المتصف بغنى النفس يكون قانعًا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب، ولا يلحف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أُعطي، بل هو أبدًا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير من المال؛ لأنه لم يستغنِ بما أُعطي، فكأنه ليس بغني.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها المسلمون: نتكلم اليوم عن موضوع خلقي تربويّ مهم، يهم كل واحد، فهو ركن أساسي من أركان السعادة، ولا يقف بناء السعادة في القلب إلا على هذا العمود.
وهذه الصفة الخلقية والسمة التربوية توجد بنسب مختلفة وبمقاييس متعددة عند جميع الناس، لكن السعيد مَن أكثر مِن نسبتها في قلبه، وامتلأت بها نفسه، وتشرّبتها جوارحه.
هذه الصفة الخلقية الجميلة الحميدة الحسنة هي القناعة، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي". رواه مسلم. والمراد بالغنى هو غنى النفس، فهذا هو الغنى المحبوب لقوله -عليه الصلاة والسلام-: "ولكن الغنى غنى النفس"، قال ابن بطال: "معنى الحديث: ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أُوتي، فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني"، وقال القرطبي: "معنى الحديث: "إن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع، فعزت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه، فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال، لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس، ويصغر قدره عندهم، فيكون أحقر من كل حقير، وأذل من كل ذليل". انتهى كلامه.
والحاصل -أيها الأحبة- أن المتصف بغنى النفس يكون قانعًا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة، ولا يلح في الطلب، ولا يلحف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أُعطي، بل هو أبدًا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير من المال؛ لأنه لم يستغنِ بما أُعطي، فكأنه ليس بغني.
ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعالى والتسليم لأمره، علمًا بأن الذي عند الله خير وأبقى.
يقول -عليه الصلاة والسلام-: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما آتاه". رواه مسلم وأحمد والترمذي والبيهقي والحاكم وابن حبان.
هي القناعة فالزمها تعش ملكًا *** لو لم يكن لك إلا راحـة البدن
فأين من ملك الدنيا بأجمعهـا *** هل راح منها بغير القطن والكفن
فإذا أردت أن تكن مساويًا بل أفضل حالاً ممن ملك الدنيا بمالها ونسائها وولدانها وذهبها وجواهرها وزخرفها ولهوها فما عليك إلا أن تكون قانعًا بما أعطاك الله، وذا قلب شاكر.
إذا ما كنت ذا قلب قنوعٍ *** فأنت ومالك الدنيا سواءُ
يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "لو قنع كل امرئٍ بما قُدر له لأصبحت الدنيا خرابًا"، ويقول فرانكلين: "القناعة تجعل الفقراء أغنياء، والطمع يجعل الأغنياء فقراء".
وقد وصف لله تعالى المنافقين بعدم القناعة والطمع والجشع وجعلها من سماتهم فقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) [التوبة:59]. وكان ابن عباس يقول: احفظوا هذا الحديث -وكان يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان يدعو به بين الركنين-: "رب: قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير". رواه ابن خزيمة في صحيحه.
وعن ابن عباس قال في قوله تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل:97] قال: (القنوع)، قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو يقول: "اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير". رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
والنفس دائمًا إذا ربيتها على الأخذ وعدم العطاء وعلى البخل وعدم البذل وعلى الرغبة في كل شيء والطمع والجشع وعدم القناعة والزهد والعفاف فإنها تتعود على ذلك، وتتربى عليه، ولا تبالي من أين أكلت أمن حلال أمن حرام، ولا من أين بطشت أمن طيب أم من خبيث، لكنك إذا ربيتها على القناعة والرضا بالقليل وبما قسمه لك العظيم الجليل فإنها ترضى بذلك، وتقنع بحالك، وتبتعد عن طريق الشر والمهالك.
والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا تُرد إلى قليل تقنع
واعلم -أيها المسلم- أن ما أعطاك الله هو خير لك، فقد يعطيك الله مالاً فيطغيك، قال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى:27]. وقد أراد الله -سبحانه وتعالى- بحكمته البالغة وعلمه النافذ أن يفضل بعض الناس على بعض في الأموال والأولاد والمساكن والأراضي والبساتين والصحة والعافية والقوة والعقل والذكاء والحكمة واللسان والبيان والمراكب والمناصب، إلى غير ذلك مما فضل الله به بعض الناس على بعض، (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [النحل:71].
ولا يقدر أحد من الناس أن يغيّر حياته، وأن يزيد أو ينقص في رزقه أو عمره، فكل ذلك مسجل عند الله تعالى بمقدار، وقد قدّره علينا الكبير المتعال، قال تعالى: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [سبأ:36].
والقناعة لا تحد من الطموح والنجاح، ولا تسدّ الآفاق، ولا تحبسك عما كان لك من أبعاد، ولا تقيدك عن العلوم النافعة، ولا توقفك عن اهتماماتك، بل تعينك على كل حياتك.
إذا غامرت في شرف مرومٍ *** فلا تقنع بما دون النجوم
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على خير رسله وأنبيائه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين.
وبعد:
يقول ابن عبد ربه عن القناعة: "إذا طلبت العز فاطلبه بالطاعة، وإذا أردت الغنى فاطلبه بالقناعة، فمن أطاع الله عزّ نصره، ومن لزم القناعة زال فقره. وفي القناعة تقول العرب: من يشتري الخبز بالدين يرحم، ومن يشتري الكماليات بالدين يرجم. وتقول العرب أيضًا: العبد حر إذا قنع، والحر عبد إذا طمع. ويقول المثل الإنجليزي: القناعة هي الاكتفاء بالموجود، وترك الشوق إلى المفقود.
وتكون القناعة بشيء من الزهد في الحياة، وقد كانت العرب تحبّ القليل وتقنع به، ولا تطمع في الشيء الكثير، فها هي ميسون بنت بحدل الكلبيّة أم يزيد بن معاوية تنفر من قصور معاوية بن أبي سفيان ومن مظاهر الأبّهة فيها، وتحنّ إلى مسقط رأسها في البادية، وتنشد قائلة:
لبيـت تخفـق الأرواح فيــــه *** أحبّ إليّ من قصـر منيـف
ولبـس عبـاءة وتقـرّ عينـــي *** أحبّ إليّ من لبـس الشفوف
وأكل كسـيرة في كســر بيتـي *** أحبّ إليّ مـن أكـل الرغيف
وكلـب ينبـح الطـراق دونــي *** أحبّ إليّ مـن قط ألــوف
وأصـوات الـريـاح بكـل فـجّ *** أحـبّ إليّ مـن نقر الدفوف
وخرق مـن بنـي عمـي نحيـف *** أحبّ إليّ متن علـج عليـف
خشونة عيشتي في البـدو أشهــى *** إلى نفسي مـن العيش الظريف
فلما سمع معاوية الأبيات قال لها: ما رضيت -يا ابنة بحدل- حتى جعلتني علجًا عليفًا، وقال لها: كنت فبنت، فقالت: لا والله، ما سررنا إذا كنا، ولا أسفنا إذا بنّا.
أيها الأخ المسلم: كن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات لتحيا حياة طيبة، كما أخبر بذلك -سبحانه وتعالى-، وكما رسمه لنا -عز وجل-، وارض بما قضى الله عليك ولا تجزع.
دع الأيام تفعل ما تشـاء *** وطب نفسًا إذا حكم القضاء
ولا تجـزع لحـادثة الليالي *** فما لحوادث الدنيـا بقـاء
وبذلك سوف ترمي عنك بالهموم، وتبتعد عنك الغموم، ولن تبقى من الحزن مكظومًا، وسوف يذهب عنك الباس، وينزل بك السرور والإيناس، ويهرب منك الشيطان الذي يسقي الناس حميم الأحزان، فأنت بعد ذلك رجل رشيد، وصاحب عقل ورأي سديد، صرف الله عني وعنك العذاب الشديد.
وعليك -أيها المسلم- بقراءة القرآن؛ فإنه يذهب الأحزان، ويطرد الوحشة عن الإنسان.
ثم اعلم وافهم لكي تقنع وتسلم، أن من أعظم الأمور في جلب السرور الرضا بالمقدور واجتناب المحذور، فلا تأسف على ما قد فات، فإنه قد مات، واترك المستقبل حتى يُقبل، ولا تهتم بكلام الحساد، فلا يحسَد إلا من ساد، وعليك بالأذكار، فبها تحفظ الأعمار، وتدفع الأشرار، وهي أُنس الأبرار، وبهجة الأخيار، وعليك بالقناعة، فإنها أربح بضاعة، واملأ قلبك بالصدق، واشغل نفسك بالحق، وإلا شغلتك بالباطل، وأصبحت كالعاطل، وفكر في نعم الله عليك، وكيف ساقها إليك، من صحة في بدن، وأمن في وطن، وراحة في سكن، ومواهب وفِطن، مع ما صرف من المحن، وسلّم من الفتن، واسأل نفسك في النعم التي بين يديك: هل تريد كنوز الدنيا بدلاً عن عينيك؟! وأموال قارون بدلاً من يديك؟! أو الأراضي والقصور بدلاً من رجليك؟! أو الحدائق الغناء بدلاً من أُذنيك؟! أو هل تشتري ملك الملوك بأنفك ولسانك وفمك؟! كيف لا تقنع ومعك نعمة الإسلام، ومعرفة بالحلال والحرام، وطاعة للملك العلام؟! ثم قد أعطاك الله مالاً ممدودًا، وبنين شهودًا، ومهد لك في العمر تمهيدًا، وقد كنت أنا وإياك في بطن الأم وحيدًا فريدًا، واذكر نعمة الغذاء والماء والهواء والدواء والكساء والظلام والضياء، ولا تنس الهاتف والكهرباء ونعمة الهناء مع صرف البلاء ودفع الشقاء والتخفيف واللطف في القضاء والابتلاء.
ماء وخبز وظل ذاك النعيم الأجـل *** كفرت نعمة ربي إن قلت: إني مقل
فاحمد ربك على العافية والعيشة الكافية والساعة الصافية، فكم في الأرض من وحيد وطريد وشريد وفقيد، وكم من رجل قد غلِب، ومَن ماله سلب، وملكه قد نهب، وكم من مسجون ومغبون ومدين ومفتون ومجنون، وكم من سقيم وعقيم ويتيم، ومن يلازمه الغريم والمرض الأليم. واعلم بأنّ للهمِّ مفتاحًا وهو السرور، وللذنب رب غفور.
أيها الأحبة الكرام: لو أن العالم كلَّه عاش في قناعة لما كان التجسس ولا التحسس، ولما كان الحسد ولا الكمد، ولا السرقة ولا القتل ولا أيّ جريمة إلا ما شاء الله تعالى، ولكن نقْص هذا الخلق ولّد الكثير من الأضغان والشحناء والكبرياء.
رغيف خبـز يابـس تأكله في عافيـة *** وكوز ماء بارد تشربه من صافيـة
وغرفة ضيقـة نفسـك فيها راضـية *** ومصحف تدرسه مستندًا لساريـة
خير من السكنى بأبراج القصور العالية *** وبعد قصر شاهقٍ تُصلى بنار حامية
أيها المسلمون: صلوا وسلموا على سيدنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد. اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعنا معهم برحمتك وكرمك وجودك وعطائك وسخائك يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي