فيعيش المرءُ مع هذه الأوضاع حالة اليأسِ والقنوط والإحْباط، فيقعد عن العملِ، وينْظر إلى مستقبل الأيام بمنظارٍ أسود قاتم، يَرى في الشمس سلبيَّة الحرارة دون إيجابيَّة النور وسرِّ الحياة، ويرى في البحرِ ملوحتَه، متغافلاً عن جماله وما يُخْفيه من ..
الحمد ربِّ العالمين؛ توحَّد بالعظمة والجلال، وتعالَى عن الأشباه والنظراء والأمْثَال، أحمدُه -تعالى- وأشكره على جزيل النوَال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدالله ورسوله، ونِبْراس الهُدَى، ومُفَنِّد الضلال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تَبِعهم بإحسان إلى يوم المآل، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- عباد الله، اتقوا الله حقًّا، وانطقوا خيْرًا وصِدْقًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
إخْوَة الإسلام: في دنيا الأوْهَام والعَناء والضِّيق والشدة والابْتِلاء تتكالبُ الظروف على الفرْدِ والمجتمع والأُمَّة؛ فالأمة مُسْتهدَفة، والأقْصى جريح، وشبابنا وفتياتُنا وأطفالُنا هدفٌ لموجات التغريب والغزو الفِكْري، وأعباء الحياة تؤرِّقُ هاجسَ الفرْد من كلِّ اتجاه، فيعيش المرءُ مع هذه الأوضاع حالة اليأسِ والقنوط والإحْباط، فيقعد عن العملِ، وينْظر إلى مستقبل الأيام بمنظارٍ أسود قاتم، يَرى في الشمس سلبيَّة الحرارة دون إيجابيَّة النور وسرِّ الحياة، ويرى في البحرِ ملوحتَه، متغافلاً عن جماله وما يُخْفيه من كنوز وخَيْرات.
عباد الله: كم نسمع من وَلْوَلَة وحَوْقَلة على الإسلام تحملُ في طيَّاتها اليأسَ من تحرير القدس أو مقارعةِ اليهود والنصارى! كم نسمع من ندبٍ لحال العلْم وأهلِه، وأنَّ الإصلاحَ قد ذهبَ بذهاب فلان وفلان! كم نسمع من يقول: الدنيا في انْحدار ونزول؛ فالاختلاط في التعليم على أبوابِكم، وقيادة المرأة مسألة وقتٍ!
كم مِن مريضٍ أُحْبِط من شفاء، ومَدِين يَئِسَ من وفاء، وشاب رأى أنَّ جمْعَ تكاليف الزواج أبْعد من الجوزاء!
كم من شاب عاطلٍ بدتِ الوظيفة في وجْهه من المستحيلات!
وهكذا أحوالٌ كثيرة في المجتمع تحملُ في طيَّاتها الشؤمَ، وتقتل الفألَ الحَسَنَ والنظرة الصافيةَ التي هي في ذاتها عبوديَّة لله -تعالى-؛ حيث تولد الصبرَ على البلاء، والرضا والتسليم بالقضاء، فتتحول المحنةُ إلى منحةٍ، والألمُ إلى أملٍ، والسعة إلى ضِيق، والظلام إلى فجْرٍ مُشْرقٍ وَضَّاء.
عباد الله: إننا نحتاجُ في وقتنا هذا إلى التفاؤل الذي اصطحبه نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- في حياته كلِّها قولاً وعملاً؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا طِيَرة، وخيْرُها الفأْلُ"، قالوا: وما الفأْلُ يا رسول الله؟ قال: "الكلمة الصالحةُ يسمعها أحدُكم"، وفي رواية أخرى: "لا طِيَرة، ويعجبني الفأْلُ: الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة"، وفي رواية: "وأحبُّ الفأْلَ الصالح".
وكان يقول لِخَبَّاب في أوج الشدة التي يلقاها من المشركين: "وليُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمِه". رواه البخاري.
وكان إذا استسقى قَلَبَ رداءَه بعد الخطبة؛ تفاؤلاً بتحوّل حال الجدبِ إلى الخصب، وهكذا كانتْ حياة رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مليئة بالتفاؤل، كان يتفاءَل بالأمْكِنة والأسْماء، قال لأبي بكر -وهو يفترشُ معه ترابَ الغارِ والكفَّار من حوله-: "لا تحزنْ إنَّ الله معنا، ما ظنُّك -يا أبا بكر- باثنين الله ثالثهما"، وقال لسُرَاقة -وهو يطاردُه في طريق الهجرة وسُرَاقة على الكفر لم يُسْلِمْ بَعْدُ-: "كيف بك -يا سُرَاقة- إذا لبست سِوارَي كِسرى؟!".
إنَّه التفاؤل الذي يصنعُ المجدَ، ويعتلي به المرءُ القمَّة، أما التشاؤمُ، فهو ركونٌ وقعود وذِلَّة.
كُنْ بَلْسَمًا إِنْ صَارَ دَهْرُكَ أرْقَمَا *** وَحَلاَوَةً إِنْ صَارَ غَيْرُكَ عَلْقَمًا
عباد الله: تفاءَلُوا بالخير تجدوه، كلمة نسمعها فما أرْوعَها! فالمتفائل بالخيْر سيظفر به -بإذن الله-؛ لأن التفاؤلَ يدفعُ بالإنسانِ نحو العطاء والتقدُّم، والعمل والنجاح، وقد قال الله -جل في علاه-: (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا) [الأنفال:70]؛ فاجعلْ في قلبك خيْرًا وأبْشِرْ.
التفاؤل ثقةٌ بالله ورضاء بقضائه وقَدَرِه يولِّد هِمَّة عالية وعزيمة ونشاطًا مُتجددًا.. المسلم المتفائل متوكِّلٌ على الله، يعلم أنَّ كلّ شدّة فرجُها آتٍ، يتوقّع الخيْرَ، يبتسم للحياة، يحسن الظنَّ بالله الذي بيده مقادير الأمورِ، ويعلم أنَّ الرحيم سيجعلُ بعْدَ العُسْر يُسْرًا، وبعد الضيق فرجًا، وبعد الحُزْن سرورًا، وأنى لِمَن يرجو رحمةَ الله، ويتعلّق بحبْلِ الله المتين أن يُحبَطَ أو يستسلم للشدائد والْمِحَن؟! قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ حُسنَ الظنِّ بالله من حُسْن عبادة الله".
إخوة الإسلام: من عُدِمَ التفاؤلَ عاشَ في ضَنْكٍ وضيق وهمٍّ وغَمٍّ، أودى به إلى اليأْسِ من حياته؛ فانطلقَ هائمًا على وجْهه في أوحال المعصية والمخدرات والدُّخان؛ ليطردَ هذا الهمَّ في زعْمِه، وقد يستعجلُ الموتَ فينتحر، وقد يندفعُ للعنْف والإرهاب، فيقتل نفسَه وغيرَه؛ لاستواء الموتِ والحياة لَدَيْه؛ فالتفاؤل والثقة بالفوز والظفر بالمطلوب حاجزٌ عن كلِّ سقطةٍ، ودافعٌ إلى اللجوء إلى الله ودعائه وعبادته، فبيده الأمرُ كلُّه، وإليه يرْجعُ الأمرُ كلُّه: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:127-128].
أقول ما تسمعون، وأستغفرُ الله لي ولكم.
الحمد لله ربِّ العالمين ...
إخوة الإسلام: إنَّ المؤمنَ حقًّا يعلم أنَّ ما أصابَه لم يكنْ ليخطئه، وما أخطأه لم يكنْ ليصيبه؛ فكنْ -أيها المبارك- على هذا الوصفِ مُقيمًا؛ فلا تستبطِئ الرزقَ، ولا تستعجل النجاةَ، ولا تقلق على حال الأمة..
تفاءَلْ حتى لو نزلتْ بك مصيبةٌ أو دَهَمَكَ مرضٌ أو فَقْرٌ، أو فَقَدْتَ وَلَدًا أو زوجة..
تفاءَلْ حتى لو خَسِرْتَ في تجارة، أو تكالبتْ عليك الديونُ..
تفاءَلْ حتى لو أعْيَاكَ البحثُ عن وظيفة، أو أعجزتْكَ النفقةُ عن بناء منزلٍ..
تفاءَلْ في كلِّ أحوالك مع العمل على دَفْعِ ما تقْدِر عليه من بلاء أو تخفيفه، وأبْشِرْ بثواب الصابرين، وتفريج الكُربات وتنفيس الهموم: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5-6].
عباد الله: واحذروا التشاؤمَ؛ فإنه مَزَلةُ أقدامٍ وعملٌ جاهليٌّ، وهادمٌ للتوكِّل على العَليّ؛ سواء أكان هذا التشاؤمُ بالأزمان أم الأرْقام أم الأشْخاص أم الأحْوال؛ فإنَّ التشاؤمَ قنوطٌ وخَورٌ واستسلام، والمتشائم لن يصنعَ تاريخًا، ولن يبنيَ خيْرًا، وهذا رسولُنا -صلى الله عليه وسلم- يهذّب النفوسَ ويربيها على العطاء والخيْر، فيقول: "إذا قال الرجل: هلكَ الناسُ، فهو أهلكهم". رواه مسلم.
أسألُ اللهَ أن يشرحَ الصدورَ للفأْلِ الحَسَن الذي يحملُ في طيَّاته النورَ والسرور.
هذا؛ وصلوا وسلموا على نبيِّكم محمد بن عبد الله.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي