وجوب الإيمان القدر، وأركانه وثمراته، وكيفية كتابة الله لمقادير

أحمد بن ناصر الطيار
عناصر الخطبة
  1. حقيقة الإيمان بالغيب.
  2. فضل الإيمان بالغيب وأهميته .
  3. حكم الإيمان بالقضاء والقدر ومعناه .
  4. مراتب الإيمان بالقدر وحكم كل مرتبة .
  5. سعة علمه سبحانه وإحاطته .
  6. بعض الحكم في كتابة الله للمقادير .
  7. بعض ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر .

اقتباس

أيها المسلمون: ولْنتأمل فيما بين أيدينا من أجهزة الحاسب، والشبكةِ العنكبوتية، وكيف تُحصي آلافَ المعلومات، وهي مُخزَّنةٌ لديها منذ عشرات السنين، لم تلْتبس معلومةٌ بأخرى، ولم تَفْسُدْ من كثرةِ ما يُوضَعُ فيها. تأمل في هاتف الجوال الذي معك، وكيف تكلِّم من شئت في أيِّ مكانٍ في العالم، دون أسلاكٍ وتوصيلات، وإنما هي ذبذباتٌ في الهواء، لم تتصادم المكالماتُ بعضُها مع بعض، تأمَّل كيف...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-: واعلموا أنَّ حقيقة الإيمان، هو: التصديق التامُّ بما أخبر الله -تعالى- ورسُولُه -صلى الله عليه وسلم-.

وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدَة بالحس، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهدْه، وإنما نؤمن به؛ لأنَّ الخبر جاء عن الله رسولِه.

وحينما ذكر الله -تعالى- صفاتِ الْمُتقين، بدأ بأول وأهمّ صفةٍ، وهي الإيمان بالغيب، فقال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2].

وذلك لأنَّ الإيمان بِالْغَيْبِ: هو أعظمُ ما يتميَّزُ به المسلمُ عنِ الكافر، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله -تعالى- به، أو أخبر به رسوله، سواءٌ شاهده أو لم يشاهده، وسواءٌ فهمه وعرف حكمته، أو لم يهتد إليه عقلُه وفَهْمُه.

واعلموا -معاشر المسلمين-: أنَّ ممَّا يدخُلُ بالإيمان بِالْغَيْبِ: الإيمانُ بالقضاء والقدر، الذي هو من أعظمِ أركان الدين، ومِن أوجبِ الواجبات التي فرَضَها ربُّ العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: "الإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ".

ومعنى الإيمان بالقضاء والقدر: أن تؤمن بأنَّ كلَّ ما في الكون، من مَوجوداتٍ ومَعدوماتٍ عامةٍ وخاصةٍ، فإنه بمشيئة الله وخَلْقه، وتعلمَ أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.

والإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان، تُسمى مراتبَ القدر، ولا يتم الإيمان به إلا بتحقيقها كلِّها.

المرتبة الأولى: المشيئة: وهي الإيمانُ بمشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا حركة ولا سكون، ولا هداية ولا إضلال، إلا بمشيئته تعالى.

قال تعالى: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير: 29].

وقال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام: 112].

المرتبة الثانية: الخلق: وهي أنْ تؤمن بأن جميع الكائنات مخلوقةٌ لله، وأنَّ الله -تعالى- خلق كلَّ شيءٍ من العدم.

قال تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر: 62].

المرتبة الثالثة: العلم: وهي أنْ تؤمن بعلم الله المحيطِ بكلِّ شيءٍ، وأنه لا يكون شيءٌ إلا بعلمٍ ودرايته.

قال تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 13-14].

فالله -تعالى- يُخبرنا في هذه الآية: عن سَعة علمه وشُمولِ لُطْفه، وأنه يعلم ما نُخفي وما نُعلن، كلُّها سواءٌ لديه، لا يخفى عليه منها خافية، كيف لا، وهو العَلِيمُ بما في صُّدُورِنا من النيات والإرادات، فكيف بالأقوال والأفعالِ التي تُسمع وتُرى؟!

وقد أعطانا الله دليلاً عقلياً على علمه، فقال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)[الملك: 14] فمن خلق الخلق وأتقنه وأحسنه، كيف لا يعلمه؟! (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الذي لَطُفَ عِلْمُه وخَبَرُه، حتى أدرك السرائر والضمائر والخبايا، والغيوب والخفايا.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7].

فإذا أيقن العبدُ أنَّه -تعالى- يعلم كلَّ شيءٍ، راقبه واتقاه، وترك ما يكرره ويأبها؛ لأنه مُطلعٌ عليه ولو كان في باطن الأرض.

أما المرتبة الرابعة، وهي الأخيرة: فهي الكتابة: وهي الإيمان بأن الله -تعالى- كتب ما سبق به علمُه، مِن مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ.

وهذه المرتبةُ لا يتمُّ الإيمان بدونها، ولا يستقيم للعبد إسلامٌ إلا بها.

تأملوا قول الله -تعالى-: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحـج: 70].

ما أصرحها من آيةٍ وأوضحها، بأنَّ الله -جلَّ جلاله- يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، من صغير وكبيرٍ، ودقيقٍ وجليل، لا تخفى عليه خافية، والسرُّ عنده علانية، يعلم عدد قطر الأمطار، وما يكون في البحار والأمصار، وعلمه هذا كلُّه قد أثبته الله في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، حين خلق الله القلم فقال له: "اكتب" قال: ما أكتب؟ قال: "اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة".

ثم ختم الله هذه الآية بقوله: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحـج: 70].

نعم، هو يسيرٌ على الله -تعالى-، أليس مَن يعلم ما كان وما سيكون، يسيرٌ عليه كتابةُ علمه؟

بلى، والله.

أليس اللهُ الذي خلقنا وخلق كلَّ شيءٍ، والذي يعلم السر وأخفى؛ يعلم ما سوف نعمله من أعمالٍ صالحةٍ أو سيئة؟

بلى!.

فإذا كان يعلم ذلك، فهو قادرٌ على كتابة علمه، ولذلك يقول محمد بن سيرين -رحمه الله-: "ما يُنْكِرُ قومٌ أن َّالله -عز وجل- عَلِمَ شيئاً فكتبه؟".

نعم! عَلِمَ ما سيكونُ فكتبه وأملاه في اللوح المحفوظ، وليس معنى كتب: أوجب وألزم، بل أملى عِلْمَه.

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الله خلق الخلق، وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه: كن كتابًا، فكان كتابًا".

فما يُصيبنا من شيءٍ إلا قد كتبه الله علينا، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد: 22].

والله تعالى- قد كتب المقادير قبل خلقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض، قَالَ صلى الله عليه وسلم: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"[رواه مسلم].

واعلموا -يا أمة الإسلام-: أنَّه كما دلَّت هذه النُّصوصُ الصريحةُ، على وجوبِ وحتميَّةِ الإيمان بالقدر بأركانه الأربعة، فقد أجمع الصحابةُ على ذلك أيضًا.

قَالَ ابْنُ الدَّيْلَمِيِّ -رحمه الله-: "لَقِيتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ -رضي الله عنه-، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ، فَحَدِّثْنِي بِشَيْءٍ لَعَلَّهُ يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِي، فقَالَ: "لَوْ أَنْفَقْتَ جَبَلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَدَخَلْتَ النَّارَ" قَالَ: فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَحَدَّثَنِي عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ ذَلِكَ" [رواه الإمام أحمد وأبو داود، وصححه الألباني].

فهذا إجماع الصحابةِ كلِّهم، فالواجب أنَّ نتهم العقل، لا أنْ نتهم النقل، فإذا أشكل على الإنسان أمرٌ من أمور الدين، فلْيتهم عقله وفهمه، ولْيُسلِّم لأمر الله -تعالى-.

نسأل الله -تعالى-، أنْ يرزقنا الإيمان والتسليم بالقضاء والقدر، وأنْ يُرضِّيَنا به، إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الذي يعلم ما كان وما يكون إلى يوم الدِّين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلَّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون: ولْنتأمل فيما بين أيدينا من أجهزة الحاسب، والشبكةِ العنكبوتية، وكيف تُحصي آلافَ المعلومات، وهي مُخزَّنةٌ لديها منذ عشرات السنين، لم تلْتبس معلومةٌ بأخرى، ولم تَفْسُدْ من كثرةِ ما يُوضَعُ فيها.

تأمل في هاتف الجوال الذي معك، وكيف تكلِّم من شئت في أيِّ مكانٍ في العالم، دون أسلاكٍ وتوصيلات، وإنما هي ذبذباتٌ في الهواء، لم تتصادم المكالماتُ بعضُها مع بعض، تأمَّل كيف تُكلِّمه وهو في آخر الأرض، فيردُّ عليك خلال ثوانٍ معدودة، ويُريك نفسه وما حوله عبر شاشةٍ صغيرة، بل وأعجب من ذلك: أنهم لو أرادوا مكالمةً لأحضروها، ولو كانت قبل عدَّة سنوات، وكلُّ هذا وهو صُنْعُ البشر، فكيف بالجبار والقهار الْمُقتدر.

وصدق الله -تعالى-: (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [يونس: 61].

فكلُّ شيءٍ قد كتبه الله وأحصاه، حتى مثقالُ الذَّرةِ.

بل وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مبين: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) [الأنعام: 59].

ومن أعظم الحكم في كتابة الله للمقادير: الرضا بقضاء الله وقدره، والتسليمُ التام لما قضاه الله وقدَّره على العبد.

مات أخٌ لصِلة بن أشيم -رحمه الله-، فجاء إليه رجل وهو يَأكل، فقال: يا أبا الصهباءُ إن أخاك مات، فقال: هَلُمّ فكُلْ قد نُعِي لنَا، ادْنُ فكُلْ، فقال: والله ما سبقَني إليك أحد، فَمن نعاه؟ قال: يقول الله -عز وجل-: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) [الزمر: 30].

فلذلك يعيش المؤمن بطمأنينةٍ عجيبة، وقناعةٍ عظيمة، لا يحزن على ما فات، ولا يتحسَّر على ما فاته من حظوظ الدنيا، ويستقبلُ المصائب بتسليمٍ ورضا.

هذه أعظم ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، ولا يشمُّ هذه الثمراتِ مَن ضعُف إيمانه بالقدر، أو شكَّك فيه أو في كتابة الله -تعالى- له.

نسأل اللهَ -تعالى- أنْ يرزقنا الإيمان، وأنْ يُثبتنا على دين الإسلام، إنه على كل شيءٍ قدير.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي