والسعادة جعلها الله في باب واحد، جعلها ربنا -تبارك وتعالى- في باب الرضا عن الله، فمن رضي عن الله -عز وجل- أرضاه ورضاه، إن كان فقيرًا فهو أسعد الناس، وإن كان غنيًا فهو أسعد الناس، إن كان صحيحًا سليمًا فهو أسعد الناس، وإن كان مريضًا عليلاً فهو أسعد الناس، لا يشعر بشقوة قط، لماذا؟! لأنه رضي عن الله.
إِنَّ الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ -وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ-، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [ الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تعَالَى، وَخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
ثم أما بعد:
عباد الله: لو نظرنا إلى جميع الخلق الذين يسيرون على هذه الأرض لرأينا أن جميعهم يتفقون على أمر واحد، يتفقون أنهم يطلبون ويسعون في تحقيق السعادة، بمعنى أن الكل من بني الإنسان يسعى في جلب السعادة لنفسه، ورغم هذا نرى أن السعادة ما حصّلها إلا القليل، فإن غالب الناس قد اختلفت: ما الأهم في أمر السعادة؟! فالبعض يرى أن السعادة في المال، فيجمع المال ولا يحقق السعادة، والبعض ينال المناصب والمنازل حتى وصل إلى أعلى الدرجات ولا يحصّل السعادة، والبعض يسير خلف الشهوات كالبهيمة أو كالعجماوات؛ ظنًا أنه يحصّل السعادة، وما حصّل السعادة.
فلو سألنا صاحب المال: أأنت سعيد؟! الجواب لا، فإن سعد يومًا شقي أيامًا، وكذلك أصحاب الجاه والمناصب، وكذلك أصحاب الشهوات.
والسعادة جعلها الله في باب واحد، جعلها ربنا -تبارك وتعالى- في باب الرضا عن الله، فمن رضي عن الله -عز وجل- أرضاه ورضاه، إن كان فقيرًا فهو أسعد الناس، وإن كان غنيًا فهو أسعد الناس، إن كان صحيحًا سليمًا فهو أسعد الناس، وإن كان مريضًا عليلاً فهو أسعد الناس، لا يشعر بشقوة قط، لماذا؟! لأنه رضي عن الله.
ولذلك منازل السعادة تدور على أمرين عظيمين جدًا:
المنزل الأول: الرضا عن الله.
والمنزل الثاني: الصبر.
قد ترى غنيًا قد افتقر، وترى فقيرًا قد وصل إلى أعلى مراتب الغنى، قد ترى إنسانًا صعلوكًا صار ملكًا، وقد ترى الملك صار صعلوكًا، الدنيا ليست منزل علو ولا منزل رفعة، والإنسان بطبعه ضعيف (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا). [المعارج: 19]. والهلع من أمرين عظيمين: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا). [المعارج: 20]، يخاف من الفقر والضيق والشدة، وإن فتح الله عليه باب خير: (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا). [المعارج: 21]. فإن كان في ضيق يشتكي، وإن ملك مال قارون يمنع ويخاف من الفقر: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ). [المعارج: 22]. أي من عرف الله -عز وجل-، ومن رضي عن الله -تبارك وتعالى-.
فالسعادة رضًا عن الله -عز وجل-: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ". مسلم (2999) عن صهيب -رضي الله عنه-.
ومن ثمّ ترى السعيد هو الذي يقف أمام أمر الله -تبارك وتعالى-، ولذلك قالوا بأن السعادة هي تحقيق أمر الله -عز وجل- فيما تحب وفيما تكره.
إن بعض من حرموا السعادة الظاهرة -بمعنى حرموا المال- ربما يسعون في جلب المال من الحرام؛ لأنه يظن أن السعادة في المال، ومن ثم كانت السعادة في أمر خفي غاب عن كثير من الناس، وهو الرضا عن الله -عز وجل-، ونظرًا لضعف الإنسان فإن الله -تبارك وتعالى- ما تركه سدى، فهو ضعيف وعاجز، فأرسل إليه الرسل وأبانوا له الطريق، وعرفوه كيف يستمتع بهذه الحياة، وكيف يجعل الدنيا مطية إلى الجنة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 124].
كل من خالف أمر الله -عز وجل- فهو في ضنك، كثير من الناس يلهث خلف الملك والمناصب لتحصيل الجاه، بل إن المال يبذل من أجل المنصب والجاه، فهل حقق السعادة؟!
ما نعلم في التاريخ قط أحدًا نال ملكًا أعظم من ملك فرعون، أين الملوك في جانب فرعون الذي عبّد قومه له: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]. كانوا يسجدون للملك، كانوا صمًا بكمًا عميًا لا يرون إلا ما يقول فرعون (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29]. كان هو الذي يأمر والذي ينهى، لا يرون أمرًا إلا أمر فرعون، ورغم هذا جره ملكه إلى الهاوية (فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 43]. وكان آية يتندر بها البشر، وعلى الرغم من هذا لا يعتبر به أحد.
المال، من جمع كقارون؟! قارون ما أعلم أحدًا منذ بدء الخليقة وربما إلى قيام الساعة سيجمع ما جمع قارون: (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص: 76]، المفاتيح الجماعة من البشر لا يستطيعون حملها، مفاتيح الأبواب، فكيف بما هو خلف الأبواب؟! خرج على قومه في زينته، العقول انبهرت بمشهد قارون دون رؤية ماله، فخسف الله به وبداره، فذهب ماله وصار عبرة.
فالعاقل من عرف الطريق إلى الله -عز وجل-، ختم الله الرسالات برسالة نبينا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، عاش على شدة من العيش وهو راضٍ، كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال -ثلاثة أهلة في شهرين- ولا يوقد نار، وكان راضيًا، وكان يستعيذ من الفقر، بمقاييسنا نحن وأي فقر أشد من هذا، إن الفقر هو عدم الرضا عن الله -عز وجل-.
قد ترى في بيتك لحمًا وإدامًا وأطعمةً كثيرة، وأنت غير راضٍ عن الله، قلبك في الغد وبعد الغد وبعد الغد، قد يكون عندك من المال ما عندك وتفكر ما بعد المال، أي ما بعد انتهاء المال.
فكان يمر على النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت النبوة الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة، وكان يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما أحب أن أبيت ليلتي وفي بيتي دينار أو درهم إلا أنفقته في سبيل الله".
الرضا عن الله -عز وجل- يعطيك السعادة، يعطيك اليقين أنك عبد لله -عز وجل-، وأنه يجري فيك ما قدّره بضعفك وعجزك وعدم حولك وعدم قوتك وطولك.
ربنا -عز وجل- هو الذي يعطيك، هو الذي يمنعك، إن أعطاك فبفضله، وإن منعك فلعلة، كم من أقوام ابتلاهم الله بالفقر وهم أخيار!! كم من الأنبياء قتلهم الفقر كانوا لا يجدون العباءة يلبسونها، أوذوا أعظم إيذاء وهم أنبياء!! فالابتلاء ليس معرة وليس بعيب، ولكن أراد الله -عز وجل- لهم الرفعة، فمن ثم أعلى قدرهم ورفع شأنهم.
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- ربّى أصحابه، في وقت الاستضعاف النفوس تحب التمكين، تحب الظهور، تحب العلو، تعذيب وطحن، تمزيق لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في عقر دارهم، مِمَّنْ؟! من أهلهم وذويهم، تضييق وتعذيب وشدة، وهم صابرون ماضون محتسبون، يتمنى أحدهم دعوة لرفع ما بهم من ضر، فيغضب النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
إن الطريق لا يحتاج منك إلى أمر في الدنيا تكون منه على يقين، التمكين قد يأتي وقد لا يأتي، السعادة في الدنيا قد تأتي وقد لا تأتي، إنما السعادة أن ترضى عن الله -عز وجل-، وأن تكون صادق الرضا حتى يرضى الله -عز وجل- عنك.
ما بشَّر أحدًا منهم بمنصب ولا بمنزل من منازل الدنيا، بشرهم بالجنة؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ". أبو داود (4649)، الترمذي (3747).
بشَّر كثيرًا من أصحابه، بل بشرهم جميعًا على الإجمال، وما بشر واحدًا منهم بمنصب في الدنيا، ما قال يومًا: يا أبا بكر: ستكون خليفة للمسلمين، ما قال: يا عمر ستكون أميرًا على المؤمنين، ما ذكر لهم ذلك البتة، إلا تعريضًا، كما ورد بإسناد فيه مقال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما وقع خلاف بينه وبين زوجه حفصة فبشرها بملك أبيها، فأسرّت، ووقع خلاف بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين حفصة أنها أفشت هذا السر.
فأمر الدنيا عند أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عرضًا ما كان هدفًا، كان غاية للوصول إلى طاعة الله -عز وجل- والرضا عن الله -تبارك وتعالى-.
أيها الحبيب: إن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت سعادتهم في الإعطاء لا في الأخذ، بذلوا النفس فما دونها لله، وما طلبوا مقابل النفس شيئًا قط، في يوم بدر رجل يسمع نداء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة: "سارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، فيقول: بخ بخ، هذا كلام عجيب، يتعجب من جنة عرضها السماوات والأرض، فيقول له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حملك على هذا؟!". فيقول: والله ما قلت هذا إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: "أنت من أهلها"، كان في يده تمرات يتقوى بها، ألقى بتمراته وهو يقول: إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات.
كان عندهم العطاء لله -عز وجل-، فأعطاهم الله -عز وجل- أعظم مما أعطوا، ماذا أعطوا؟! أعطوا النفس التي هي ملك لله -عز وجل-، فعوضهم الله -عز وجل- الخلود في الجنة، أعطوا المال الذي هو ملك لله -عز وجل- فأعطاهم الله -عز وجل- النعيم الأبدي في الجنة: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان:20].
ماذا أعطيت يا عبد الله؟! هم أعطوا فأعطاهم الله -عز وجل- الخلد في الجنة، حينما نرى صحابيًا جليلًا في مرة قرأ القرآن؛ قرأ قول الله -عز وجل-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، فنظر ماذا يعطي؟! ما كان يعطي الدون، ما كان يعطي الحقير مما عنده، نظر في أعلى وأفضل ما عنده فنظر فإذا له بستان عظيم قبالة المسجد النبوي؛ جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِليَّ بِيرُحَاءَ -بستان ببئر-، قَالَ: وَكَانَتْ حَدِيقَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُهَا وَيَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا. فَهِيَ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَإِلَى رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، أَرْجُو بِرَّهُ وَذُخْرَهُ ، فَضَعْهَا -أَيْ رَسُولَ اللَّهِ- حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "بَخْ يَا أَبَا طَلْحَةَ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ" -هو هذا الربح: (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ)- قَبِلْنَاهُ مِنْكَ وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ، فَاجْعَلْهُ فِى الأَقْرَبِينَ". فَتَصَدَّقَ بِهِ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى ذَوِي رَحِمِهِ. البخاري (2758)، مسلم (998).
سبقه الصديق لما كان جيش العسرة يستعد للخروج إلى الروم، حثّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على النفقة، تصدق أبو بكر بماله كله، ما أبقى شيئًا.
النفوس ضعيفة جُبلت على حب الدنيا، ولكن منازعتك لها بينها وبين الآخرة يعطيك دفعة أن تعمل لله -عز وجل-، أن تعطي لله -عز وجل-، أن تمنع لله -عز وجل-، هذا هو الطريق، أن ترضى عن قسم الله لك، وإن أعطيت أن تعلم أن الله -عز وجل- سيجزيك أضعاف ما أعطيت وما تملك.
وأعظم باب لمنعك: الولوغ في الحرام، من ولغ في الحرام وغرق في الحرام غش وخادع وكذب على المسلمين، أخذ المال من حله وحرامه، ما استطاع أن يعطي لأنه يحب أن يأخذ، ما الذي حمله على هذا؟! ما رضي عن الله -عز وجل-، ما عرف طعم الرضا في الرخاء وفي الشدة.
أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- عاشوا على شدة من العيش، ولما فُتحت عليهم الدنيا من الحلال ظنوا أن هذه فتنة، وأن هذا بلاء، جلس عبد الرحمن بن عوف يومًا لطعام الإفطار وكان صائمًا، فقعد والطعام أمامه ينتظر أذان المغرب، فرأى ألوانًا وأصنافًا من الطعام، ابن عوف ملك ما ملك وجمع ما جمع من حلال، كان إن وضع يده في التراب صار تبرًا، كان تاجرًا ماهرًا وُفِّق في تجارته، فنظر إلى الطعام فهيجه الطعام ما كان، هيجه زمن القلة، وزمن الفقر، وزمن العوز وقلة الطعام، حينما كانوا يأكلون كسر الخبز وحفن الشعير والتمر الرديء -دقل التمر-، فذكر مصعب بن عمير وقال: كان خيرًا مني، قتل مصعب وكان خيرًا مني، مات مصعب شهيدًا فما وجد ما يكفن فيه إلا شملة إن وضعت على رأسه بدت رجلاه، وإن وضعت على رجليه بدا رأسه، فوضعت على رأسه ووضع الإذخر ليتم غطاؤه بما بقي من قدميه ومن ساقيه، ثم ذكر حمزة؛ قُتل حمزة وكان خيرًا مني، ثم هيجه ما كان، ما مضى، كانوا يحنون إلى الماضي إلى قلة العيش، إلى قلة الانشغال بهذه الدنيا، فقال: ارفعوا طعامكم، أرى أنه مكر بنا، أو أرى أن الدنيا قد فتحت لنا على سبيل البلاء.
فأيها الحبيب: كلنا يبحث عن السعادة، كلنا يفكر في السعادة، لا في طعام وجدنا السعادة، لا في مال وجدنا السعادة، لا في نساء وجدنا السعادة، لا في ملك وجدنا السعادة، السعادة أن ترضى عن الله -عز وجل-، وأن يرضي الله عنك.
إذا عجزت عن منزلة الرضا، صعب أن تعطي أصعب ما يكون؛ لأن نفسك دنية تدفعك إلى الأخذ فكيف ترضى بالسلب، هناك منزلة أخرى ليس بعدها منزلة الصبر، أن تبتلى فتكون رجلاً، إن سلب منك المال فاحمد الله، إن قل عندك المال فاحمد الله، إن وجدت من نفسك قلة فاحمد الله، لماذا؟! إنه الصبر، اصبر، ستتقلى على الجمر في سيرك في هذه الحياة، صبّر نفسك، إن لم تهيج قلبك بذكر الجنة فخوّف نفسك بذكر النار، حُرمت المال، حُرمت الدنيا، وجدت المرض قد أكل بدنك، ماذا أفعل؟! الصبر، أن تمني نفسك بما عند الله -عز وجل- في الجنة، فإن لم تهيجك الجنة، صار أمر الجنة عندك مألوفًا، فالنار.
أتدرون من المفلس يوم القيامة؟! فقال الصحابة جميعًا: المفلس فينا من ليس له دينار ولا درهم، قال: لا، ليس هذا إفلاس، الإفلاس أن تخرج من الدنيا بلا دين، أن تأتي وقد أكلت مال هذا، وشتمت هذا، وسلبت هذا، وقطعت هذا، يأخذ من حسناتك على حسنات الآخر، فإن نفدت حسناتك أخذت من سيئات الآخر فطرحت على سيئاتك، ثم ألقي بالعبد إلى النار، نار وقودها الناس والحجارة، ليس لها وقود إلا أبدان بني آدم، هذا من أعظم المشاهد الذي يحيل بينك وبين الحرام.
أين قلبك؟! سعادتك أن تكون مع الله -عز وجل-، نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان يدخل البيت فإن وجد طعامًا أكل، وإن لم يجد طعامًا يقول: إني صائم، رضي عن الله -عز وجل-، ما نازعته نفسه يومًا شيئًا، إلا إن جاء شيء من حلال، كان يحب من الشاة الذراع، كم مرة أكل من الذراع وهو يحب هذا؟! فليس كل ما تحبه تجده، وإن وجدت فليس على الدوام، لأن الدنيا مرحلة، لحظة، فإن سابقتك أقعدتك، وإن سبقتها دخلت الجنة.
عودوا إلى ربكم واستغفروه...
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
منزلة الرضا عن الله -عز وجل- عند السراء وعند الضراء، عندما تتمنى وعندما لا تتمنى، تولى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الملك، ونالوا الإمارة، فحكموا بشرع الله -عز وجل-، وما خالفوا.
أبو بكر الصديق ملك، وجنوده على تخوم فارس والروم، فلما كان على فراش الموت جمع بناته وأبناءه وأحفاده، ثم قال لهم: إني قد أخذت من بيت مال المسلمين على سبيل الراتب، لأن الصديق -رضي الله عنه- في يوم ولايته خليفة للمسلمين خرج إلى السوق ليتاجر، وكان تاجرًا ماهرًا كان من أشهر تُجّار العرب في مكة، خرج ليمارس مهنته، فخرج المسلمون خلفه وقالوا: يا خليفة رسول الله: ماذا تفعل؟! قال: تجارتي التي أنفق منها على نفسي وعيالي، قالوا: اقعد ونكفيك، أنت خليفة للمسلمين، فوافق على هذا خشية الضيعة للمسلمين، فجلس عامين وكسورًا، كان من قبل يوسّع على نفسه بتجارته وماله، صار الآن يأكل براتب عمله للمسلمين، فكان يأخذ القليل، كسر الخبز وحفن الشعير، إلى أن كان على الفراش، منذ أن تولى إلى أن خرج من الدنيا ما غيّر ثوبه -رضي الله عنه-، فجمع أولاده وأحفاده ثم قال: إني قد أخذت من مال المسلمين ما يقارب كذا، وإن أرضي التي بخيبر تزيد على هذا، فادعوا لي عمر ليجعلها في بيت مال المسلمين في مقابل أعطياتي على العمل. وخرج من الدنيا بلا أجر لعمله للمسلمين.
وتابعه على هذا عمر، كان عمر يحرم بيته وذويه من اللحم، رأى يومًا لحمًا مع عبد الله بن عمر فقال: ما هذا يا بني؟! قال: لحمًا قرمناه -اشتهيناه-، فقال: أكلما اشتهت نفسك شيئًا أكلته، فغضب، فمنع ابن عمر أن يأكل شيئًا حتى قتل عمر -رضي الله عنه-.
رأى شياهًا ترعى في واد، فسأل: لمن هذه؟! فقالوا: هذه لأحد أبنائك، فقال: سبحان الله! أبلغ بأبنائي هذا؟! وكان هذا في أرض قحطاء صحراء ليس فيها إلا القليل من العشب، بعيدة ليست لأحد، فنادى ابنه وقال: يا بني: ما الذي حملك على هذا؟! قال: يا أمير المؤمنين: هذه أرض ليست ملكًا لأحد -كلأ مباح-، قال: نعم يأتي فلان فيرى غنيمات ابن أمير المؤمنين فيقول: ابتعدوا عن هذا المكان، ويأتي فلان فيرى غنيمات لابن أمير المؤمنين فيقول: ابتعدوا عن هذا المكان، فصرت ملكًا في هذا المكان، اقسم هذه الغنيمات بينك وبين بيت مال المسلمين ولا تعد لهذا.
هذا عمر، عمر الذي ثيابه مرقعة وهو أمير المؤمنين، ما هي العلة؟! ما هو السبب؟! رجاء السعادة، طلب السعادة.
أيها الحبيب: الدنيا والآخرة ضرتان، لن ترضى إحداهما إلا بمغاضبة الأخرى، احفظ هذا جيدًا، لن تجمع بين الدنيا وبين الآخرة، من غرك بهذا أحمق، بل الدنيا أكثر زخرفة وزينة، الدنيا غرارة غدارة تمنيك.
إنني لأعرف رجلًا كان مريضًا، ظل في مرضه من السنين ولا يصلي، يا هذا: ستموت، يهز رأسه كأن الأمر لا يعنيه، ومات قاطعًا للصلاة، جسده يموت رويدًا رويدًا وهو يعلم أنه من الدنيا خارج، وظل على هذا إلى أن خرج من الدنيا بلا صلاة.
حياتك -أيها الحبيب- مرهونة برضاك عن الله -عز وجل-، دنيا حقيرة، كم من أقوام في ستر في هذه الدنيا لا يعلم بهم أحد وهم يشتكون ولا يشتكون، أذكر مرة كنت دائمًا أرى امرأة عجوزًا بعد صلاة الفجر تبحث في القمامة، فسألتها: يا أماه ماذا تفعلين؟! تبحث كأنها تبحث عن شيء، وهذا في كل يوم، ما تفعلين يا أماه؟! قالت: أبحث عن بعض الخبز، عندي دجاجات وبطات أطعمها هذه الكسر، فرق قلبي فقلت لها: يا أماه: من أنت؟! وأين مكانك؟! ما اسمك؟! فصرخت في وقالت: يا ابني سِبْنِي في حالي، واختفت.
قد تكون هذه المرأة تجمع هذه الكسر لتربي دجاجات أو بطات لتبيعها في السوق لتعيش، وقد تكون راضية عن هذا، وبعض الناس في رغد من العيش ولا يرضى عن عيشه.
يذكر أن رجلًا من الأثرياء في يوم بارد شاتٍ رجع من عمله من الليل فمر فإذا برجل على رصيف ملقى، فظن أنه ميت، توقف فإذا بدخان يصعد من فمه وأنفه، فرق له فنزل من السيارة، فارتعد من البرد، وأعطاه بعض المال ثم عاد إلى السيارة وذهب إلى البيت يرتعد، دخل على زوجه يرتجف، ما بك؟! قال: البرد البرد البرد، ولكن الذي أهمني أنني رأيت رجلًا ملقي في عرض الطريق بثياب بسيطة لا تكفيه في هذا البرد ونائم بلا غطاء، والدخان يصعد من فمه وأنفه، فضحكت زوجه وقالت: يا هذا: إن أشفقت أشفق على نفسك، فهو نائم وأنت مستيقظ ترتعد، وعندك كل الإمكانيات.
أيها الحبيب: الدنيا مزرعة، والآخرة هي دار الحصاد، ضع الآخرة نصب عينيك، كان من سبق يقولون: نحن في لذة لو عرف بها الملوك لقاتلونا عليها، لذة الرضا، أن ترضى عن الله -عز وجل- في قسمه لك، أن ترضى عن الله -عز وجل- في أعطياته لك، قسم الله -عز وجل- لك أعظم من قسمك، وأعظم من اختيارك، كم عطلت من صلاة؟! كم شغلت قلبك بأمور من الدنيا عن الآخرة؟! كم ظللت مكبلًا عن الله -عز وجل- تحت مسميات الظروف والمعاش والحياة ... إلى آخره؟! أي حياة هذه؟! حياتك الكريمة أن تكون مع الله -عز وجل- وتصبر، عما قليل ستخرج، إما بعز أو بذل، بعز أنك مع الله -عز وجل-، أنك تقي نقي، أنك راضٍ عن الله -عز وجل- لا يعرف بك أحد.
رجل كان في وظيفة كان يقترض مني كل شهر في يوم 25 حوالي جنيهين، وكان في يوم الثالث من الشهر يأتي ويرد لي الجنيهان، بعد فترة حاولت أن أعطيه شيئًا بعد أن أعطاني الجنيهين، فقال: أنا ما جئت إليك إلا لأني أعلم أنك تستر حالي، ووالله لن أعود إليك مرة أخرى، وما رأيته بعدها قط، وكان عنده أحد عشر ولدًا، عاش في ستر، وجد بابًا للدين من يوم عشرين أو بعد العشرين إلى اليوم الثالث من الشهر الذي بعده وراضيًا عن حاله، لا يسأل أحدًا أبدًا، إنما لجأ إلى غريب حتى يستره.
هذه الدنيا بسيطة، مجرد لقيمات؛ في الحديث: "بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ". تبلغ بها المنتهى فإن كان لابد مصممًا على الأكل، بعض الناس يتذوق الطعام، الطعام هذا مملح، نوعه كذا، أنواع كثيرة من الأطعمة، صار هناك تفنن في الأكل والشرب: "بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ -يريد الأكل- فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". الترمذي (2380).
قَلَّ أن تجد أحدًا فوق الثلاثين لا يعاني من إشكاليات المعدة، قَلَّ، بل ربما ما دون هذا.
أسأل الله الكريم المنان أن يرزقنا السعادة الحقيقية، وأن يوفقنا إلى طاعته، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي