ومحب الدنيا أشد الناس عذاباً بها، وهو معذّب في دوره الثلاث: يعذب في الدنيا بتحصيلها، والسعي فيها، ومنازعة أهلها، ويعذب في البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، فيعمل فيه الهم والغم والحزن والحسرة...
الحمد لله على إحسانه, والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إذا علم المؤمن أن الدنيا فانية، وأن متاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد؛ أخذ حذره منها ولم يغتر بها، ولم يعلق بها قلبه، ولم يتخذها محبوبه، ولم تصر أكبر همّه، ولا مبلغ علمه، فهو يعلم أنها إن أضحكت قليلاً أبكت طويلاً، وإن أعطت يسيراً منعت كثيراً.
أيها الإخوة: لقد حذرنا ربنا -سبحانه- من الركون إلى الدنيا ومحبتها وفرط التعلق بما فيها، فقال الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14] ، وقال الله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ) [القيامة: 20-21]، وذلك لأن حب الدنيا يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله، ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقَّر الله، وهي سجن المؤمن، وجنة الكافر، وقد لعنها الله وأبغضها ومقتها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله ومقته وأبغضه فقد تعرض للعنه ومقته وغضبه -سبحانه-.
عباد الله: إن من أحب الدنيا صيّرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر وقلب الحكمة، فانعكس قلبه، وانعكس سيره إلى وراء، وسار في الظلمات، وترك طريق الهدى والنور: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) [الإسراء: 72]، وذلك لأن محبة الدنيا تعترض بين العبد وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة؛ لاشتغاله عنه بمحبوبه.
عباد الله: الناس في محبة الدنيا على مراتب:
فمنهم من يشغله محبوبه من الدنيا عن الإيمان وشرائعه. فهذا بأسوأ المنازل.
ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه، فلا يقوم بها ظاهراً ولا باطناً. فهذا مفرط في حق ربه، ووعيده شديد.
ومنهم من يشغله حبّها عن كثير من الواجبات والسنن. فهذا ظالم لنفسه.
وأقل درجات حب الدنيا أنه يشغل عن سعادة العبد، وهو تفريغ القلب لحب الله، ولسانه لذكره.
أيها الإخوة: إن محبة الدنيا تضر بالآخرة ولا بدّ، كما أن محبة الآخرة تضر بالدنيا، ومحبتها تجعلها أكبر هَمٍّ للعبد.
ومحب الدنيا أشد الناس عذاباً بها، وهو معذّب في دوره الثلاث: يعذب في الدنيا بتحصيلها، والسعي فيها، ومنازعة أهلها، ويعذب في البرزخ بفواتها والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبداً، فيعمل فيه الهم والغم والحزن والحسرة في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه.
عباد الله: لا شك أن من أحب الدنيا، وآثرها على الآخرة، فهو من أسفه خلق الله، وأقلهم عقلاً، إذ آثر الظل الزائل على النعيم الدائم، والدار الفانية على الدار الباقية، وباع حياة الأبد في أرغد عيش، بحياة إنما هي أحلام ونوم.
واحذر -يا عبد الله- فالدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وهي دار ظعن ليست بدار إقامة، مَنْ صح فيها هرم, ومن استغنى فيها فُتن وطغى, تُذل من أعزها, وتُفقر من جمعها, وهي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه.
واعلموا -أيها الإخوة- أن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السارّ فيها غذاء ضارّ، وقد وُصِلَ الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالحزن، صفوها كدر، وعيشها نكد، وليس لها عند الله قدر ولا وزن.
عباد الله: لقد عُرضت الدنيا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغض الله خالقه، أو يرفع ما وضع ربه. وإن الله -سبحانه- قد زوى الدنيا عن الأنبياء والمرسلين والصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً، فيظن المغرور بها القادر عليها أنه أُكرم بها، وشرفه الله بملكه لها، ونسي ما صنع الله بمحمد -صلى الله عليه وسلم- حين شد الحجر على بطنه، وأنه وهو سيد الخلق لم توقد النار في بيته الشهر والشهرين، فقطع حبالها، وأغلق أبوابها، وزهد بسلعها.
أيها المسلمون: وفي الأمثال تشبيه وتقريب للمعاني، ولقد ضُرب للدنيا وأهلها أمثال كثيرة، ولنأخذ منها مثلاً واحدًا, فمَثَل اشتغال أهل الدنيا بنعيمها، وغفلتهم عن نعيم الآخرة، مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة في البحر، فأمرهم الملاَّح بالنزول لقضاء الحاجة، وحذّرهم الإبطاء، وخوَّفهم ذهاب السفينة، فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة، فأخذ أوسع الأماكن وألينها، وأرفقها لمراده.
ووقف بعضهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وثمارها العجيبة، ويعجبه حسن أحجارها، وأصوات طيورها. ثم حدثته نفسه بفوت السفينة، فأسرع فلم يجد فيها إلا مكاناً ضيقاً يجلس فيه.
وأكبَّ بعضهم على تلك الأحجار الحسنة، والأزهار الجميلة، فحمل منها ما حمله، فلما جاء لم يجد في السفينة موضعاً فحمله على عنقه، وندم على أخذه، ثم ذبلت الأزهار، وتغيرت ريحها، وآذاه نتنها.
وهام بعضهم في تلك الفياض، ونسي السفينة، وأبعد في نزهته؛ فهو تارة يشم الأزهار, وتارة يأكل من الثمر, وتارة يعجب من تغريد الطيور، وجريان الأنهار، وهو مع ذلك خائف من سبع يخرج، أو شوكة تدخل في قدميه، أو غصن يجرح بدنه ويخرق ثيابه.
فمن هؤلاء من لحق السفينة ولم يلق فيها موضع فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه فافترسته السباع وهو غافل، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك.
فهذا مثال أهل الدنيا، واشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم.
والعبد في هذه الدنيا مهاجر بعمله إلى ربه، والدنيا فانية زائلة، وهي كظل شجرة، والعبد فيها مسافر، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائف استراح تحتها ثم راح وتركها، فلا يحسن به أن يبني تحتها داراً، ولا يتخذها قراراً، بل يستظل بقدر الحاجة ثم يواصل السير، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا" [أخرجه الترمذي وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي].
عباد الله: إن الدنيا وما فيها من النعيم بالنسبة إلى الآخرة ونعيمها كالقطرة بالنسبة إلى البحر، وما في الدنيا من الأموال والأشياء لا يساوي شيئاً بالنسبة لما في الآخرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "وَالله مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ؟" [أخرجه مسلم].
ومهما كان في الدنيا من النعيم فبقاؤها محدود، وبهجتها قليلة، وهي سريعة الزوال كما قال -سبحانه-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد: 20].
لذا أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- بالمسابقة إلى الآخرة، والمسارعة إلى أعمالها كما قال -سبحانه-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الحمد لله الولي الحميد، الفعّال لما يريد, أحمده -سبحانه-, من التمس رضاه نجا، ومن تعلق بغيره خاب، ولم يغنِ عنه من الله شيئًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له, خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من الاغترار بالدنيا والركون إليها، فشبَّه -صلى الله عليه وسلم- حال المؤمن في الدنيا بأنه كالمحبوس، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ" [مسلم رقم 2956].
وإن التعلق بالدنيا والإفراط في محبتها له أضرار على المسلم خاصة وعلى الأمة كلها بصفة عامة، أما ضرر حب الدنيا على المسلم فهو السبب في طول الأمل، فهذه الآمال الطويلة التي نعاني منها سببها حب الدنيا، فيتعلق المرء بها، ويرتبط بالمال والمسكن والأهل والولد والمركب وكذا وكذا.
وكلما أحب المرء هذه الأشياء في الدنيا تعلق بها، وإذا أحس بفراقها حاول أن يدفع هذا الفراق عن نفسه، يعني يخاف أن يفارقها، ويكره أن يفارق هذه المألوفات التي أحبها. قال تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ثم قال: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16، 17] يعني هم يؤثرون الدنيا، فكأنه يقول تؤثرون الحقير الفاني على الخير الباقي الدائم بجوار الله تعالى.
وأما أضراره على الأمة المسلمة، فإن حب الدنيا من الأمراض التي تؤخر نصرها، وتعيق وحدتها، وتتسبب في تخلفها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "توشك أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلَة إلى قَصْعَتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟! قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن"، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت". [أخرجه أبو داود (4297) وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5369)].
والناظر في أحوال المسلمين اليوم، يجد أن هذه السمة هي الغالبة على أكثر الناس، ووالله لا يمكّن الله للمسلمين في الأرض حتى يصلحوا من حالهم ويرجعوا إلى دينهم؛ (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ).
إنه ما ضاع المسلمون في مراحل هزائمهم المختلفة -إلى يومنا هذا- إلا بعد أن غلبهم حب الدنيا وكراهية الموت، فإذا انهزم ذكر الله وأداء حقه والدفاع عن دينه والموت في سبيله أمام حب الدنيا وكراهية الموت فقد ضاع الدين، وما انهزمت أمتنا قديمًا أو حديثًا إلا إذا علا في ضمير الفرد حبّه لنفسه عن حبّه لربه، حبه لحياته عن حبه لآخرته، ذكره لما يشتهى ونسيانه لما كُلِّف به وطُلب منه.
أيها الإخوة: إن من اطمأن إلى الدنيا, واغتر بلذاتها, ورضي بشهواتها, وألهته طيباتها عن السعي للآخرة, وتمتَّع بها تمتُّع الأنعام السارحة, فهي حظه من الآخرة, وسينال على ذلك أشد العقوبة لتكبره عن الحق, وقول الباطل, والعمل بالباطل, والكذب على الله. والدنيا متاع الغرور, كم قتلت؟ كم أهلكت من البشر؟.
إن كل واحد منا في هذه الدنيا ضيفٌ، وماله عاريةٌ، فالضيف مرتحل ولا بد، والعارية مؤداة، والمال بين الورثة مقسوم، فهل من معتبر؟! ومثل طالب الدنيا كمثل شارب ماء البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، فلا يزال يشرب حتى يقتله الماء المالح.
واعلموا -أيها الإخوة- أن حب الدنيا هو الذي عمّر النار بأهلها، وأن الزهد في الدنيا هو الذي عمّر الجنة بأهلها، وأن السُّكْر بحب الدنيا أعظم من السكر بالخمر، فصاحبه لا يفيق إلا في ظلمة اللحد.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأخرتنا التي إليها معادنا، وأجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي