إن التأليف بين القلوب لا يملكه أحد إلا الله -جل وعلا-، ولذا بين سبحانه أنه لا يمكن أن يكون، حتى لو أنفق كل ما في الأرض من أجله إلا أن يشاء الله رب العالمين، وذلك بأن المشاعر من الحب والأنس والارتياح؛ وكذا البغض والوحشة والنفرة لا يملكها إلا الله -عز وجل-، وهو الذي يجعلها حيث يشاء، ويصرفها كيف يشاء، وإنه...
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
عباد الله: كم من الحقوق ضيعتموها؟ وكم من المحظورات ركبتموها؟
وأنتم مع ذلك تعلمون ما أمر الله به فيها! فإلى متى نظل مهملين، وحتى متى نبقى مفرطين؟!
ألا نفوس أبيات لها همم *** أما على الخير أنصار وأعوان
أيها الناس: (قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام: 104].
والكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلمون: إن أعظم رابطة تجمع الناس، هي: رابطة الدين، ليس بين المسلمين فحسب، بل بين كل قوم يجمعهم دين واحد، ولكن المسلمين يمتازون عن غيرهم بأنهم على الحق، وأنهم على صراط مستقيم من الله -تعالى-.
وإن تفريق الناس حسب أديانهم لهو التفريق الحق، والفاصل المتين بين كل ذوي نحلة وأخرى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [التوبة: 67].
(وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)[الأنفال: 73].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51].
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
في الشام أهلي وبغداد الهوى *** وأنا بالرقمتين وأهل النيل جيراني
وأينما ذكر اسم الله في بلد *** عددت أرجاءه من لب أوطاني
لقد جعل الله بين المؤمنين أخوة هي أعظم من أخوة النسب، ورابطة هي أقوى من رابطة الدم، وشرع المولاة على ذلك، ورغب في كل ما يزيد منها ويقويها؛ لأن بها قيام الدين، وتعاون المسلمين، ونهى عن كل ما يخل بها؛ لأن في اختلالها فساد الدين، وشتات أمر المسلمين: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا) [آل عمران: 102- 103].
فانظر كيف قرن الله -سبحانه- الامتنان على عباده بتينك النعمتين العظيمتين، وهما: نعمة التأليف بين قلوب المؤمنين، ونعمة إنقاذهم بهذا الدين، من السقوط في النار.
كما امتن تعالى بذلك على رسوله الأمين، فقال: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 62-63].
أجل! إن التأليف بين القلوب لا يملكه أحد إلا الله -جل وعلا-، ولذا بين سبحانه أنه لا يمكن أن يكون، حتى لو أنفق كل ما في الأرض من أجله إلا أن يشاء الله رب العالمين.
وذلك بأن المشاعر من الحب والأنس والارتياح؛ وكذا البغض والوحشة والنفرة لا يملكها إلا الله -عز وجل-، وهو الذي يجعلها حيث يشاء، ويصرفها كيف يشاء، وإنه ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء؛ كما صح في الحديث.
بل لقد أكد الله -جل وعلا- تلك الأخوة في حال قيام فريق من المؤمنين بقتال فريق آخر منهم، وليس في حال السلم والود فقط، فقال سبحانه: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا) [الحجرات: 9] حتى قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات: 10].
نعم إنها أخوة باقية ثابتة راسخة، حتى بين هذين الفريقين المتحاربين من المسلمين؛ كما جاء بذلك التنزيل المطهر، فكيف بتلك الأخوة في حالة مجرد الديار، أو تباعد الأزمان أو في حالة السلم؟ أو حتى في حال خلاف شخصي؟ على أمر من الأمور جليل أو حقير؟
الجواب: من عند الله -تعالى- ليس من عند فلان ولا فلان، ولا نشأ عن مواثيق دولية ولا أعراف قبلية، وهو قوله سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].
وكما نَطَق بذلك وحكم به رسوله، فقال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"[أخرجه البخاري: 2/89].
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، وكونوا عباد الله إخوانا"[أخرجه مسلم، البر والصلة] أو كما قال.
وليس ذلك فقط، بل ألا ترى هذا الدين يجمع الأبيض والأسود، والعربي والعجمي؛ إذا كانوا من أهله وحملته!.
ويفرق بين الولد وأبيه، والأخ وأخيه، والقريب وقرابته، إذا لم يكونوا على هذا الدين الإسلامي العظيم!.
أوَ ما سمعت قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة: 23].
وقوله جل ثناؤه: (لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22].
أوَ تظن أمة المسلمين أمرًا سهلاً؟
كلا ثم كلا، إنه يجمعهم اشتراكهم في أفضل أمة، وخير كتاب، وأفضل رسول، فربهم واحد، ودينهم واحد، وطريقهم واحد، وهدفهم واحد.
وإن تلك الألفة والأخوة لتبقى معهم في دنياهم وفي برزخهم؛ كما رُوِى أن أرواح المؤمنين تتزاور في البرزخ، بل يجدونها يوم القيامة حين يشفع بعضهم لبعض عند الله، فيشفعه في أخيه: (الأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67].
أوَ لا ترى: أن الله حرم التهاجر والتدابر بين المسلمين، فإن تخاصم المسلمان فلهما فسحة من الوقت بقدر ما يكفي لبرود نار الغضب، وزوال حمى الخلاف، وذلك ثلاثة أيام فقط، ثم يحرم على كل منها أن يهجر أخاه، ويدخلا جميعًا في حيز الإثم، ودائرة المعصية، حتى إن أعمالهما لتحبس فلا تعرض على الله -سبحانه- لأجل ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"[أخرجه البخاري: 4/130، ومسلم: 8/9].
وقال عليه الصلاة والسلام: "تعرض الأعمال على الله -تعالى- كل يوم اثنين وخميس، فيغفر لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا"[أخرجه مسلم، البر والصلة: 36)].
لماذا؟ لأنهما خدشا خدشًا سهلاً في بناء تلك الأخوة، وتنافر قلباهما، وجعل كل منهما يبغض الآخر متناسيين ما بينهما من أخوة الدين، وما ألزم الله به بين المؤمنين، فكان جزاء ذلك أن تحبس أعمالهما معًا، فإذا سلّم أحدهما ولم يرد الآخر برئ المُسلّم، وحار الإثم على صاحبه.
أوَ ما ترى كيف جعل الله سلامة الصدر على المؤمنين، وعدم إيصال الغش والحقد والحسد على أحد منهم سببًا عظيمًا للفوز بالجنة التي هي مبتغى كل مسلم!.
فقد أخرج الإمام في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: "بينما كنت عند رسول الله، قال: "يطلع عليكم من هذه الثنية رجل من أهل الجنة" فلما كان من الغد قال مثل ذلك، فلما كان من الغد قال مثل ذلك، فتبعته لأنظر كيف بلغ ما قال رسول الله، فبت عنده فما رأيت له صلاة فوق صلاتنا ولا قراءة فوق قراءتنا، فسألته: كيف بلغت ما قال رسول الله؟ فقال: "إني لا أبيت ليلة وفي قلبي غش ولا حقد ولا حسد على مسلم".
فانظر -يا رعاك الله- إلى هذا العمل ليس إنفاق بيض الأموال وحمرها، ولا تقطيع ساعات الليل بالقيام، ولا حبس النفس في الهواجر على الصيام، ولكنه أعظم وأشق إلا على من يسره الله عليه، بل أخبر رسوله أن تمام الإيمان رهن بقوة تلك الأخوة، فإيمانك بقدر ما تجد في نفسك لإخوانك المسلمين: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"[أخرجه البخاري، الإيمان: 7) ومسلم، الإيمان: 71)].
أرأيت؟ فكيف تجد نفسك تجاه ما كسبه بعض إخوانك المسلمين؟ وماذا عليك لو أرحت قلبك ولم تحرق أحشاءك ورضيت بما كتب الله لهم وهو العليم الخبير؟
بل ماذا عليك لو رغبت ذلك وأحببته لهم كما تحبه لنفسك؟
عباد الله: إن أمر تلك الأخوة عظيم، وغفلة المسلم عنها أعظم؛ لقد أخرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من المسلمين كل من غشهم في معاملته، فقال: "من غشنا فليس منا"[أخرجه مسلم، الإيمان: 164)].
بل أخرج منهم من لم يُجل كبيرهم، ويرحم صغيرهم؛ لأن ذلك الرجل ضعفت عنده تلك الأخوة، فلم يعد يشعر بأن من حوله أخوة له، يأنف أن يغشهم، وتنقاد نفسه راضية طيعة لإجلال كبيرهم، ورحمة صغيرهم.
إن مدار ذلك على شعور المرء أنه بين إخوة له يحبهم ويحبونه، ويحب لهم ما يحب لنفسه، أو شعوره أنه فرد غريب في وسط غابة من الوحوش، وعالم من الأشباح، فلا يدخر وسعًا في إظهار نفسه عليهم، مهما كانت السبل لذلك، ولا يجد غضاضة في تحقير كبارهم، أو الغلظة على صغارهم، ولذا قال عليه الصلاة والسلام عن مثل ذلك الشخص: "ليس منا".
إنك ترى في حديثين اثنين نذكرهما الآن ما يبين لك حرص هذه الشريعة الغراء على بناء الأخوة الدينية بين المسلمين، والحفاظ على قوتها وتماسكها، وفي المقابل دحر كل ما يضعفها، أو يخالف نهجها.
أرأيت قول رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره أنه يحبه"[رواه أبو داود والترمذي، وقال الألباني: "وإسناده صحيح" مشكاة المصابيح: 5016)].
فأي أخٍ هذا! أتراه أخاه في النسب أو في الوطن، أو زميله في العمل، أو في تشجيع فكرة معينة، أو ناد رياضي هلك به المخذولون؟!
كلا، وليس ذلك ولا قريبًا من ذلك، ولكنه أخوه في الدين الذي أحبه لما يرى منه من طاعة الله، ولزوم أمره، حين ذاك ينبغي لهذا الشعور الباطن الخفي أن يخرج ويصرح به، فيقول: "إني أحبك" وهو موعود على ذلك بوجوب محبة الله له؛ كما قال سبحانه فيما رواه عنه رسوله: "وجبت محبتي للمتحابين في"[رواه أحمد (21021) والموطأ (1503)].
أرأيت؟ إن الجزاء على ذلك ليس مالاً ولا عقارًا ولا ولدًا، لكن الجزاء أن يحبك الله -جل وعلا- فلله أي جزاء هذا؟!
وفي المقابل ترى قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من تعزى عزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا"[رواه أحمد (5/136) سلسلة الأحاديث الصحيحة، ص269].
وحيث قال رجل عند أبي بن كعب: "يا لبني فلان، قال له أبي: اعضض أير أبيك، فقال الرجل: ما عهدناك فاحشًا يا أبا المنذر! قال: بهذا أمرنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-".
فانظر: كيف كان ممنوعًا على المسلم أن يجعل لنفسه عصبية الإسلام، وحمية لغير المسلمين، وعزاء بغير الإسلام من نعرات الجاهلية والقومية والقبلية، أو غيرها.
ثم تعاهدت شريعة الإسلام هذا البناء الذي قام بين المسلمين، فجعل الله أعظم الأجر والثواب في رأب صدعه، وإصلاح ما فسد منها، وشد ما ضَعُف؛ إذ قد أخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن الساعي في إصلاح ذات البين له أجر الصائم القائم، قال: "فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"[رواه الترمذي، صفة القيامة: 2433)، وأبو داود، الآداب: 4273)، وأحمد (26236)، قال الألباني: "صحيح" صحيح أبي داود، ص1411)].
فتَبصَّر -بَصّرك الله بالحق- كيف جعل قيام بناء الأخوة، وتحققها في قلوب المؤمنين أساسًا لقيام الدين وسلامته، وجعل فساد ذات بينهم، ونفرة قلوب بعضهم من بعض لا تُضْعِف الدين فقط، بل تحلقه كما يحلق الشعر.
فأي أمر غفلنا عنه؟ وأي رابطة فرطنا فيها؟ وأي عروة أطلقتها أيدينا؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... إلخ.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، واتبع سنته إلى يوم الدين.
إذا رأيت -يا أخي- تشييد ذاك البناء القلبي، والرباط الشعوري العظيم، والحرص على كل ما يقويه، ودحر كل ما يوهنه، فإن خلال ذلك ما يكون مقويًا ومخذلاً، ولذا رغب الله ورسوله في نفع المسلمين ما تيسرت لذلك سبيلا، ووعد من نفّس عن مُسلم كربة من كرب الدنيا أن يُنَفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة؛ كما جاء في الصحيح وكما روى الدار قطني من قوله: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا"[حديث حسن، صحيح الجامع الصغير: ص176)].
وفي المقابل يقول: "من خذل مؤمنًا في موقف يحتاج نصرته خذله الله في موقف يحتاج فيه نصرته"[رواه أبو داود؛ كما في الترغيب: 3/148] أو كما قال.
وكما أوجب الله محبته لمن أحب فيه فقد أذن بحربه من عادى أولياءه المتقين فقال -تعالى- فيما رواه رسوله: "من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب"[أخرجه البخاري، الرقاق: 38)].
عباد الله: إننا حين نشكو من تسلط الأعداء، وانتشار المعاصي، والسكوت عليها بين المسلمين، وعدم اهتمام بعضهم ببعض، بل قل سعى بعضهم ضد بعض، لنتساءل كيف بالمسلمين لو قامت بينهم تلك الأخوة؟
كيف بهم لو كان أحدهم يرى العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه مثل بيته، وينظر إلى المسلمين؛ كما ينظر إلى أسرته، ويحمل في قلبه المودة والحب والدعاء في ظهر الغيب لجاره المسلم، وإن خاصمه، كما يحمل ذلك كله لإخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
بل حتى من لم يجمعهم به زمن واحد، فماتوا قبله، أو جاؤوا بعده: (وَالَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].
كيف ستكون حاجة أحدهم وهم كالبنيان يشيد بعض بعضًا، وكيف تكون مأساة أحدهم وهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، كما وصفهم نبيهم، وكيف سيكون الأعداء أمام أمة بهذه الصفة لا يجدون فيها مطمعًا ولا في رجالها مدخلاً: "فهم سواسية يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم"[رواه أحمد وأبو داود قال الألباني: صحيح، صحيح الجامع الصغير، كما وصفهم نبيهم.
كثيرًا منا قصر في ذلك، وإن آخرين يفعلونه، ولكن ربما فعلوه عادة أو حياءً، أو لأمر آخر، وربما غابت عنهم نية العبادة، واحتساب الأجر، ولو نوى ذلك واحتسبه لكان له من الله أجزل الثواب: (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) [الكهف: 44].
ولا ينبغي أن يحملها الإنسان أو يأتيها وهو يجهل مداها وأبعادها، فتلك الأخوة أمر تعبدي شرعه الله ورسوله، ووعد الله عليه أعظم الجزاء في الدنيا والآخرة، وإن آثاره لترى وتعمل في آحاد المسلمين ومجتمعاتهم، ومن مات منهم، ومن سيأتي بعدهم؛ كما ترى في أعدائهم ودخلائهم الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، بل إنك إذا أقمت ذلك الشعور في نفسك وعملت به، فإن نفعه أكثر ما يكون لك، لا لغيرك، فانظر مثلا حبك لسلف الأمة أتراه ينفعهم أو ينفعك؟ وماذا تستطيع أن تقدم لهم وقد ماتوا من أزمنة سحيقة غير دعائك ونعما هو؟
لكن نفعه لك أعظم وأجدى ولعله أن يلحقك بهم؛ كما في الصحيح من حديث أنس –رضي الله عنه- قال: "جاء أعرابي إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقال: متى الساعة؟ قال: "ما أعددت لها؟" قال: إني ما أعددت كثير صلاة ولا عمل غير أني أحب الله ورسوله، فقال: "المرء مع من أحب".
قال أنس –رضي الله عنه-: "فو الله ما فرحنا بمثل هذه البشارة، فإنا نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولم نعمل مثل أعمالهم"[متفق عليه].
وخذ مثلا آخر: تعاطفك مع المسلمين هنا وهناك، في البوسنة أو كشمير، أو غيرهما، فهل ترى شيئا من وجدك وحرقتك قد رحل لينصرهم غير ما تدعو لهم به ولكنه ينفعك أنت إذ ما أحببتهم في دينهم ولا أسيت لهم إلا من أجل ما تسحب به من أخوة دينية قوية نحوهم، وذلك خليق أن يحقق لك أوثق عرى الإيمان؛ ففي الحديث: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"[رواه الطبراني والبغوي قال الألباني: ضعيف جدا، ولكن له شواهد عدة يتقوى بها "سلسلة الأحاديث الضعيفة، ص998)].
فأين لنا من يقول:
أنا عالمي ليس لي *** أرض أسميها بلادي
وطني هنا أو قل هنالك *** حيث يرفعها المنادي
فالفقر أحلى من رياض *** في رباها القلب صادي
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي