الرجوع إلى الحق وقبوله فضيلة من الفضائل، وسمة كريمة، وصفة لا يتميز بها إلا الرجال، وقبل ذلك هي ميزة يتميز بها عباد الله الصادقون، فالمؤمن إذا تبيّن له الحق لا يتوانى عن الرجوع إليه، ولا يـتأخر لحظة واحدة عن الانقياد له، وأما -والعياذ بالله- ضعاف الإيمان، تجدهم يبحثون عن مبررات واهية، ويوجدون لأنفسهم حججًا باطلة، وهدفهم عدم قبول الحق...
الحمد لله الكبير القدير الديان، الرؤوف العظيم المنان، الحليم الرحيم الرحمن، المتفضل بفضله على جميع خلقه، يعز ويذل، ويفقر ويغني، ويسعد ويشقي (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرَّحمن:29]، أحمده حمدًا يليق بكريم وجهه، وبعظيم سلطانه: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-3]، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، عملاً بوصيته لكم ولمن كان قبلكم: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله -عباد الله-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2،3]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق:4]، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق:5]، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين.
أيها الإخوة المؤمنون: الرجوع إلى الحق وقبوله فضيلة من الفضائل، وسمة كريمة، وصفة لا يتميز بها إلا الرجال، وقبل ذلك هي ميزة يتميز بها عباد الله الصادقون، فالمؤمن إذا تبيّن له الحق لا يتوانى عن الرجوع إليه، ولا يـتأخر لحظة واحدة عن الانقياد له، وأما -والعياذ بالله- ضعاف الإيمان، تجدهم يبحثون عن مبررات واهية، ويوجدون لأنفسهم حججًا باطلة، وهدفهم عدم قبول الحق، ولذلك -أيها الإخوة- بيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن عدم قبول الحق والرجوع إليه، صفة من صفات أهل الكبر، الذين لا يدخل الجنة أحد منهم وفي قلبه مثقال ذرة منه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام مسلم -رحمه الله- قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس". بطر الحق يعني دفعه ورده، وغمط الناس: أي احتقار الناس، فالذي لا يقبل الحق أو يحتقر أحدًا من الناس، هذا هو المتكبر، نسأل الله السلامة.
فتأمل -أخي المسلم- عاقبة من لا يقبل الحق ولا يرجع إليه، لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة منه -والعياذ بالله-، فالذي يريد الجنة، ويطمع بأن يكون من أهلها -جعلني الله وإياكم منهم- إذا تبين له الحق فإنه يرجع إليه مباشرة دون تأخير، قدوته في ذلك نبيه -صلى الله عليه وسلم-، الذي ضرب لنا أروع الأمثلة في الرجوع إلى الحق، وهو من؟! رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذي زكاه الله من فوق سبع سماواته، المؤيد بالوحي، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، المعصوم، إذا تبين له أمر هو حق بادر إليه، تدرون لماذا -أيها الإخوة- لأن قلبه ليس فيه مثقال ذرة من كبر، أما المتكبرون فإن الحق يتبين لهم بيان الشمس في رابعة النهار، ولكنهم كما ذكرت، يبحثون عن مبررات واهية، ويوجدون لأنفسهم حججًا باطلة.
بعض الآباء لا يقبل الحق لأن مصدره ابنه، وبعضهم يرد الحق لأن الذي قاله زوجته، وكذلك بعض المدراء، لا يتجرأ الموظف الصغير أن يرفع شفة عن شفة بحق، لعلمه بأنه سوف لا يجد قبولاً عنده، وكذلك بعض المدرسين والمدرسات، لا يقبلون الحق لأنه من طالب أو طالبة، ولكن -أيها الإخوة- تأملوا كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يقبل الحق ويرجع إليه ويأخذ به!
في موقعة بدر -التي كانت بين المسلمين والمشركين- لما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- أرض المعركة ومعه أصحابه -رضي الله عنهم- أمر -صلى الله عليه وسلم- بالنزول دون بئر بدر؛ ليكون البئر بينهم وبين المشركين، فجاءه الحباب بن المنذر وقال: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل: أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال الحباب: يا رسول الله: فليس هذا بمنزل، ولكن نتقدم على البئر، فإذا بدأ القتال نشرب ولا يشربون، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أشرت بالرأي، ثم نهض سريعاً وأمر بتحويل الرحال".
فانظر إلى أكمل البشر معرفة، وأرفعهم مكانة، لما تبيّن له الصوابُ من غيرِه رجع إليه، والله -أيها الإخوة- إن بعض الناس ممن بليت الأمة بهم، يتبين لأحدهم الحق، ويعترف به في قرارة نفسه، ولكنه لا يقبله لأنه من غيره، والسبب هو الكبر المتناهي، والبعد عن تعاليم الدين، والجفاء المهلك لنصوص الشرع، لأن الدين يأمر بالانقياد للحق وقبوله، تأمل -يا رعاك الله- أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- من حلَف على شيء فتبين له أن الخير في غير ما حلف عليه أن يعود إلى الخير ويكفّر عن يمينه، فقال في الحديث المتفق عليه: "وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك وائتِ الذي هو خير".
أيها الإخوة المؤمنون: فالرجوع إلى الحق وقبوله وعدم رده، فضيلة من الفضائل، وصفة كريمة، وعادة إسلامية، يجب على المسلم أن يتصف بها، ويحرص عليها، وفي ذلك نجاته في الدنيا والآخرة.
اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يفقهنا في هذا الدين، إنه سميع مجيب، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الإخوة المؤمنون: إن عدم قبول الحق والرجوع إليه، له عواقب وخيمة، ونتائج ضارة، ولعلي أذكر لكم حادثة واحدة فقط، حدثت في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، تبيّن ما أردت؛ ففي صحيح مسلم، أن رجلاً أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله، كما يفعل بعض الناس اليوم، وهذا أمر منهي عنه ولا يجوز في الشرع، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل بيمينك"، فقال الرجل: لا أستطيع، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا استطعت"، ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه، شلّت يده -والعياذ بالله-.
فرد الحق وعدم قبوله أمر خطير، وصفة من صفات الظلمة المعاندين المتكبرين المفسدين في الأرض، لما أرسل الله موسى -عليه السلام- إلى فرعون وقومه، ومعه الآيات البينات، والدلائل الواضحات، ليعلموا صدق رسالته، وصحة نبوته، فلما جاءهم موسى، وعرض عليهم دعوته، وأراهم آياته، جحدوا بها ظاهرًا واعترفوا بها باطنًا عنادًا وظلمًا واستكبارًا، يقول تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [النمل:14]، تبيّن لهم الحق واتضح ولكنهم لم يعترفوا به، ولم ينقادوا له، إنما قابلوه بالعناد، فسماهم الله بالمفسدين وعاقبهم على ذلك.
فيجب على المسلم -مهما كان- الحذر من الاتصاف بصفات المفسدين من أهل الكفر والغدر والعناد، يجب عليه أن يتجرد من عبادة هواه، ويعترف بالحق ويذعن له ويؤثره على ملذاته وشهواته التي تقف عائقًا في سبيل قبوله وإيثاره والاعتراف به.
اسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا، وعملاً خالصًا، وسلامة دائمة، إنه سميع مجيب، اللهم طهر قلوبنا من الكبر، اللهم لا تجعلنا من المتكبرين، اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واحشرنا في زمرة الأتقياء برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا برضاك، اللهم أصلح أحوال أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم من أرادها بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل اللهم تدبيره سببًا لتدميره يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك، وأنت الغني ونحن الفقراء إليك، أن تغيثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وبلادنا بالأمطار، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريعًا، سحًا غدقًا، عاجلاً غير آجل، نافعًا غير ضار.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم تجاوز عنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم اسق بلادك وعبادك وبهائمك، اللهم ارحم شيوخًا ركعًا، وأطفالاً رضعًا، وبهائم رتعًا، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين، اللهم سقيا رحمة لا عذاب ولا هدم ولا غرق: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي