اتقوا الله -يا عباد الله-: فإن من الناس من قطع رحمه، وما علم أنه وقع في كبيرة من كبائر الذنوب، وأنه ربما حجب عمله عن أن يصعد إلى السماء، مهما كان عمله صالحا؛ لقطيعته لأرحامه. واسمع لقول أبي سفيان بن حرب قبل أن يسلم، يوم أن سأله هرقل عظيم الروم عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "وبماذا يأمركم به؟" قال: "يأمرنا ب..."...
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
ثم أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن الله -جل وعلا- قال في كتابه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1] (وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
قرن الله -جل وعلا- حقه وحق الأرحام بالتقوى، فهل تأملتم ذلك وتدبرتموه؟ وما ذلك -يا عباد الله- إلا لعظم حق الأرحام، وما أوجبه الله -تبارك وتعالى- لهم؛ فاتقوا الله في أرحامكم، ولو أساؤوا؛ أحسنوا، ولو قطعوا؛ فصلوا.
فاتقوا الله -يا عباد الله-: فإن من الناس من قطع رحمه، وما علم أنه وقع في كبيرة من كبائر الذنوب، وأنه ربما حجب عمله عن أن يصعد إلى السماء، مهما كان عمله صالحا؛ لقطيعته لأرحامه.
واسمع لقول أبي سفيان بن حرب قبل أن يسلم، يوم أن سأله هرقل عظيم الروم عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "وبماذا يأمركم به؟" قال: "يأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة".
فكان من أوائل الأمور التي أمر بها صلى الله عليه وسلم مع إشراق شمس الرسالة، وبداية الدعوة: أنه كان صلى الله عليه وسلم يأمر بالصلة، وما ذلك إلا لأهميتها، ولذلك فقد فأتت الصلة، والأمر بها؛ مع المعالم الكبرى لهذا الدين، أتت مع الأمر بالصلاة، ومع الأمر بالصدق، ومع الأمر بالعفاف، وما ذلك إلا لعظم شأن الصلة؛ فاتقوا الله في أرحامكم.
وقوله صلى الله عليه وسلم عمرو بن عبسة يوم أن سأله، فقال: "بأي شيء أرسلك؟" أي الله -جل وعلا-، فقال صلى الله عليه وسلم: "أرسلنا بصلة الأرحام".
كأن الرسالة كل الرسالة جمعت في صلة الأرحام، والقيام بحقوق الأرحام؛ لعظم شأن حقهم -يا عباد الله-، فقال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوجد الله ولا يشرك به شيئا".
فهل وعى قاطعو الأرحام عظيم حق الأرحام، وصلتهم، وما يجب لهم؟!
الرجل الذي قال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أخبرني بعمل يدخلني الجنة" قال عليه الصلاة والسلام: "تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم" [والحديث في الصحيحين].
فمن أعظم أسباب دخول الجنة: صلة الأرحام، يا من تريد أن تدخل الجنة يوم أن تلقى الله -جل وعلا-، وتنعم في دار النعيم، عليك بصلة أرحامك، والقيام بحقوقهم، وتأدية ما أمرك الله -عز وجل- به تجاه هؤلاء الأرحام.
وقال ابن عمر -رضي الله عنه-: "من اتقى ربه، ووصل رحمه، نسئ في أجله، وثري ماله، وأحبه أهله".
فصلة الأرحام بركة في الدنيا، وبركة في الآخرة، صلة الأرحام بركة في الأولاد والمال والأعمار، ومرضاة لله -تبارك وتعالى- وهي سبب من أسباب دخول الجنة في الآخرة، ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم؛ كما في الحديث الذي يرويه أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله؛ فليصل رحمه".
فأين نحن -يا عباد الله- من القيام بحقوق أرحامنا، ومن صلة أرحامنا، ومن معرفة ما أوجبه الله -جل وعلا- علينا، من واجبات حقوق أرحامنا.
هل علمتم -يا عباد الله- أن قاطع الرحم لا يدخل الجنة، وأي عقوبة أكثر من ذلك؟.
صح عنه عليه الصلاة السلام أنه قال: "لا يدخل الجنة قاطع رحم".
فعجبا لحال كثير من الناس، كم سمعوا بها من قبل، وهم مصرون على قطيعة أرحامهم، من أجل حطام الدنيا، من أجل دنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة!.
واعلموا -يا عباد الله-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم".
ورضي الله عن أبي هريرة أعظم الصحابة حفظا ونقلا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأكثر مجالسة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتلقى السنة من على لسانه -صلوات الله وسلامه عليه-.
كان يجلس أبو هريرة -رضي الله عنه- عشية الخميس ليلة الجمعة من كل أسبوع، فيحدث، لكنه قبل أن يحدث كان يقول: "ناشدتكم الله ليخرج من كان معنا قاطع رحم" يكرر هذا مراراً، فيعجبون من أبي هريرة لا يحدث حتى يناشد جلساءه مرارا إن كان بينهم قاطع رحم أن يخرج، وأن يذهب وينصرف من ذلك المجلس.
في ليلة من الليالي خرج شاب من الشباب من ذلك المجلس، وانطلق إلى عمة له، كان مصارما لها، وكان قاطعا لها، فلما رأته بكت لطول الفراق، وبعد الزمن في القطيعة، وقالت له: ما الذي أتى بك؟ قال: أتيت لأصلك، فقد حرج علينا أبو هريرة: أن لا يجلس في مجلسه أحد قاطع لرحم، قالت: فبالله عليك عد إلى أبي هريرة، واسأله عن سبب تحريجه عليكم، وعن سبب كلامه ذاك؟!
قال: فعدت إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- فأخبرته وسألته، فقال أبو هريرة: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أعمال بني آدم تعرض على الله -تبارك وتعالى- عشية كل يوم خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم" [والحديث رواه أحمد وغيره].
فيا قاطعة الأرحام: اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في أرحامكم، اتقوا الله في أعمالكم التي تعملونها ليلا ونهارا، لا تكون قطيعة الرحم سببا في حجب هذه الأعمال، وصعودها إلى الله -جل وعلا- وقبولها.
واعلموا أن قطيعة الرحم تحجب الرحمة، وترد الدعاء، وتحبط العمل، فالله الله -عباد الله- في الأرحام: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم؛ إنه تعالى جواد كريم، ملك بر رؤوف رحيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
ثم أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال في شأن الرحم: "إِنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، تَقُولُ: يَا رَبِّ إِنِّي قُطِعْتُ، يَا رَبِّ إِنِّي ظُلِمْتُ، يَا رَبِّ إِنِّي أُسِيءَ إِلَيَّ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ تشكو إلى ربها -تبارك وتعالى-، فيجيبها الله -جل وعلا-: ألا ترضين أن أقطع من قطعك، وأن أصل من وصلك".
فكم من رحم ضعيفة مظلومة؛ سلب حقها، وظلمت في مالها، وقطعها رحمها من الذكور، ومن الإناث، واعتدوا على حقوقها، أو أخذوه منها بسيف الحياة، إلى غير ذلك من تلك الأساليب الخادعة الماكرة التي تفنن فيها بعض الناس للاستيلاء على حقوقها، فليتقوا الله -جل وعلا-، فإن الرحم موعودة بأن من وصلها واصله الله، ومن قطعها قطعه الله، ومن قطعت هباته من الله، فقد هوى، وضلل وغوى، وخاب وخسر في الآخرة والأولى.
وفي الحديث القدسي: "قال الله -عز وجل-: أنا الرحمن، وأنا خلقت الرحم، واشتققت لها من اسمي، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها بتته".
فهذا وعد صادق من الله -جل وعلا- لواصل الأرحام: أن يواصلهم، ولقاطع الأرحام: أن يقطعهم، من رحمته، ومن استجابة دعائهم، إذا دعوه.
وهذا علي بن الحسين -رضي الله عنه- ورحمه، يوصي ابنه؛ فيقول: "يا بني لا تصحبن قاطع رحم، فإني وجدته ملعونا في كتب الله".
والله -جل وعلا- يقول: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 22-24].
والله -جل وعلا- قال: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[البقرة: 26-27].
فيا خيبة! ويا خسران! ويا خذلان! القاطعين لأرحامهم، ويا سعادة! ويا فوز! ويا فلاح! الواصلين لأرحمهم!.
كن -أخي المسلم- من الواصلين يبارك الله -عز وجل- في عمرك، ويبارك لك في مالك، ويصلح لك ذريتك وزوجك، ويهيأ لك من يقوم على شؤونك، والقيام بحقوقك.
جعلني الله وإياكم من الواصلين، وجنبنا طريق القاطعين.
ألا وصلوا وسلموا -عباد الله- على إمام الواصلين، فقد أمركم الله بالصلاة عليه في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي