نهاية المطاف مع قضية حقوق الإنسان نقف فيها على مسألة الحق في حرية التعبير، التي يتشدق به العالم الغربي، بصفتها ميزة عظيمة تتميز بها مجتمعاتهم، والتي يطالب المتحررون في المجتمعات المسلمة بالمزيد منها، كما هي عادتهم دون اعتبار لدين ولا لشرع.أما الغربيون، ففي مسألة حرية التعبير أصبح معلوما لدى الجميع بأن لهم أكثر من ميزان؛ كالحرية المزعومة التي يفتخرون بها ليست كاملة، وليست منصفة، بل هي...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نهاية المطاف مع قضية حقوق الإنسان نقف فيها على مسألة الحق في حرية التعبير، التي يتشدق به العالم الغربي، بصفتها ميزة عظيمة تتميز بها مجتمعاتهم، والتي يطالب المتحررون في المجتمعات المسلمة بالمزيد منها؛ كما هي عادتهم دون اعتبار لدين ولا لشرع.
أما الغربيون، ففي مسألة حرية التعبير أصبح معلوما لدى الجميع بأن لهم أكثر من ميزان؛ كالحرية المزعومة التي يفتخرون بها ليست كاملة، وليست منصفة، بل هي مفصلة بحسب ما ترتئيه أهواؤهم، وهذا يفسر الإجحاف والحيف الذي يظهره تعاملهم مع المسلمين، في كثير من مناحي الحياة.
فحرية التعبير لا تفتح مصراعيها على أوسع وأكبر مدى إلا عند تعاملها مع الإسلام والمسلمين.
في شهر يونيو من عام 1976 م قامت صحيفة دي نيوز الخاصة بأخبار الشواذ جنسيا من الرجال بنشر قصيدة للشاعر البريطاني يصف فيها المسيح -عليه السلام- في أوضاع غير لائقة مما آثار غضب اتحاد المشاهدين والمستمعين الإنجليز، والذي يتولى الرقابة الشعبية على كل ما ينشر في الصحف، أو يعرض في وسائل الإعلام، والأفلام السينمائية.
وحكم رئيس تحرير الصحيفة والشركة التي نشرت لها بتهمة سب المقدسات، وبالفعل تمت المحاكمة في شهر يوليو عام 1977م، وبالرغم من محاولات الدفاع المستميتة لإقناع المحلفين، أن القصيدة لم تظلم أية إنسان للدين النصراني، إلا أن هيئة المحلفين لم تقبل هذا الدفاع، وأدانت الهيئة الصحيفة بتهمة امتهان مشاعر المسيحيين في انجلترا، والإساءة إلى مقدساتها.
بل وحكم ذلك الرجل رئيس التحرير عليه بالسجن لمدة 9 أشهر مع وقف التنفيذ، ودفع غرامة مقدرها 500 جنيه إسترليني، وعلى الناشر غرامة 1000 جنيه إسترليني، بالإضافة إلى تحمل تكاليف القضية طبعا، هذه هي حرية التعبير التي طالما تفاخروا بها!.
جاء الصحفي البريطاني البارز روبرت فسك إلى أمريكا -أرض الحريات كما يسمونها-، ومنها حرية التعبير أليس كذلك؟!
جاء ليعرض فلمه الوثائقي: "بذور الغضب" والذي يتهم فيه الصهيونية بأنها السبب الرئيس وراء نقمة المسلمين على الغرب، لم يتناول موضوع المحرقة، لا، هذه من الكبائر عندهم!.
فمنعوه من عرض ذلك الفيلم الوثائقي إرضاءً للوبي اليهودي! هذه هي حرية التعبير!!.
وقد صدق في أنهم خالفوا مبدأ حرية التعبير؛ فقد منعوا كثيرا من الدعاة المرموقين والمشهورين باعتدالهم؛ أمثال: أحمد ديدات، ويوسف إسلام، وغيرهما؛ من الدعوة!.
بل حتى في الدنمرك ذاتها تعرضت امرأة تعمل محررة في صحيفة محلية لمحاولات تقديمها للمحاكمة؛ لأنها كتبت خطابا للصحيفة، تصف فيه الشذوذ الجنسي بأنه أسوأ أنواع الزنا.
طيب لماذا؟ أليس عندكم مبدأ حرية التعبير الذي تقدسونه؟
قالوا: لا، لأن القانون الدنمركي يحضر أي تهديد، أو إهانة، من شأن أي إنسان بصورة علنية، بسبب الدين، أو العرق، أو الجنس، وكأن هذا القانون يشمل أي إنسان باستثناء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-!.
بل رفضت الصحيفة التي أهانت النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسها نشر رسومات تسيء إلى المسيح عيسى -عليه السلام- خشية ردود الفعل الغاضبة من جانب قراء الصحيفة، أما مقدسات المسلمين فهي وحدها الكلأ المباح، الذي لا يعاقب القانون على الاستهزاء به، بأية عقوبة.
فإذا اعترض أحد من المسلمين، قالوا: ها، لا هذه حرية تعبير!.
ويأتي أولئك الأغبياء من المتحررين من أبناء جلدتنا، ليمجدوا الغرب على هذا المبدأ العظيم!.
أيها الإخوة: إن السيطرة اليهودية على وسائل الإعلام في الغرب حقيقة ساطعة، وهناك جبن عالمي من شرذمة اليهود عبر العالم كله!.
ولما قامت شبكة تليفزيون CTV الكندية باستضافة المعلق السياسي الإسرائيلي، صباح يوم 15 من شهر أكتوبر عام 1994م، دعا ذلك المعلق السياسي اليهودي يهود كندا على الهواء مباشرة بأن يتولى أحدهم اغتيال ضابط الموساد الذي ألف كتابا، كشف فيه عن العمليات السرية للموساد!.
دون أن تحدث هذه الدعوة العالمية للقتل، أي رد فعل على أي المستوى الإعلامي في كندا، ولم يسمع من الكتاب المعلقين الذين دافعوا بالأمس بحماس بالغ عن حق المدعو "سلمان رشدي" في حرية التعبير، عندما سب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فدعا بعضهم لاغتياله، لم نسمع منهم هذه المرة أي دفاع عن حق ضابط الموساد الإسرائيلي! هذا في التعبير الحر!.
ألا ما أجبنهم في مواجهة اليهود؟!
قاضي كندي قام بالحكم بالسجن مدى الحياة على امرأة قامت بذبح زوجها بسكين، وقال تعقيبا على الحكم الذي أصدره تأنيبا وتقريعا لها، قال: "لقد أثبتي أن المرأة تستطيع أن تكون أكثر عنفا من الرجل، حتى النازي لم يعذب ضحاياه اليهود قبل قتلهم".
هذا التعقيب أثار زوبعة من الاحتجاج ضد القاضي من قبل الجمعيات النسائية واليهودية في كندا، لماذا تهون من أفعال النازية في اليهود؟
فاضطر القاضي للاعتذار، ولكنه أعلن أنه مؤمن بكل كلمة قالها، في ذلك التعقيب.
هل قال خلاص اعتذر كما قال بعضهم في موضوع الصحيفة الدنمركية؟
لا، لا يكفي، لقد تضاعفت موجة الاحتداد ضده، وتعالت الأصوات مطالبة باستقالته، ولكنه رفض الاستقالة من باب أنه من حقه التعبير عن رأيه، في وصف بشاعة الجريمة، عندئذ تدخل المجلس القضائي الكندي، وقام بالتحقيق مع القاضي، ثم أوصى المجلس البرلماني الكندي بإقالة القاضي، بسبب التعليق الذي صدر عنه!.
وحين وصلت الأمور إلى ذلك الحد اضطر القاضي إلى أن يقدم استقالته بدلا من أن تأتي الإقالة من البرلمان، جملة قالها تعبيرا عن رأيه حول بشاعة الجريمة أدت إلى إقالته! هذه هي حرية التعبير المزعومة! حرية زائفة! مقيدة بمعيارهم وأهوائهم وعنصرياتهم! فأين الحرية إذاً؟!
إنها الوهم، الوهم الذي طغى بسبب طغيان الحضارة الغربية على تفكيرنا ومسالكنا بكل اتجاه، حتى بات بعض المشتغلين بالثقافة والفكر والسياسية يعتقدون حقيقتها، وأن المناقشة فيها نقاش في المقدسات.
ألا ما أكذب الكفر في مقابل صدق الإيمان؟
(قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118].
أسأل الله -تعالى- أن يحيي قلوبنا بالإيمان، وأن ينور بصائرنا به، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه غفور رحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فما هي حدود حرية التعبير في الإسلام؟
أيها المسلمون: ليس للإسلام في حرية التعبير موازين خاضعة للأهواء والتعصب؛ كما هو الحال في الغرب، بل حرص الإسلام على طهارة القول من كل وجه، أخلاقيا، وأمانة، وصدقا، وأدبا مع الله -تعالى- ورسوله، وتعاليم دينه، وأدبا مع الناس، وأسلوب الحوار معهم أين كانوا..
قال تعالى: (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة: 83].
وقال سبحانه: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)[العنكبوت: 46].
وبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أطاب الكلام، بغرف عالية في الجنة، بقوله: "إن في الجنة غرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها" فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ فقال: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام" [أخرجه الترمذي].
وجعل من أسباب النجاة من النار كلمة طيبة، فقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة، ومن لم يجد فبكلمة طيبة"[أخرجه مسلم].
كما أعطى الإسلام للمظلوم حق التظلم بلا خوف، وحق المطالبة بالحق بلا رغبة، ففي سنن ابن ماجة عن أبي سعيد قال: جاء أعرابي إلى النبي يتقاضاه دينا كان عليه، فاشتد عليه، حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه، وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟! فقال: أنا أطلب حقي،
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هلا مع صاحب الحق كنتم؟" ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: "إن كان عندك تمر فأقرضينا، حتى يأتينا تمرنا، فنقضيك" فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضته، فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيت أوفى الله لك، فقال عليه الصلاة والسلام: "أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".
كما حذر الله -تعالى- من ترك مراقبة الإنسان لسانه بقوله: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18].
وعندما سأل معاذ بن جبل -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال له عليه الصلاة والسلام في ختام كلامه: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟" قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، فقال: "كف عليك هذا" فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم -أو على منخيرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟".
فحرية التعبير له حدود شرعية تقيده، التعبير قد يورد الإنسان النار أو يدخله الجنة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه" [أخرجه الترمذي].
وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم".
فالذي يتكلم كلاما بذيئا يندى له الجبين، أو كلاما وقحا فاحشا في مستوى السفهاء، لم يتأدب بآداب الإسلام، ولم يراعِ بغض الله -تعالى- لفحشه.
صح في سنن الترمذي من حديث أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، فإن الله -تعالى- ليبغض الفاحش البذيء".
ونهى تعالى عن الغيبة والنميمة أشد النهي: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) [الحجرات: 12].
وصح في مسلم عن حذيفة –رضي الله عنه-: أنه بلغه أن رجلا ينم الحديث، فقال حذيفة سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يدخل الجنة نمام".
ونهى عن الكذب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
ونهى عن الاستهزاء والسخرية واللمز: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
ونهى الإسلام عن أمر خطير، نهى عن السماح لأهل الزيغ أن يتحدثوا فيبثوا شبهاتهم خوفا على الناس من الفتنة، وصونا لحرمة الدين.
في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) [آل عمران: 7].
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم".
وعند أحمد: "فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله -عز وجل- فاحذروهم".
وقد فقه الصحابة ما يعنيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحذر مما يثير الشبهات، وضرورة منعه عن باطله، فقد روى الدرامي في مسنده عن سليمان بن يسار: أن رجلا يقال له "صبيغ" قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه، وقال: انا عبد الله عمر، فجعل له ضربا حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "وهو حال أهل القصد الفاسد الذين يريدون القدح في القرآن، فلا يطلبون إلا المتشابه لإفساد القلوب، وهي فتنتها به ويطلبون تأويله، وليس طلبهم لتأويله لأجل العلم والاهتداء بل لأجل الفتنة، وكذلك صبيغ بن عسل ضربه عمر؛ لأن قصده بالسؤال عن المتشابه كان لابتغاء الفتنة".
وهذا كمن يورد أسئلة إشكالات على كلام الغير، ويقول: ماذا أريد بكذا؟ وغرضه التشكيك والطعن فيه، ليس غرضه معرفة الحق، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه".
ولهذا يتبعون أي يطلبون المتشابه ويقصدونه دون المحكم مثل المستتبع للشيء الذي يتحراه ويقصده، وهذا فعل من قصده الفتنة.
وأما من سأل عن معنى المتشابه ليعرفه، ويزيل ما عرض له من الشبهة، وهو عالم بالمحكم، متبع له، مؤمن بالمتشابه لا يقصد فتنة، فهذا لم يذمه الله.
وهكذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- يقولون مثل الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: حدثنا يزيد بن عبد ربه ثنا بقية ثنا عتبة بن أبي حكيم ثني عمارة بن راشد الكنائي عن زياد عن معاذ بن جبل قال: "عن معاذ بن جبل قال: "يقرأ القرآن رجلان، فرجل له فيه هوى ونية، يفليه فلي الرأس، يلتمس أن يجد فيه أمرا يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى، ورجل يقرؤه ليس له فيه هوى ولا نية، يفليه فلي الرأس، فما تبين له منه عمل به وما اشتبه عليه وكله إلى الله، ليتفقهن أولئك فقها ما فقهه قوم قط، حتى لو أن أحدهم مكث عشرين سنة فليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه، أو يفهمه إياها من قبل نفسه".
ولذلك -أيها الإخوة-: نقول لما يجري في كثير من الفضائيات من برامج حوارية أنه تقليد بليد للغرب، فنحن نرحب بالحوار الهادف النافع، ولكننا بصفتنا مسلمين لا نرحب بحوار عقيم، يثير ولا ينفع، ويوقع في القلب الريبة ولا يطمئن.
وكذلك لا نرحب بحوار يناقش جدوى قضايا ثابتة في دين الله، وكأننا نشك في حكمه، فمسألة تحريم الربا مثلا، أو مسألة قوامة الرجل، كل ذلك من أجل حرية الرأي أو التعبير.
ولا نرحب بحوار على الملأ يجمع بين مسلم وكافر، أو بين شيخ وملحدة، يلتقيان على مائدة واحدة أمام الملايين، فتسب دين الله جهارا نهارا، أو تثير الشبهات، أو تتهكم على سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- من باب حرية التعبير.
ومردنا في ذلك آيتان ثابتتان في كتاب الله:
الأولى: في سورة النساء، وهي قوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء: 140].
فنهى جل وعلا نهيا صريحا واضحا عن القعود مع الذين يكفرون بآيات الله، ويستهزئون بها، بل عد الذين يقعدون معهم أثناء استهزائهم بالآيات وتعارضهم على تعاليم الدين مثلهم في الإثم: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)[النساء: 140].
هذا النهي الصريح هو عن مجرد القعود معهم، فكيف باستضافتهم وتكريمهم كما يجري في الفضائيات، ومناداتهم بسيد وسيدة، وإتاحة الفرصة لهم ليعلنوا بباطلهم أمام ملايين الناس؟!
أهو إتباع أعمى للمنهج الغربي الذي يبني حياته على الشك أم ماذا؟!
إن من بني قومنا -أيها الإخوة- من لا ينطلقون في منهجهم الإعلامي منطلق يحترم الشرع، ويراعي تعاليمه، بل هذا بعيد عنهم مع الأسف.
الآية الثانية: في سورة الأنعام، قال تعالى محذرا: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 68].
فحرية التعبير في منهج الإسلام تقف عند أعتاب هذه الآية، ولا تتجاوزها.
هذا هو منهج من أكرم كتاب الله، ووقر آياته، أما من جعله خلف ظهره، فله شأن آخر.
إن حرية التعبير لا تبرر الخوض في آيات الله، ولا تشفع في استضافة المستهزئين في سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولا الذين يقدحون في أمانة صحابته، بل وفي إيمان صحابته، فهؤلاء لا يمكنون من الخروج على الناس، ولا كرامة لهم.
حرية التعبير لا تبيح للعبد الذليل أن يناقش مسلمات الشرع وثوابته التي أجمع عليها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتي لا تغيرها ظروف الحياة إلى قيام الساعة؛ كقوامة الرجل، وحجاب المرأة، وولاية زوجها، وكراهة خروجها من البيت إلا لحاجة، وحرمة سفرها بلا محرم، وحرمة خلوتها بالرجل من غير المحارم، وما شابهها من الثوابت.
أيها الإخوة: إن لنا نحن المسلمين فيما يتعلق بالحريات، ومنها الحق بالتعبير منهجا مستقلا عن منهج النصارى واليهود، يجب أن نؤمن به، ونسلكه، ونعتز به.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي