1/ظاهرةِ استسهالِ التعامل بالرّبا 2/التذرع بقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" 3/حكم الربا 4/فروق مهمة بين الضرورة والمشقة 5/الحياة مبناها مكابدة المشاق 6/بعض صور المشقة 7/خطر الربا على الإنسانية
الحمد لله رب العالمين، حمدا كثيرا طيّبًا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضَى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا بالقلبِ، ونطقًا باللسان، وتطبيقًا بالجوارح والأركان، ونشهد أن محمّدًا عبد الله ورسوله، أرسله اللهُ إلى جميعِ الثَّقلين بالشريعة الغرّاءِ التامّة الكاملة، التي حفظَت مصالح الدّارين، القابض عليها في مثل هذا الزمان كالقابض على الجَمر، غيرَ أنّ له من الله على ذلك جميلُ الذكر وعظيمُ الأجر، صلى الله على النبيّ، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين، وعلى كلّ من ثبتَ على منهاجِهِم إلى يوم الدّين، وسلّم.
ثم أما بعد:
حديثُنا اليومَ -معشر المؤمنين- حول ظاهرةِ استسهالِ موضوعِ الرّبا المحرّمِ؛ تحريمًا قطعيًّا بالكتاب والسنّة وإجماعِ العلماء؛ فقد حصلَ ما أخبرَ به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بين يدي الساعة يظهر الربا والزنى والخمر" [الصحيحة: 3415)].
ومعنى: "يظهرُ" أي يفشُوَ في الناسِ أمرُهُ، ويستَسْهَلَ ولا يستغرب.
وهذا حاصلٌ -للأسف- اليوم في الرّبا والزّنا والخمر -كثيرٌ من المسلمين بسببِ ضعف الإيمان، وقلّة الصبر واليقين- استسهلوا هذا الموضوع عندَ أدنى إحساسٍ بالتّعبِ والمشقّةِ والعنَت في الحياة، إذا ضاقت عليهم الأبوابُ في الرّزقِ لم يرَوا إلاَّ بابًا واحدًا يصيرُ به الرّجُلُ غنيًّا في ليلة، هو بابُ الاقتراض الرّبوي المحرّم، وقالوا: "الضرورات تبيح المحظورات"!
وإذا وجَدُوا الحرجَ والضّيقَ في نصيبِهم من المأوَى والسّكن، أو توقّعُوا ذلكَ؛ لم يرَوا إلاَّ بابًا واحدًا تصيرُ بهِ العائلةُ في ليلةٍ وضُحَاهَا في مسكنٍ؛ كما تُحبُّ وتشتهي من خلالِ الاقتراضِ الرّبويّ المحرّم، وقالوا: "الضرورات تبيح المحظورات"!.
بل هناكَ من يبتغي ترميم سكنه بالرّبا، ويقول: "الضرورات تبيح المحظورات"!.
بل هناكَ من رأى النّاسَ يتمتّعونَ مع أولادِهم بالسيّارات والمراكبِ الفارهَة، فوجدَ الحرجَ والمشقّةَ من فقدِ السيّارة، ثمَّ توسّعَ، فاعتقدَ أنَّ السيّارَةَ من الضرورات في هذا الزّمان، وبالتالي الضرورات تبيحُ المحظورات، فاقتنى سيّارَةً فارهةً بالرّبا المحرّم.
وغيرُ ذلكَ من الحالات التي تدعوا إلى الأسف والحسرَة!.
هذا الوضعُ -معشر المؤمنين- ناشئٌ بعدَ ضعفِ الإيمان باللهِ، وقلَّةِ الصبرِ واليقينِ؛ ناشئٌ عن عدمِ التفريقِ بين مرتبةِ الضرورةِ التي تجيزُ للمسلمِ فعلَ الحرامِ بضوابِط، وبين المشقّةِ التي لا تجيزُ فعلَ الحرامِ، وإنّما تجلبُ التيسيرَ في الحلال، وما لاَ إثمَ فيه.
لا أحدَ -معشر المؤمنين- يجهلُ تحريمَ الرّبا في الإسلامِ، وأنَّهُ من أكبر الكبائر، وأنَّهُ لم يبلغ من تغليظِ أمرٍ أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغَ من تغليظِ الربا، ولم يبلغ في التهديد في اللفظ والمعنى بفعل من أفعال الجاهلية ما بلغ من التهديد في أمر الربا.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُون)[البقرة: 278-279].
وقال صلى الله عليه وسلم: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية"[صحيح الجامع: 3375)].
وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكلَ الربا ومؤكلهُ وكاتبهُ وشاهديه"[رواه مسلم].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا ظهر الربا والزنا في قرية؛ فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله" [حسن: غاية المرام 344)].
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة"[صحيح الجامع: 5518)].
أيها الإخوةُ في الله: هل يمكنُ للمسلمِ أن يستهينَ بموضوع الرّبا مع كل هذا الوعيد؟! وهل للمسلم أن يحتجَّ بمشقة الدنيا الزائلة لتحسين وضعه الاجتماعي على حسابِ دينه ومشقّةِ الآخرة التي لا تُحتمل؟!.
فرقٌ كبيرٌ جدًّا بين الضرورة النادِرَةِ التي يحصُل بسببها التلَفُ الحقيقيُّ اليقيني، وبين المشقّة التي هي طبيعةُ الحياة التي نحنُ فيها!.
الضرورة، قال أهل العلم: "الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة، تنتهي بالتّلَفِ والهلاك يقينًا في نفسِه، أو عرضِهِ، أو عقلِهِ، أو مالِهِ. فيباحُ لهُ عندئذٍ ارتكاب الحرام، أو تركُ الواجب، أو تأخيره عن وقته؛ دفعاً للضرر عنه" [نظرية الضرورة الشرعية، ص 67-68)].
والمعنى: أنَّهُ توجدُ نقطة معيّنة سيحدُثُ عندها الخطر يقينًا، ويترتّبُ عليه التلّف أكيدًا!.
وهذه الضرورة التي تحتاج إلى فتوى خاصّة، لا يمكن ان تُتَصوّر بتاتًا في حقّ آكل الرّبا، إنما يمكن أن تحصُلَ في حقّ الموكِل.
أما المشقّةُ -معشر المؤمنين-؛ فهي جزءٌ لا يتجزَّأُ من الحياة، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد)[البلد4].
أي يكابِدُ مصائبَ الدنيا وحاجاتِها.
بل المشقّةُ -معشر المؤمنين-: جزءٌ لا يتجزَّأُ من التكليفِ والعبادة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيه)[الانشقاق: 06].
ففي الجهادِ مشقّةٌ كبيرة، وخطرٌ متربّص، وفي الحجّ مشقّةٌ بالغة، وخطرٌ متربّص، وفي الصومِ في الصيف مشقّة وإرهاق، وفي الغُسلِ أو الوضوءِ في الشتاء مشقّة، وفي صلاة الصبح مشقّة، وفي صلاة الجماعة مشقّة، وفي طلب العلمِ مشقّة، وفي طلب الرّزق مشقّة، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشقّة، وفي رجمِ الزُّناةِ مشقّة، وفي إقامةِ الحدود على الجُناة مشقّة، فهل يجيزُ شيءٌ من ذلكَ الترخُّصَ بتركِ الواجبِ أو فعلِ الحرامِ لوجودِ المشقّةِ فيه؟!
الحياةُ الدنيا بناها اللهُ -تعالى- على مكابدَةِ المشاقّ، وتحمُّلِ الأخطار والهموم، فهي دارُ المشقّةِ وإن قلّت، والجنَّةُ نعيمٌ مطلقٌ لا مشقّةَ فيه ولا خطر، والنعيمُ لا يُدركُ بالنّعيم، إنَّما يصلُ المرءُ إلى نعيمِ الآخرةِ بالصبرِ على مشاقِّ التكليفِ، وتركِ شهواتِ الحرام.
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
أيها الإخوةُ في الله: شخص يسكُنُ مع أهلِهِ عند والِدِه، أولادُهُ ما شاء اللهُ كثيرون، والحالُ ضيّقٌ، هل هذا الشخصُ في مشقّةٍ أم في ضرورةٍ تُجيزُ له امتلاكَ مسكنٍ بالرّبا؟!
الجوابُ بكلّ تأكيد: هو في مشقّة وليسَ في ضرورةٍ لاقتراضٍ بالرّبا؛ لماذا؟
الجوابُ: لعدمِ وجودِ وصف الاضطرار، وهو الحَدُّ الذِي يكونُ فيهِ الخطر يقينًا ويترتّبُ عليه التلّف، كما قلنا في تعريف الضرورة.
شخص مُسْتَأجِر، هل هذا الشخصُ في مشقّةٍ أم في ضرورةٍ تُجيزُ له امتلاكَ مسكنٍ بالرّبا؟!
الجوابُ بكلّ تأكيد: هو في مشقّة وليسَ في ضرورةٍ لاقتراضٍ بالرّبا؛ لماذا؟
الجوابُ: لعدمِ وجودِ وصف الاضطرار، وهو الحَدُّ الذِي يكونُ فيهِ الخطر يقينًا ويترتّبُ عليه التلّف؛ كما قلنا في تعريف الضرورة.
شخص يعيشُ في غرفةٍ واحدة، هل هذا الشخصُ في مشقّةٍ أم في ضرورةٍ تُجيزُ له امتلاكَ مسكنٍ بالرّبا؟!
الجوابُ بكلّ تأكيد: هو في مشقّة وليسَ في ضرورةٍ لاقتراضٍ بالرّبا؛ لماذا؟
الجوابُ: لعدمِ وجودِ وصف الاضطرار، وهو الحَدُّ الذِي يكونُ فيهِ الخطر يقينًا ويترتّبُ عليه التلّف؛ كما قلنا في تعريف الضرورة.
يا معشر المؤمنين: الرّبا بلاء على الإنسانية في إيمانها، وفي أخلاقها، وفي حياتها الاقتصادية، فهو أبشع نظام يمحق سعادة البشر محقاً، على الرغم من أنه يبدو كأنه يُساعده على النمو وسدِّ الحاجات، وهو الوجه الكالح الذي يقابل الصدقة والبر، والإحسان والزكاة، والقرضَ الحَسَن، المأمور بها في الإسلام.
كيفَ يقدِمُ المسلمُ على الرّبا لشبهةٍ، أو شهوةٍ تدفعهُ؛ وهو يقرأُ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِه)[البقرة: 278-279].
آياتٌ صريحةٌ فيها إعلانٌ واضحٌ للحرب على مستقبل المرابين؟!.
يقولُ اللهُ لهم: إذا لم تتوبوا فأْذَنوا بِحربٍ مِنَ اللهِ ورسولِه، أي: انتظروا حربَ اللهِ ورسولِه لكُم، ومَن يَقدِرُ أنْ يُحاربَ اللهَ ورسولَه؟! -نسألُ اللهَ السلامةَ والعافية-.
إن الخصم -معشر المؤمنين-: ليعرف أن عدوّه يعدّ العُدَّةَ ليشن الغارة عليه، فلا يهدأ ولا ينام، مع احتمال أن يدفع عن نفسه، وأن يكون هو المنتصر.
فكيف إذا أعلِم بالحرب من الله؟! وهي حربٌ رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة، لا هوادة فيها، وأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القدرة الجبّارة الماحقة؟!.
وهذه الحرب المعلنة أعمّ من القتال بالسيف والمدفع، إنها حرب على الأعصاب والقلوب، وحرب على البركة والرخاء، وحرب على السعادة والطمأنينة، حرب يسلط الله فيها بعض العصاة على بعض، حرب المطاردة المستمرّة، حرب الغُبن والخسارَة الدائمة، حرب القلق والخوف، حربٌ أعلنها اللهُ -جل وعلا- على المرابين، أفرادًا ومجتمعاتٍ وأنظمة، وهي مسعَّرَةٌ الآن تأكل الأخضر واليابس، والبشرية غافلة عما يفعل بها.
نسألُ اللهم السلامة والعافية، والثباتَ على التقوى.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي