القناعة

محمد بن حسن ظهير
عناصر الخطبة
  1. كثرة هموم الناس وغمومهم .
  2. ظاهرة الجشع والطمع .
  3. حقيقة القناعة .
  4. فضل القناعة .
  5. قناعة النبي -صلى الله عليه وسلم- .
  6. العبرة بالقلوب .
  7. آثار فقد القناعة .

اقتباس

القنوع عزيز، القنوع هو أعزُّ الناس عند الناس؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "شرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس"، هذا المستغني عن الناس الذي لا يمدُّ يده، ولا يطمع فيما عندهم، هذا هو العزيز حقًّا، هذا الذي رضي بما آتاه الله وسأل الله المزيد من فضله، رسول الله بشَّر أهل القناعة بقوله: "طوبى لمن أسلم، وكان رزقه كفافًا، وقنعه الله"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضًا في الناس، ولا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافًا، فصبر على ذلك".

الخطبة الأولى:

إن المتأمل لأحوال كثيرٍ من الناس في هذه الدنيا يرى العجب العجاب، يرى الهموم، يرى الغموم، يرى الأحزان، يرى المشاكل، تجد الواحد منهم مستعدًا أن يقاتل حتى أقرب الناس إليه، من أجل ماذا؟! من أجل هذه الدنيا، من أجل الأموال، ومن أجل التجارات، ومن أجل الأراضي.

إن المتأمل لأحوال كثيرٍ من الناس لا يراهم يعيشون في هذه الدنيا راضين بقضاء الله وقدره، بل يزدادون تسخطًا على قضاء الله وقدره، لا يكفيهم طعامٌ يشبعهم، ولا يرضيهم لباسٌ يسترهم، ولا مساكن تكنهم، ولا مراكب تحملهم، بل هم دائمًا في سخطٍ على الله -عزَّ وجل-، يصبح أحدهم ويمسي ساخطًا على ربه، يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم، لا يقنع بقليلٍ ولا بكثير؛ كالذي يأكل ولا يشبع، لِمَ؟! لأنه طامحٌ ببصره دائمًا إلى من هو فوقه، إذا كان يسكن بيتًا نظر إلى من يسكن قصرًا، إذا كان يركب دبابًا نظر إلى من يركب سيارة، إذا كان يركب سيارة نظر إلى من يركب طائرة، وهكذا لا يهنأ له عيش، إلا إذا صار أحسن الناس في كل شيء، وذلك مُحال، إذًا ما الحل؟! الحلّ هو ما أرشدنا إليه رسول الله من القناعة، وأمرنا بها، وعلّمنا إياها قولاً وفعلاً.

القناعة أن ترضى بما قسم الله لك من العيش، فتكون رابط الجأش، مطمئن القلب، ساكن الفؤاد، رضيَّ النفس، تعلم أن الأرزاق مكتوبةٌ مقسومةٌ، لا تزيد ولا تنقص، تضرب في أرض الله -عزَّ وجل-، تبتغي من فضل الله دون أن تكون مقبلاً على الدنيا بكليتك، تعلم أن الله -جل جلاله- أبت حكمته أن يجعل الكمال لأيّ أحدٍ كائنًا من كان، كلٌّ منَّا محتاجٌ إلى غيره، كلٌّ منَّا دون غيره في باب من الأبواب، في سببٍ من الأسباب، هكذا اقتضت حكمةُ الله -سبحانه وتعالى- وهو الحكيم الخبير.

أن تعلم -يا عبد الله- أن الله يأمر بالقناعة، يأمرك -أيها المسلم- أن تكون قنوعًا: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 6]، أن يقرأ المسلم في القرآن أن الله -سبحانه وتعالى- مدح أهل القناعة: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9]، (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة: 273]، هؤلاء هم أهل القناعة، ويقول الله -عزَّ وجل-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].

أتدرون ما الحياة الطيبة؟! قال عبد الله بن عباس وعلي بن أبي طالب والحسن البصري -رضي الله عنهم-: "الحياة الطيبة هي القناعة"؛ أن تقنع بما رزقك الله من مال، أن تقنع بما رزقك الله من زوجة، أن تقنع بما رزقك الله من ذرِّيَّة، بما آتاك الله -سبحانه وتعالى- من مسكنٍ أو مركبٍ أو ملبسٍ أو مطعم، هذه هي القناعة التي يأمرنا بها ديننا.

نعم؛ القنوع عزيز، القنوع هو أعزُّ الناس عند الناس؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: "شرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس"، هذا المستغني عن الناس الذي لا يمدُّ يده، ولا يطمع فيما عندهم، هذا هو العزيز حقًّا، هذا الذي رضي بما آتاه الله وسأل الله المزيد من فضله، رسول الله  بشَّر أهل القناعة بقوله: "طوبى لمن أسلم، وكان رزقه كفافًا، وقنعه الله"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضًا في الناس، ولا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافًا، فصبر على ذلك".

هذا المؤمن وليٌّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان خفيف الحمل، خفيف الظهر، ما استكثر من الدنيا، رُزق كفافًا، فصبر على هذا العيش، وفي الوقت نفسه هو في حظٍّ من الصلاة، عَبَدَ الله -عزَّ وجل-، وأطاعه في السر، هذا وليٌّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان أعظم الناس قناعةً في هذه الدنيا، كان دعاؤه -عليه الصلاة والسلام-: "اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا"، وكان يقول: "اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير". ولهذا كان أوسع الناس صدرًا، وأطيب الناس عيشًا، وأسخى الناس يدًا، وأرضَى الناس قلبًا، كان يمرُّ عليه الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت أزواجه نار، وما لهم من طعامٍ إلا الأسودان: التمر والماء، كان يبيت الليالي طاويًا، لا يجد عشاءً، يتقلّب على فراشه من شدة الجوع، كانت حياته حياة الزهد، زهدٌ في طعامه، زهدٌ في ثيابه، زهدٌ في فراشه، يبيت -عليه الصلاة والسلام- على حصيرٍ قد أثَّر على ظهره وعلى جنبه من خشونته ومن شدة ملمسه، كانت الدنيا لا تساوي عنده شيئًا، ما كان يعجبه من الدنيا إلا مؤمنٌ تقيّ، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، بل وربَّى أصحابه -رضي الله عنهم- على القناعة، فلقد أوصى -صلى الله عليه وسلم- أبا هريرة -رضي الله عنه- قال له: "يا أبا هريرة: كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وارضَ للناس ما ترضاه لنفسك تكن مسلمًا".

يبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ القناعة في الرضا بما قسم الله -عزَّ وجل-، وشكره على ما آتى عبده من النعم.

نبينا -عليه الصلاة والسلام- هو الذي ربَّى أصحابه وربَّى الأمة كلها على أنه ما طلعت شمسٌ إلا وعلى جنبتيها ملكان يُسمعان أهلَ الأرض إلا الثقلين يقولان: أيها الناس: هلمُّوا إلى ربكم؛ فإنَّ ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى، وما غربت شمسٌ إلا وعلى جنبتيها ملكان يناديان: اللهم عجِّل لمنفقٍ خلفًا، اللهم عجِّل لممسكٍ تلفًا. ولقد حثَّ -صلى الله عليه وسلم- أمته على طلب القناعة بقوله: "لا تنظروا إلى من هو فوقكم، وانظروا إلى من هو أسفل منكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم".

هذه وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذًا -فيا معاشر المسلمين- من أراد السعادة فعليه بالقناعة.

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون، عباد الله: إن العبرة بالقلوب سعةً وضيقًا، عسرًا ويسرًا، انشراحًا وانقباضًا، غنى وفقرًا: "ليس الغنى عن كثرة العرَض، وإنما الغنى غنى النفس"، فرُبَّ إنسان يكون ماله كثيرًا ويساره كبيرًا لكنه -والعياذ بالله- جشعٌ طمَّاعٌ جمَّاعٌ منَّاعٌ، كالذي يأكل ولا يشبع، ورُبَّ إنسان آخر يكون رزقه كفافًا يكون فقيرًا قليل العيش لكنه مع ذلك قد جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، هذا هو الغنى: "ليس الغنى عن كثرة العرَض، وإنما الغنى غنى النفس".

لكن لنعلم أنه لا علاقة بين القناعة والفقر، ولا علاقة بين الغنى والطمع، فرُبَّ إنسان يكون غنيًا موسرًا قد فتح الله له أبواب الرزق، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومع ذلك تجده غنيًا في قلبه، مقيمًا للصلاة، يعرف حق الله في ماله، إن أُعطي شكر، وان مُنعَ صبر، إن ربح مالاً أدَّى حق الله فيه، وإن خسر مالاً قنع بما قضى الله -عزَّ وجل- وقدَّر. وربَّ إنسان فقيرٍ معدَمٍ، يصبح ويمسي وهو ساخطٌ على الله -عزَّ وجل-، خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

القناعة -أيها المسلم- لا تمنعك أن تضرب في مناكب الأرض، لا تمنعك أن تبتغي من فضل الله، لا تمنعك من الأخذ بالأسباب وطرق الأبواب والرغبة فيما عند الله، القناعة لا تمنعك من تزويد العمل، لا تمنعك من أن تبتغي ما عند الله من رزق، لا تمنعك القناعة من هذا كله، لكن الممنوع والمحظور والحرام أن يغشَّ التاجر في تجارته، وأن ينافق المسؤول في منصبه، وأن يتهرب العامل من مهنته، وأن يرتشي الموظف في وظيفته، هذا الذي يتعارض مع القناعة، كن راضيًا بالحال الذي أنت فيه، وابتغ من فضل الله -عزَّ وجل-.

ولو تأمّلنا في حياة الناس، في أحوالهم، في كلامهم، تجدون الكثيرين ممن فقدوا القناعة -والعياذ بالله- لا يبالون بأن يأكلوا الربا، لا يبالون بأن يمنعوا الناس حقوقهم، لا يبالون بأن يأكلوا أموالهم بالباطل، كالذي يأكل ولا يشبع، لا يملأ فاه إلا التراب، هذا المسكين قد حُرِم الحياة الطيبة.

نعم؛ لما غابت القناعة من حياة كثيرٍ من الناس أصبحوا لا يهنأ لهم عيشٌ، ولا تطيب لهم حياة، كما قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه"، يكون طائشًا، يخبط خبط عشواء، يضرب ذات اليمين وذات الشمال، لا يدري أين يذهب، فغاية همِّه ومبلغ علمه أن يجمع هذه الدنيا من حلالها وحرامها، ثمَّ يسأله الله -سبحانه وتعالى- عن كل ريالٍ: من أين اكتسبه؟! وفيمَ أنفقه؟!

فيا أيها المسلمون، عباد الله: إن القناعة دواءٌ لكثيرٍ من الأدواء التي عجز الناس عن مداواتها، بالقناعة تكون حبيبًا إلى الله، بالقناعة تكون حبيبًا إلى الناس: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".

لما كتب بعض خلفاء بني أمية إلى ابن أبي حازم -رحمه الله- يعزم إليه أن يرفع إليه حوائجه، أن يكتب إليه بما عليه من ديون، بما يحتاج إليه من متاع، فكتب إليه ابن أبي حازمٍ -رحمه الله تعالى-: "قد رفعتُ حاجتي إلى مولاي، فما أعطاني شكرت، وما منعني صبرت".

نعم؛ هذا هو العلم، والله لو أن العالم كلَّه عاش في قناعة لما كان التجسّس ولا التحسّس، ولما كان الحسد ولا الكمد، ولا السرقة ولا القتل، ولا أيّ جريمة إلا ما شاء الله تعالى، ولكن لما غاب هذا الخلق ولّد الكثير من الأضغان والشحناء والكبرياء.

هي القناعة فالزمها تعش ملكًا *** لو لَم يكن لك إلا راحة البـدن

فأين من مَلَكَ الدنيا بأجمعهـا *** هل راح منها بغير القطن والكفن

فيا معاشر المسلمين: علينا أن نحرص أشد الحرص على القناعة، وأن نجاهد أنفسنا على طلبها كما حثَّنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وكما ربَّى أصحابه على ذلك.

اللهم إنا نسألك الحياة الطيبة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل قناعتنا في قلوبنا، اللهم اجعل الدنيا في أيدينا، ولا تجعلها في قلوبنا، واجعلها عونًا على طاعتك يا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم اغفر ذنوبنا، وأصلح أعمالنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، وخصنا بمزيدٍ من الرحمات يا رب العالمين...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي