وَكَانَتْ بِلاَدُ الشَّامِ مِثْلَ العِرَاقِ فِي العُلُومِ وَالخَيْرَاتِ، وَلَطَالَمَا هَاجَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا، وَأَقَامُوا فِي أَرْضِهَا، وَتَغَنَّى الشُّعَرَاءُ بِهَوَائِهَا وَمَائِهَا وَخُضْرَتِهَا، وَتَذَكَّرُوا طِيبَ فَاكِهَتِهَا وَطَعَامِهَا، وَمَا سَكَنَهَا أَيَّامَ عِزِّهَا أَحَدٌ فَتَمَنَّى الرَّحِيلَ عَنْهَا، وَكَانَ النَّاسُ يَفِدُونَ إِلَيْهَا يَجْتَنُونَ مِنْ خَيْرَاتِهَا وَأَرْزَاقِهَا، وَاليَوْمَ هِيَ خَرَابٌ يَبَابٌ، قَدْ دَمَّرَهَا البَاطِنِيُّونَ عَلَى رُؤُوسِ أَهْلِهَا، يَبْكِيهَا مَنْ يَعْرِفُهَا وَيَعْرِفُ حَالَ أَهْلِهَا، وَيَتَذَكَّرُ سَابِقَ مَجْدِهَا وَعِزِّهَا وَثَرَائِهَا، فَمَنْ يُصَدِّقُ أَنَّ أَحَدًا يَمُوتُ جُوعًا فِي الشَّامِ...
الحَمْدُ للهِ الكَبِيرِ الأَكْبَرِ، العَظِيمِ الأَعْظَمِ، وَهُوَ يَطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ، وَيَقْهَرُ وَلاَ يُقْهَرُ: (وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ) [الأنعام:18]، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْدَارِهِ، عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ، يَبْتَلِيهِمْ بِالسَّرَّاءِ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُمُ الشُّكْرَ، وَيُصِيبُهُمْ بِالضَّرَّاءِ لِيُظْهِرَ مِنْهُمُ الصَّبْرَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ جَمَعَ اللهُ تَعَالَى بِهِ شَتَاتَ العَرَبِ، وَدَانَتْ بِدِينِهِ العَجَمُ، فَأَعْلَى رَبُّهُ سُبْحَانَهُ مَقَامَهُ فِي العَالَمِينَ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُ فِي الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَكَانَ مُحَمَّدًا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ غُرُورٍ، وَأَنَّهَا إِنْ سَرَّتْ أَحْزَنَتْ، وَإِنْ أَضْحَكَتْ أَبْكَتْ، وَإِنِ اخْضَرَّتْ أَغْبَرَتْ، فَلاَ يَرْكَنُ إِلَيْهَا إِلاَّ مَخْذُولٌ، وَلاَ يَغْتَرُّ بِهَا إِلاَّ مَغْرُورٌ، يَنْقَلِبُ فِيهَا العَزِيزُ إِلَى ذَلِيلٍ، وَالغَنِيُّ إِلَى فَقِيرٍ، وَالصَّحِيحُ إِلَى مَرِيضٍ، وَيَخَافُ فِيهَا الآمِنُ، وَيَجُوعُ الشَّبْعَانُ، وَيُشَرَّدُ المُسْتَوْطِنُ.
وَتَقَلُّبَاتُ الأَحْوَالِ تَرَوْنَهَا أَمَامَكُمْ فِي الأَفْرَادِ وَالدُّوَلِ؛ وَلِذَا لَمْ يَرْضَ اللهُ تَعَالَى بِالدُّنْيَا دَارَ إِقَامَةٍ لِأَوْلِيَائِهِ، وَمَنَحَ فِيهَا مُتْعَةً لِأَعْدَائِهِ، فَاعْتَبِرُوا بِتَقَلُّبَاتِهَا، وَتَزَوَّدُوا لآخِرَتِكُمْ مِنْهَا: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].
أَيُّهَا النَّاسُ: الدُّنْيَا دَارُ خَوْفٍ وَلَيْسَتْ دَارَ أَمْنٍ، وَخَوْفُ البَشَرِ فِيهَا هُوَ مِنْ بَشَرٍ مِثْلِهِمْ؛ فَالآمِنُونَ المُطَمَئِّنُونَ يَخَافُونَ الحُرُوبَ وَالاضْطِرَابَ، وَالمُوسِرُونَ الوَاجِدُونَ يَخَافُونَ ذَهَابَ المَالِ، وأَهْلُ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ يَخَافُونَ مُفَاجَآتِ الأَمْرَاضِ وَالابْتِلاَءِ.
كَانَتِ العِرَاقُ يَوْمًا بَلَدَ الوَاجِدِينَ، قَبْلَ أَنْ تَتَلَوَّثَ بِدَمَوِيَّةِ البَاطِنِيِّينَ، قَدْ كَمُلَتْ فِيهَا مَحَاسِنُ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ مَعَ مَعَاقِدِ الغِنَى وَالثَّرْوَةِ، يَقْصِدُهَا النَّاسُ لِلْعِلْمِ أَوْ لِلْعَمَلِ، وَاليَوْمَ يَفِرُّ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَيَأْسَى الأَغْرَابُ عَنْهَا لَهَا، كَانَتْ أَنْوَاعُ تَمْرِهَا تَزِيدُ عَلَى أَيَّامِ حَوْلِهَا، وَأَنْهَارُهَا تَتَدَفَّقُ بِعَذْبِ مَائِهَا، وَيَحُفُّ بِجَنَبَاتِهَا شَجَرُهَا وَثَمَرُهَا، وَأَغْلَى المَعَادِنِ مُخْتَزَنٌ فِي أَرْضِهَا، وَاليَوْمَ يُخِيفُ أَهْلَهَا شَبَحُ الجُوعِ، فَلاَ يَنْشُدُونَ غِنًى وَيَتَمَنَّوْنَ كَفَافًا وَقُوتًا.
وَكَانَتْ بِلاَدُ الشَّامِ مِثْلَ العِرَاقِ فِي العُلُومِ وَالخَيْرَاتِ، وَلَطَالَمَا هَاجَرَ النَّاسُ إِلَيْهَا، وَأَقَامُوا فِي أَرْضِهَا، وَتَغَنَّى الشُّعَرَاءُ بِهَوَائِهَا وَمَائِهَا وَخُضْرَتِهَا، وَتَذَكَّرُوا طِيبَ فَاكِهَتِهَا وَطَعَامِهَا، وَمَا سَكَنَهَا أَيَّامَ عِزِّهَا أَحَدٌ فَتَمَنَّى الرَّحِيلَ عَنْهَا، وَكَانَ النَّاسُ يَفِدُونَ إِلَيْهَا يَجْتَنُونَ مِنْ خَيْرَاتِهَا وَأَرْزَاقِهَا، وَاليَوْمَ هِيَ خَرَابٌ يَبَابٌ، قَدْ دَمَّرَهَا البَاطِنِيُّونَ عَلَى رُؤُوسِ أَهْلِهَا، يَبْكِيهَا مَنْ يَعْرِفُهَا وَيَعْرِفُ حَالَ أَهْلِهَا، وَيَتَذَكَّرُ سَابِقَ مَجْدِهَا وَعِزِّهَا وَثَرَائِهَا، فَمَنْ يُصَدِّقُ أَنَّ أَحَدًا يَمُوتُ جُوعًا فِي الشَّامِ، أَرْضِ الخَيْرَاتِ وَالبَرَكَاتِ، وَهُوَ يَقَعُ الآنَ؛ فَفِي كُلِّ عَشْرِ سَاعَاتٍ يَمُوتُ وَاحِدٌ مِنَ الجُوعِ، هَذَا مَا أَمْكَنَ رَصْدُهُ، وَمَا لاَ يُعْلَمُ عَنْهُ فَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ.
وَالمَوْتُ جُوعًا هُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ المَوْتِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَفْقِدُ الحَيَاةَ بِبُطْءٍ شَدِيدٍ، وَكُلُّ يَوْمٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ يَزْدَادُ أَلَمُهُ، وَيَشْتَدُّ وَجَعُهُ، وَتَهِنُ قُوَّتُهُ، وَيَهْزُلُ جَسَدُهُ، وَيَفْقِدُ مَاءَ الحَيَاةِ حَتَّى يَتَلاَشَى، وَأَنِينُ الجَائِعِ أَشَدُّ مِنْ أَنِينِ الجَرِيحِ وَالمَرِيضِ وَالمُتَأَلِّمِ؛ لِأَنَّهُ أَنِينٌ ضَعِيفٌ لاَ يَدُلُّ عَلَى مَا فِي الجَائِعِ مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ، يَخْرُجُ مِنْ جَوْفٍ مُحْتَرِقٍ خَاوٍ فَارِغٍ مِمَّا يُرَطِّبُهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ المَوْتَ بِالجُوعِ أَشَدُّ أَنْوَاعِ المَوْتِ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ نَبِيًّا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْجَبَتْهُ أُمَّتُهُ، فَقَالَ: لَنْ يَرُومَ هَؤُلَاءِ شَيْءٌ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنْ خَيِّرْهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ، أَوِ الجُوعَ، أَوِ الْمَوْتَ، فَقَالُوا: أَمَّا الْقَتْلُ أَوِ الجُوع، فَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَكِنِ الْمَوْتُ، فَمَاتَ فِي ثَلَاثٍ سَبْعُونَ أَلْفًا...". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَقَبْلَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ سَنَةً زَارَ عَلاَّمَةُ مِصْرَ مُحَمَّدْ رَشِيدْ رِضَا -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بِلاَدَ الشَّامِ، وَالمَجَاعَةُ تَطْحَنُهَا بِسَبَبِ الحَرْبِ، فَكَانَ مِمَّا كَتَبَ: "وَمِيْتَةُ الجُوعِ شَرٌّ مِنْ مِيْتَةِ القَتْلِ فِي الحَرْبِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ فِي الحَرْبِ هَذَا الزَّمَانِ تُزْهَقُ أَرْوَاحُهُمْ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ بِغَيْرِ أَلَمٍ يُذْكَرُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُذْكَرُ تَأَلُّمُ الجَرْحَى وَتَشْوِيهُهُمْ عَلَى شِدَّةِ العِنَايَةِ بِمُعَالَجَتِهِمْ، وَأَمَّا مَوْتَى الجُوعِ فَلاَ يَمُوتُونَ إِلاَّ بَعْدَ آلامٍ بَدَنِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ شَدِيدَةٍ طَوِيلَةِ الأَمَدِ، فَيَهْزُلُونَ وَيَضْوُونَ أَوَّلاً مِنْ قِلَّةِ الغِذَاءِ، ثُمَّ بِفَقْدِهِ، حَتَّى إِذَا مَا وَهَتْ قُوَاهُمُ الحَيَوِيَّةُ، وَضَعُفَ تَمَاسُكُ عَضَلِ أَبْدَانِهِمْ، دَبَّ فِيهَا الوَرَمُ كَمَا يَدُبُّ فِي جُثَثِ المَوْتَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَابُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالكَلَبِ، أَوْ مَا يُشْبِهُهُ، وَمَنْ يَعْتَرِيهِمُ الجُنُونُ -وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى-، وَلاَ فَائِدَةَ الآنَ فِي إِطَالَةِ وَصْفِ هَذَا الرِّجْزِ الأَلِيمِ". اهـ.
وَاليَوْمَ يَفْتَرِسُ الجُوعُ المُحَاصَرِينَ فِي مُخَيَّمِ اليَرْمُوكِ، وَالمَعْظِمِيَّةِ، وَفِي حِمْصَ، وَفِي عَدَدٍ مِنَ الدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ المُحَاصَرَةِ، فَيَفْتِكُ الجُوعُ بِأَطْفَالِهَا وَشُيُوخِهَا، وَيَهُدُّ قُوَّةَ شَبَابِهَا، وَهُوَ أُسْلُوبٌ لَجَأَ إِلَيْهِ البَاطِنِيُّونَ، وَصَرَّحُوا بِهِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: "حَمْلَةُ تَجْوِيعٍ لِإِخْضَاعِ المُعَارِضِينَ، إِمَّا أَنْ تَرْكَعُوا لِلْأَسَدِ أَوْ تَمُوتُوا جُوعًا".
وَالشَّبَكَةُ العَالَمِيَّةُ، وَالقَنَوَاتُ الفَضَائِيَّةُ نَقَلَتْ صُوَرَ الرُّضَّعِ وَهُمْ يُصَارِعُونَ المَوْتَ جُوعًا فِي مُخَيَّمِ اليَرْمُوكِ بِسَبَبِ انْعِدَامِ الحَلِيبِ، وَمُحَاصَرَةِ البَاطِنِيِّينَ للمُخَيَّمِ، وَعَدَمِ السَّمَاحِ بِدُخُولِ المَوَادِّ الغِذَائِيَّةِ لَهُمْ، وَلاَ بِخُرُوجِ مَنْ يُشَارِفُونَ عَلَى المَوْتِ جُوعًا إِلَى أَنْ يَمُوتُوا.
وَنَقَلَتِ المَقَاطِعُ أُمَّهَاتٍ ضَاقَتْ حِيلَتُهُنَّ، يَحْمِلْنَ الرُّضَّعَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ، وَيُنَاشِدْنَ العَالَمَ لِإِنْقَاذِهِنَّ، وَيَنْتَخِينَ المُسْلِمِينَ لِإِطْعَامِهِنَّ وإنقاذ أَطْفَالِهِنَّ، فَلاَ مُجِيبَ لَهُنَّ؛ إِذِ العَالَمُ كُلُّهُ بَيْنَ مُتَآمِرٍ وَعَاجِزٍ وَغَيْرِ آبِهٍ بِهِنَّ وَبِأَطْفَالِهِنَّ، وَآبَاءٌ عَجَزُوا عَنْ إِطْعَامِ أَطْفَالِهِمْ، فَلَمَّا ضَاقَتْ حِيلَتُهُمْ وَضَعُوهُمْ لَيْلاً أَمَامَ أَبْوَابِ الجَمْعِيَّاتِ الخَيْرِيَّةِ؛ لَعَلَّهُمْ يَعِيشُونَ وَلَوْ بَعِيدًا عَنْهُمْ، أَوْ يَمُوتُونَ وَهُمْ لاَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ.
وَنَقَلَتِ المَقَاطِعُ أُمًّا وَأَطْفَالَهَا يَجْنُونَ حَشَائِشَ الأَرْضِ الَّتِي لِلْبَهَائِمِ لِتَكُونَ طَعَامَهُمْ، وَطِفْلاً يَبْكِي وَيَتَلَوَّى مِنْ أَلَمِ الجُوعِ، وَأَطْفَالاً خَرَجُوا جَمِيعًا يَهْتِفُونَ لِلْعَالَمِ يَقُولُونَ: نُرِيدُ طَعَامًا.
وَنَقَلَتِ المَقَاطِعُ شُيُوخًا مُمَدَّدِينَ أَنْهَكَهُمُ الجُوعُ حَتَّى نَزَعَ أَرْوَاحَهُمْ، وَأَبْقَاهُمْ هَيَاكِلَ عَظْمِيَّةً، وَعَجُوزًا تَبْكِي وَتَقُولُ: الحِصَارُ أَنْهَكَنَا، وَالجُوعُ ذَبَحَنَا، لاَ نَأْكُلُ شَيْئًا!
وَنَقَلَتِ المَقَاطِعُ رَجُلاً يَذْبَحُ قِطَّةً وَيَطْبُخُهَا لأَوْلادِهِ وَيَقُولُ: شَكَوْنَا إِلَى اللهِ تَعَالَى المُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَخَلَّوْا عَنَّا، وَأَظْهَرَتْ صَبِيًّا يَتَجَرَّعُ قِرْطَاسًا يَسُدُّ بِهِ جُوعَهُ، وَمَاتَ شَابٌّ لِأَنَّهُ أَكَلَ مِنْ جُثَّةِ إِنْسَانٍ مَيِّتٍ مُتَعَفِّنٍ فَتَسَمَّمَ!
وَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ تُطَالِبُ النِّظَامَ النُّصَيْرِيَّ بِضَرْبِهِمْ بِالكِيمَاوِي لِيَمُوتُوا سَرِيعًا بَدَلَ المَوْتِ بُطْئًا بِالجُوعِ، وَيَا لَهُ مِنْ حَالٍ بَئِيسٍ يَفْطُرُ القَلْبَ حِينَ يَكُونُ المَوْتُ السَّرِيعُ أُمْنِيَةً لِلْمُصَابِ بِالجُوعِ.
إِنَّ الجُوعَ الَّذِي يَفْتِكُ بِإِخْوَانِنَا فِي الشَّامِ لَيْسَ رَجُلاً فَيَقْتُلُونَهُ، وَلاَ جَيْشًا يُحَارِبُونَهُ، وَلَكِنَّهُ عَدُوٌّ إِذَا حَلَّ بِبَلَدٍ فَقَدْ حَلَّ فِيهَا الأَلَمُ، وَأَسْرَعَ إِلَيْهَا الفَنَاءُ، فَالجُوعُ بِئْسَ الضَّجِيعُ وَبِئْسَ الرَّفِيقُ.
وَحِينَمَا نَقْرَأُ القُرْآنَ نَعْلَمُ قِيمَةَ الطَّعَامِ، وَنَعْلَمُ شِدَّةَ الجُوعِ عَلَى الإِنْسَانِ؛ فَفِي أَوَّلِ خِطَابِ اللهِ تَعَالَى لآدَمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- حِينَ أَسْكَنَهُ الجَنَّةَ قال: (يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) [البقرة:35]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (إِنَّ لَكَ إِلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى) [طه:118] .
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ الشِّدَّةَ وَالكَرْبَ وَالجُوعَ عَنْ إِخْوَانِنَا فِي الشَّامِ، وَأَنْ يَدْحَرَ أَعْدَاءَهُمُ البَاطِنِيِّينَ، وَمَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، اتَّقُوهُ فِي إِخْوَانِكُمُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ جُوعًا وَبَرْدًا، وَيُعَانُونَ قَصْفًا وَذَبْحًا وَتَشْرِيدًا؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ المُؤْمِنِينَ إِخْوَةً، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ، فَمَا يُصِيبُ بَعْضَهُمْ فَهُوَ يُصِيبُ جَمِيعَهُمْ: (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة:71]، (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10]، وقَالَ الرَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
وَوَاللهِ لَوْ صَدَقْنَا مَعَ اللهِ تَعَالَى فِي نُصْرَةِ إِخْوَانِنَا بِالوَسَائِلِ المُمْكِنَةِ وَرَأْسُهَا الدُّعَاءُ؛ لَفَرَّجَ اللهُ تَعَالَى كَرْبَهُمْ، وَغَيَّرَ حَالَهُمْ، وَنَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَلَكِنَّنَا نَغْفُلُ عَنْهُمْ كَثِيرًا، وَنَنْشَغِلُ بِدُنْيَانَا وَرَفَاهِيَّتِنَا أَكْثَرَ مِنْ شُغْلِنَا بِهِمْ، وَهُمْ يُعَذَّبُونَ وَيَمُوتُونَ، وَلَوْ وَضَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا نَفْسَهُ مَكَانَهُمْ، وَتَخَيَّلَ أَنَّ مَصِيرَهُ مَصِيرُهُمْ، وَأَنَّ حِيلَتَهُ انْقَطَعَتْ فَلاَ يَجِدُ مَا يُطْعِمُ بِهِ أَوْلادَهُ، وَلاَ مَا يُرْضِعُ بِهِ مَوْلُودَهُ حَتَّى يَمُوتَ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ لِتَغَيَّرَ حَالُنَا، وَلَوَقَفْنَا مَعَ إِخْوَانِنَا، وَأَحْسَسْنَا بِهِمْ، وَخِفْنَا مِنَ اللهِ تَعَالَى أَنْ يُبَدِّلَ حَالَنَا إِلَى مِثْلِ حَالِهِمْ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ.
إِنَّنَا يَجِبُ أَنْ نُحَاسِبَ أَنْفُسَنَا عَلَى تَقْصِيرِنَا فِي حَقِّ إِخْوَانِنَا، وَفِي إِسْرَافِنَا فِي نَفَقَاتِنَا وَأَطْعِمَتِنَا؛ فَالجُوعُ يَلُفُّ المَنَاطِقَ حَوْلَنَا، ويُغِيرُ عَلَى إِخْوَانِنَا فِي العِرَاقِ وَالشَّامِ وَاليَمَنِ وَغَيْرِهَا، وَفَائِضُ الأَطْعِمَةِ مِنْ مَوَائِدِنَا لَمْ يَنْقُصْ، وَلَمْ نَقْتَصِدْ فِي لَهْوِنَا وَأَفْرَاحِنَا وَوَلاَئِمِنَا، بَلْ نَزْدَادُ فِيهَا إِسْرَافًا وَاتِّسَاعًا، وَنَتَنَافَسُ عَلَى المُفَاخَرَةِ وَالمُبَاهَاةِ بِهَا، وَلَوْ جُمِعَ مَا يُلْقَى مِنْ أَطْعِمَةٍ يَوْمِيَّةٍ فِي الزُّبَالاَتِ وَالخَلاَءِ لأَشْبَعَ شُعُوبًا كَامِلَةً، فَبِمَ نُقَابِلُ اللهَ تَعَالَى؟! وَبِمَاذَا نُجِيبُ حِينَ نَلْقَاهُ؟! وَنَحْنُ مُتْخَمُونَ بِالنِّعَمِ، مُسْرِفُونَ فِي الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالأَثَاثِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَإِخْوَانُنَا قَرِيبًا مِنَّا يَتَضَوَّرُونَ مِنَ الجُوعِ حَتَّى المَوْتِ، وَأَطْفَالُهُمْ يَمُوتُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ لأَنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ حَلِيبًا لَهُمْ، واللهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: "يَا ابْنَ آدَمَ: اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ: وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ!! قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟! أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟!". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
إِنَّنَا عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ إِذَا لَمْ نَرْعَ النِّعَمَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِينَا وَنَشْكُرْ اللهَ تَعَالَى عَلَيْهَا، وَنُغَيِّرْ مِنْ حَالِنَا فِي السَّرَفِ وَالبَذَخِ وَرَمْيِ الأَطْعِمَةِ، وَالمُبَاهَاِة بِالحَفَلاَتِ وَالوَلاَئِمِ، إِنَّنَا عَلَى خَطَرٍ إِذَا لَمْ نَأْبَهْ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ يَفْتَرِسُهُمُ الجُوعُ وَصُوَرُهُمْ وَأَخْبَارُهُمْ تُنْقَلُ إِلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ.
إِنَّ العَالَمَ الغَرْبِيَّ النَّصْرَانِيَّ قَدْ حَوَّلَ قَضَايَا المُسْلِمِينَ وَمَجَاعَاتِهِمْ وَحُرُوبَهُمْ وَمَآسِيهِمْ إِلَى حُقُولٍ لاسْتِنْبَاتِ المَكَاسِبِ الاقْتِصَادِيَّةِ، وَأَوْرَاقٍ لِلْمُسَاوَمَاتِ السِّيَاسِيَّةِ، وَتَبِعَهُ سَاسَةُ العَرَبِ فِي هَذَا المَنْهَجِ الحَيَوَانِيِّ القَاسِي الَّذِي لاَ مَكَانَ فِيهِ لِلدِّينِ وَالرَّحْمَةِ وَالأَخْلاَقِ. وَضَاعَ إِخْوَانُنَا بَيْنَ هَؤُلاءِ وَأُولَئِكَ، أَنَكُونُ نَحْنُ كَذَلِكَ؟!
إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْجُرُ المُؤْمِنَ عَلَى الأَلَمِ وَالهَمِّ يُصِيبُهُ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ هَمُّهُ وَأَلَمُهُ لَيْسَ لِمُصِيبَةٍ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا لأَجْلِ إِخْوَانِهِ؟! فَيَنْعَكِسُ ذَلِكَ عَلَى بَذْلِهِ وَعَطَائِهِ وَدُعَائِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَدْعُوَ لإِخْوَانِهِ فِي مُصَابِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ دُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، مِنْ شِدَّةِ مَا يُعَالِجُ مِنْ آلامِ لأَجْلِهِمْ، وَهَذِهِ هِيَ الأُخُوَّةُ الحَقِيقِيَّةُ، وَالحُبُّ فِي اللهِ تَعَالَى، وَالوَلاءُ فِيهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَنْ حَقَّقَ ذَلِكَ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَوَجَدَ حَلاَوَتَهُ: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ) [المائدة:55-56].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي