فلماذا حظي المساكين بهذه المكانة العظيمة، وهذه الالتفاتة النبوية الكريمة، وهذه العناية الربانية الجسيمة؟! حتى وصى بهم ربنا -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- حين قال له: "إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردتَ بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون". صحيح سنن الترمذي.
عَنْ أَبِى ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "أَمَرَنِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أَصِلَ الرَّحِمَ وَإِنْ أَدْبَرَتْ، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَسْأَلَ أَحَداً شَيْئاً، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لاَ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ". وفي رواية: "فإنها كنز من كنوز الجنة". رواه الإمام أحمد، وهو في الصحيحة.
هذا حديث عظيم الفوائد، جم المعاني، غزير الدروس والعبر، نقف من خلاله على مجموعة من محاسن الدين الإسلامي، التي سنجعلها -إن شاء الله تعالى- سلسلة جديدة، توقفنا على جملة من الخصال التي ميزت ديننا الذي ارتضاه الله -عز وجل- من لدن نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وإلى قيام الساعة؛ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
وأول ما نستهل به محاسن هذا الدين العظيم، ما أشار إليه أبو ذر -رضي الله عنه- في مطلع الوصايا التي غمره بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَمَرَنِي خَلِيلِي -صلى الله عليه وسلم- بِسَبْعٍ: أَمَرَنِي بِحُبِّ الْمَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ"، أي: أمرني أن أضع المساكين في حسباني، وأن أحبهم، وأدنو منهم، فأتفقدَ أحوالهم، وأسعى في قضاء حاجاتهم، ومراعاة مصالحهم، تخفيفًا عليهم من وطأة الفقر، ومشاركة لهم في هموم المسغبة، وثقل المتربة.
فلماذا حظي المساكين بهذه المكانة العظيمة، وهذه الالتفاتة النبوية الكريمة، وهذه العناية الربانية الجسيمة؟! حتى وصى بهم ربنا -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- حين قال له: "إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردتَ بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون". صحيح سنن الترمذي.
فلنعلم أولاً أن الله -تعالى- قضى بحكمته أن يخلق الناس مختلفي المقامات، متفاوتي القامات، متبايني الدرجات، ليبلو بعضهم ببعض، وليختبر صبرهم، ويمتحن عبادتهم وتوكلهم، فجعل منهم الذكر والأنثى، وجعل منهم الشريف والخامل، وجعل منهم الصحيح والسقيم، وجعل منهم أيضًا الغني والفقير، كما قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
ولئن جعل -سبحانه- هذا التفاوت سنة كونية بين البشر، فليس ليصير الفقر ظاهرة مجتمعية متفاقمة، يعيش معها الفقراء حياة الضيق والضَّنْك، ويرتكسون معها في حمأة الحرمان والإقصاء، بل دعا إلى التكافل بين الناس، والاهتمام بحالات الفقراء والمحتاجين، وشرع لهم من الوسائل والطرائق ما يَرْفِدُ نسيج التلاحم بين الغني المشبع، والفقير المهموم، ويحقق وشيج التراحم بين المتخم المترع، والمعوز المحروم، كما قال تعالى في بيان صفات عباد الله الصالحين: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).
فلا معنى إذاً لهذا التفاوت الفظيع التي يعيشه العالم بعامة، والعالم الإسلامي والعربي بخاصة، حين نعلم أن 35 ألف طفل يموتون يوميًّا بسبب الجوع والمرض، ويقضي خُمس سكان البلدان النامية بقية اليوم يتضوَّرون جوعًا، لأن 3.8 مليارات من الناس يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، و1.2 مليار يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، بينما "ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم تعادل الناتج المحلي لأفقر ثمانٍ وأربعين دولة في العالم، كما أن ثروة مائتين من أغنى أغنياء العالم تتجاوز نسبتها دخل 41% من سكان العالم مجتمعين. ويكفي أن يسهم هؤلاء الأغنياء بـ1% من هذه الثروات، لتغطى تكلفة الدراسة الابتدائية لكل الأطفال في العالم النامي".
إن بالفقراء يرزق الأغنياء، وبالضعفاء ينصر الأقوياء، ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم!!". البخاري. قال ابن بطال المالكي: "تأويل الحديث: أن الضعفاء أشد إخلاصًا في الدعاء، وأكثر خشوعًا في العبادة، لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا". ألا تستحق هذه الشريحة ما يناسبها من عناية ورعاية؟!
فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري، فوجدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، قاعدًا في ناس من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حول النبي -صلى الله عليه وسلم- حقروهم، فأتوه، فَخَلَوْا به وقالوا: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسًا تَعْرِفُ لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنك، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم -إن شئت-. قال: نعم. قالوا: فاكتب لنا عليك كتابًا. قال: فدعا بصحيفة، ودعا عليًا ليكتب ونحن قعود في ناحية، فنزل جبرائيل -عليه السلام- فقال: (وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ)، ثم قال: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ). قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)، يعني عيينة والأقرع، (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)، قال خباب: "فكنا نقعد مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم". صحيح سنن ابن ماجه.
ولقد مرضت امرأة مسكينة، "فأُخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمرضها، وكان -صلى الله عليه وسلم- يعود المساكين، ويسأل عنهم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ماتت فآذنوني". فأُخرج بجنازتها ليلاً، وكرهوا أن يوقظوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أُخبر بالذي كان منها، فقال: "ألم آمركم أن تؤذِنوني بها؟!". قالوا: "يا رسول الله: كرهنا أن نوقظك ليلاً. فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى صف بالناس على قبرها، وكبر أربع تكبيرات". صحيح سنن النسائي.
فتب عما جنيت وأنت حي *** وكن متيقظًا قبل الرقاد
أترضى أن تكون رفيق قوم *** لهم زاد وأنـت بغير زاد
لقد استقى الصحابة الكرام والصالحون بعدهم هذا الهدي النبوي الكريم، فجسّدوه في علاقاتهم بالفقراء والمحتاجين، فكانوا يَرِقّون لحالهم، ويواسون عوزهم، ويسدون خُلتهم.
فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- "كان لا يأكل حتى يؤتى بمسكين يأكل معه". متفق عليه.
وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "كنت ألصق بطني بالحصباء -الأرض- من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية -هي معي- كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخيرَ الناس للمسكين جعفرُ بن أبي طالب -الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين-، كان ينقلب بنا، فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العُكَّة -وعاء من جلد يجعل فيه السمن وغيره- التي ليس فيها شيء، فنشقها، فنلعق ما فيها". البخاري.
ومن عجيب ما نقله ابن كثير في "البداية والنهاية" عن عبد الله بن المبارك، وشديد اعتنائه بالمحتاجين قوله: "خرج مرة إلى الحج، فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه، وتخلف هو وراءهم، فلمّا مر بالمزبلة، إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها، فأخذت ذلك الطائر الميت، ثم لفته، ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة، فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلّت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظلم، وأخذ ماله، وقتل. فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟! قال: ألف دينار. فقال: عُدَّ منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي، فهذا أفضل من حجنا في هذا العام. ثم رجع".
النفـس تجـزع أن تكـون فقيرة *** والفقـر خير مـن غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت *** فجميع ما في الأرض لا يكفيها
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي