القلوب وأقفالها، لنستمع إليه وإلى كلماته الرقراقة، التي تحمل الإشراق والإحراق، تشرق بالحق، فتزول الشبهة، وتحرق بالوعيد، فينمحي محرم الشهوة.
عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه-، قال: التقى عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على المروة، يعني التقوا عند المروة- فتحدثا ثم مضى عبدالله بن عمرو وبقى عبدالله بن عمر يبكي.
فقال له رجل: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هذا يعني عبدالله بن عمرو- زعم أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله لوجهه في النار" [رواه أحمد والمنذري في الترغيب والترهيب].
ويأتي أجمل تعريف، وأدق توصيف للكبر في الحديث التالي، وذلك حتى يزول الإشكال، وتتبين حقيقة الاختيال، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا" قال: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" الكبر الآن بدأ التعريف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ" [رواه مسلم].
بطر الحق، ودفعه، وإنكاره، ترفعا وتجبرا، "وغمط الناس"، "وغمس الناس" ورد باللفظين، أي احتقارهم.
فالكبر إذاً رفض للحق، واحتقار للخلق، وما أكثر هذه الأشكال المتحجرة في زماننا هذا، لا يقبل على نفسه حقا، إن كان عليه، وإن كان له أقام الدنيا ولم يقعدها، وقد ناد الله المؤمنين، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)[النساء: 135].
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، أمين، أمين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته وخضع، وافتقر الكل لرحمته وطمع، أذل من تكبر ووضع، وأعز من تواضع عليه بكبريائه ورفعه، والصلاة والسلام على صاحب أكمل خلق وأرفع، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السجد الركع الخضع، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: تواصل الأحاديث إرسالها السياط الكاوية لهذه الفئة العاتية أصحاب التكبر الذين يحتقرون الناس، ويزدرونهم الذين لا يقبلون الحق في أنفسهم ويردونه تعنتا وتكبرا الذين شعارهم: "الأنا"، "الأنا" الخاوية الفارغة.
ويكفي أصحاب "الأنا" خسة أن أول من قالها إبليس -لعنه الله-؛ عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتأملوا في هذا الحديث، قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر -الحصى الصغير- في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم، يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال" [رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وكذا الإمام البغوي في شرح السنة، وحسنه الألباني -رحمه الله-].
وعيد يهز القلب هزا: "يساقون إلى سجن في جهنم"، يا له من وعيد جهنم كلها سجن، فكيف بسجن في سجن في قلب النار -عياذا بالله- الواحد القهار: "يسقون طينة الخبال" وهذا الاسم فيه ما فيه، طينة الخبال، فالمتكبر ما وقع في الاختيال إلا لما نسي أصله الطيني الترابي، وهذا هو الخبال بعينيه.
تتكبر وأنت الفقير: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ) وهذا خطاب إلى الناس كلهم، ملكهم ومملوكهم، وزيرهم وموزورهم، رئيسيهم ومرؤوسهم، غنيهم وفقيرهم: (أَنتُمُ الْفُقَرَاء) [فاطر: 15] خطاب للأولين والآخرين.
إذاً، فتعريفنا نحن: أبناء الفقراء، أبناء الفقراء، أبناء الفقراء، أبناء أبناء أبناء الفقراء، ففيما التكبر؟!
لا يناسبنا أبداً!.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله -سبحانه وتعالى- الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، من نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم" [رواه مسلم وابن ماجة].
ويقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث مختصر، عجيب، دال غاية الدلالة، عميق في معناه، واعظ لمن سعى ووعى وادعى، عن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه...".
قال الشراح: "يذهب بنفسه" أي: يترفع ويتكبر" "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم" [رواه الترمذي، وقال محقق جامع الأصول: حديث حسن].
ما أجمل هذا اللفظ: "ما يزال الرجل يذهب بنفسه" يتجاوز الحد الذي رسم له، فيذهب بعيدا عن حقيقته، حقيقة كونه عبدا شاء أم أبى، فإذا تجاوز هذا الحد وصل منازل الجبارين، فحل به ما حل بهم: (وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ)[إبراهيم: 45].
والسكنى نوعان: سكنى المبنى، وسكنى المعنى، سكنى الديار، وسكنى الشعار، سكنى المساكن، والسكنى إلى مساكن المساكن، والعاقبة الوبيلة تنتظر الجبارين، ومن سار على طريقهم: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) [الصافات: 22] أي: وأمثالهم.
إن الكبر -أيها الأحباب- جنوح عن الصواب، ووقوع في الارتياب، وسبب في التباب، وسببه جهل في الضمير مستقر، وإلا فقد حسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمر وبينه، فقال عليه السلام: "إن الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية، إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب" [رواه أبو داود وحسنه الألباني].
"إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية" أي تخونها، وما كانت فيه الجاهلية من ألوان الكبر والاستعلاء، وهذه الكلمة: "عبية" أصلها من العبء، وهو الثقل، فالكبر أثقال وأغلال وآصار تعذب صاحبها، وتمنع عنه لذيذ العيش.
وهذا مشاهد في المتكبرين، يعيشون العذاب والنكال -عياذا بالله-، في مشيتهم، في هيئتهم، في تعاملهم، في كل شؤون حياتهم، أما أهل البساطة، والافتقار إلى ،الله وإن كانوا أصحاب مال وسلطان، ففي سعادة غامرة، وقلوب باليمن عامرة.
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذلك في حديث عجيب: "ما امرئ إلا في رأسه حَكَمة.. " الحكمة هي حديدة تكون على أنف الفرس، وحنكه تمنعه من مخالفة راكبه: "ما من امرئ إلا وفي رأسه حَكَمة بيد ملك، فإن تواضع قيل للملك ارفع الحكمة، وإن أراد أن يرفع -أي أن يستعلي ويتجاوز قدره- قيل للملك ضع الحكمة".
فأنت -يا عباد الله-: مسوق محكم مقيد، لا حول ولا قوة لك، لا تملك حتى زمام نفسك: (مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود: 56].
فحري بمن هذه حاله أن يتواضع لله: الملك الجبار، الكبير المتعال، المتكبر المهيمن، له العزة والجبروت، وجليل النعوت، وهو سبحانه الحي الذي لا يموت.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إن الرجل إذا تواضع لله رفع الله حكمته، وقال: انتعش نعشك الله، فهو في نفسه صغير، وفي أعين الناس كبير، وإذا تكبر العبد، وعدى طوره، يعني جاوز قدره- وهصَه الله إلى الأرض، وقال: اخسأ! أخسأك الله، فهو في نفسه كبير، وفي أعين الناس صغير، حتى إنه لأحقر عنده من الخنزير".
وعن عبد الله بن عمر: أنه رأى رجلا يختال في مشيته، ويجر إزاره، فقال: "إن للشيطان إخوانا".
وقال الأحنف بن قيس -رحمه الله-: "عجبا لابن آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين".
وقال محمد بن الحسين بن علي -رضي الله عنه-: "ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك، قل أم كثر".
وهذا كما ذكرنا في أول الخطبة أن الكبر ما هو إلا حمق وسفاهة.
رأى محمد بن واسع، وما أدراكم ما هو محمد بن واسع، من أكابر السلف، من أكابر العباد، رأى ولده يختال يتكبر يمشي مشية المختال، فدعاه، وقال له: "أتدري من أنت؟ أما أمك فاشتريتها بمائة درهم، وأما أبوك فلا كثر الله في المسلمين مثله".
وهذا من تواضعه، ورؤيته النقص في نفسه، على ما كان عليه من العلم والزهد والعبادة.
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- أنه رأى المهلب، والمهلب هذا من أهم ولاة الأمويين، كان ولايا على خرسان، كان شجاعا وكريما، مطرف رأى المهلب، وهو يتبختر في جبة خز، أي جبة حرير، فقال: "يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله" فقال له المهلب: "أما تعرفني؟" فقال: "بلى أعرفك؛ أولك نطفة مذرة، وآخرتك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك تحمل العذرة"، يعني الغائط -أعزكم الله- فمضى المهلب، وترك مشيته تلك.
وما أكثر الذين تخاطبهم اليوم، فيقول: أما تدري من تكلم؟! وهي كلمة غاية في الخسة، غاية في الخبث، غاية في الذلة، نحن العباد نعرف بعضنا، ونعرف أصلنا، فقد عرفنا الله، وأنبأنا من نحن، فقال: (أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ)[المرسلات: 20].
ولله در القائل، وهو شعر في غاية اللطف والجمال:
نسى الطين ساعة أنه طين حقير *** فسار تيها وعربد
وكسا الخز جسمه فتباهى *** وحوى المال كيسه فتمرد
يا أخي لا تمل بوجهك عني *** ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
يعني نجم
أنت لم تصنع الحرير الذي *** تلبس واللؤلؤ الذي تتقلد
أيها المزدهي إذا مسّك السقمُ *** ألا تشتكى؟ ألا تتنهد؟
قمر واحد يطل علينا ***وعلى الكوخ والبناء الموطد
إن يكن مشرقاً لعينكِ إني لا أراه *** من كوة الكوخ أسود
النجوم التي تراها أراها *** حين تخفى وعندما تتوقد
أنت مثلى من الثرى وإليه *** فلماذا يا صاحبي التيه والصد؟
كنتَ طفلا إذ كنتُ طفلا *** وتغدو حين أغدو شيخا كبيرا أدرد
"أدرد" يعني وقع أسنانه من الهرم
ألك القصر دونه الحرس الشا *** كي ومن حوله الجدار المشيد
فامنع الليل أن يمد رواقا *** فوقه والضباب أن يتلبد
وانظر النور كيف يدخل لا *** يطلب إذنا فماله ليس يطرد
أيّها الطين لست أنقى وأسمى*** من تراب تدوس أو تتوسّد
سدت أو لم تسد فما أنت إلاّ *** حيوان مسيّر مستعبد
إنّ قصرا سمكته سوف يندكّ *** و ثوبا حبكته سوف ينقد
لا يكن للخصام قلبك مأوى *** إنّ قلبي للحبّ أصبح معبد
أنا أولى بالحب منك وأحرى *** من كساء يبلى ومال ينفد
اللهم أصلح أحوالنا....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي