ومن أهمّ دواعي الحوار وجود الخلاف بين النّاس في مختلف الأعصار والأمصار، وهو سنَّة الله في خلقه، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم، وكل ذلك آية من آيات الله، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:119]، أي خلقهم ليستعدَّ كلٌ منهم لشأنٍ وعمل، ويختار بطبعه أمراً وصنعة، ممّا يَسْتَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش...
الحمد لله ربّ العالمين حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده تعالى، وأستغفره وأتوب إليه، وأعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه ومصطفاه من رسله سيدنا محمد رسول الله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، فبلّغ الرسالة، وأَدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجعلنا على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا.
أمّا بعد:
كم يسهل على أعداء الإسلام اتّهام المسلمين بالجمود والتّحجّر ورفض الآخر، والحال أنّ القرآن ناطق تصريحًا وتلميحًا بالدّعوة إلى الحوار مع جميع الأطراف دون إقصاء بما في ذلك إبليس نفسه، لذلك نحتاج إلى تأصيل هذه القيمة الإنسانيّة من خلال كتاب الله وسنّة ورسوله حتّى نفعّلها في حياتنا قولاً وفعلاً. فما هي تجلّيات الحوار في القرآن؟! وما هي آدابه؟!
الحوار: من المُحاورة؛ وهي المُراجعة في الكلام. وجاء في القرآن كذلك لفظ الجدال وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصّواب، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها، والحوار والجدال ذو دلالة واحدة، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة:1]، ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس: مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد من القول والرأي.
ومن أهمّ دواعي الحوار وجود الخلاف بين النّاس في مختلف الأعصار والأمصار، وهو سنَّة الله في خلقه، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم، وكل ذلك آية من آيات الله، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:119]، أي خلقهم ليستعدَّ كلٌ منهم لشأنٍ وعمل، ويختار بطبعه أمراً وصنعة، ممّا يَسْتَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش، فالناس محامل لأمر الله، ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، خلقوا مستعدين للاختلاف والتفرّق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم، وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم، ومن ذلك الإيمان، والطاعة والمعصية، إلاّ أنّ هذا الاختلاف تعمّق إلى الحدّ الذي نعيشه اليوم من حروب طاحنة بين مختلف البلدان والأمم والجهات والاتّجاهات والمعتقدات، خلافات في كلّ المجتمعات حتّى التي عاشت الثّورات، بل لقد تعمّقت واستفحلت وتحوّلت إلى اعتصامات وقطع للطّرقات، وتعطيل للمصالح، حتّى منابر الحوار التي نشهدها في وسائل الإعلام أصبحت تبادلاً للاتّهامات، وسبًّا وشتمًا في كلّ المجالات، حتّى مجلس النوّاب الذي يمثّل مختلف الأحزاب المنتخب من الشّعب لم يسلم من المزايدات والمقاطعات، والقائمة تطول، كلّ ذلك بسبب انعدام الحوار، أو فشل الحوار، أو الجهل بأدبيّات الحوار، وأساليبه؛ لأنّنا لم نتربّ على ذلك، لم يدخل في عاداتنا وتقاليدنا، لم نعشْ به في أسرنا ولا في مدارسنا ولا في شوارعنا، ولا حتّى في منتدياتنا الفكريّة، بل تعلّمنا أسلوب: "اسمع واسكت"، أسلوب العصا الغليظة، وفي الآن نفسه لم نتربّ على قيم الدّين العظيم الذي يفعّل قيم الحرّية والحقّ والمساواة والكرامة الإنسانيّة، فقد نقبلها من الغرب باسم الدّيمقراطيّة، ولكن لا نقبلها من الإسلام بدعوى الرّجعيّة.
أيّها الإخوة الكرام: نحن محتاجون اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى إلى مراجعة حساباتنا، ومواقفنا ومنطلقاتنا الفكريّة والعقائديّة، محتاجون إلى الفهم العميق لهذا الدّين العظيم، دين الإسلام، دين السّلام، دين العزّة والسّؤدد والوئام، وبما أنّنا نتحدّث في هذه الخطبة عن الحوار، نقول: القرآن الكريم قائم بكلّيته على الحوار، فهو بدأ خطاب السّماء إلى الأرض، مع خطاب الأرض إلى السّماء: الإنسان يسأل والمولى يجيب، والمولى يسأل والإنسان يجيب، وهذا الحوار علّمنا الله إيّاه عندما حاور الملائكة في خلق الإنسان، ليس فقط من باب الإعلام ولكن من باب سماع الرّأي المخالف: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، كان من الممكن أن يصدر الأمر وكفى، ولكن القرآن يريدنا أن نتعلّم كيف نحاور حتّى الأقلّ منّا معرفة وتجربة، والعجيب أنّ الحوار شمل أيضًا إبليس، اقرؤوا -إن شئتم- سورة الحجر من الآية 28 إلى الآية 43 ستجدون العجب العجاب في عدل الله وحكمة الله، مقطع قرآنيّ تكرّر فيه لفظ (قَالَ) سبع مرّات، وكلّ يأخذ نصيبه من الكلام حتّى النّهاية، بلا مقاطعات ولا مزايدات، ولا حتّى اتّهامات، وهنا أتكلّم عن الله العزيز الجبّار وهو يحاور إبليس الذي عصى أمره بالسّجود لآدم، وكان من الممكن أن يسلّط عليه عذابه في الإبّان، ولكن الله يريدنا مرّة أخرى أن نتعلّم كيف نحاور أعداءنا الألدّاء، وهذا ما تربّى عليه الأنبياء صفوة الخلق في حوارهم مع أقوامهم بالأسلوب اللّين الحكيم القائم على الصّبر والمصابرة، بنفس هذا الأسلوب دعا إبراهيم النبيّ أباه آزر صانع الأصنام قائلاً: (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً).
ولأن الحاجة إلى الحوار ضرورية وملحة في الدعوة الإسلامية فقد رسم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أروع الأخلاق في الحوار وأحسنها، بل وأسماها وأنبلها؛ لأنها مطلب إلهي أوصى الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم- في كثير من الآيات القرآنية العظيمة، والتي من بينها قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
ولقد اهتم الإسلام بالحوار اهتماماً كبيراً، وذلك لأن الإسلام يرى أن الطبيعة الإنسانية ميالة بطبعها وفطرتها إلى الحوار، أو الجدال كما يطلق عليه القرآن الكريم في وصفه للإنسان: (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)، بل إن صفة الحوار أو الجدال لدى الإنسان في نظر الإسلام تمتد حتى إلى ما بعد الموت، إلى يوم الحساب كما يخبرنا القرآن الكريم في قوله تعالى: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا).
ونظرًا لقيمة الحوار فقد حرص الإسلام على تربية المسلم عليه في كلّ شؤون حياته، بدءًا بتلك العبادة اليوميّة الزكيّة السّامية التي ترتقي به إلى أعلى الدّرجات؛ ليجد المسلم نفسه في مناجاة مع خالقه؛ يخاطبه، ويخاطبه في خشوع وإنابة، فالصّلاة في حقيقتها حوار بين العبد وربّه خاضعة إلى أسمى شروط الأدب، وبالذّات سورة الفاتحة؛ فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الفاتحة: 2]، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي"، لتبنى علاقة حوار من أرقى العلاقات في محراب الصّلاة، وكذلك الشّأن بالنسّبة للدّعاء الذي هو العبادة، والذي تتضمّنه الصّلاة بالضّرورة، ويزاد عليها ليكون في كلّ وقت وفي كلّ مكان وعلى أيّ هيئة، لتبقى الصّلة قائمة بين العبد وربّه، الله الذي يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي)، وكذلك الشّأن بالنّسبة لصلاة الجمعة التي يطلب منك فيها الإنصات بانتباه إلى الإمام؛ لتتعلّم أنّ الحوار بقدر ما هو كلام يقال، فهو كلام يُسمع، لنتعلّم احترام الآخر عندما يتكلّم، ومن لغا فلا جمعة له، حتّى بقولك للمتكلّم: أنصت، فأيّ أدب هذا وأيّ مدرسة هذه، مدرسة النبوّة، مدرسة الإسلام ولكن للأسف لا نكاد نجد لها أثرًا في واقعنا وحواراتنا.
هذا؛ والحمد لله ربّ العالمين.
الخطبة الثّانية:
بسم الله، والحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله، وأشهد ألاّ إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله.
أيّها الإخوة الكرام: بمثل هذا الهدي يجب أن نهتدي لنرتقي، لنصلح واقعنا ومجتمعنا ودنيانا وآخرتنا، لنصلح ذات بيننا ندعو إلى الحوار مع الجميع حتّى مع الأعداء الألدّاء، إن كنت تملك الأدب النبويّ الرّفيع والإيمان القويم الهادي إلى الخير والصّلاح والعلم المناسب لموضوع الحوار، لذلك لا بدّ أن نعلم ما هي أهمّ آداب الحوار عند المسلم:
أولاً: إخلاص النية لله تعالى، وأن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة، ليس المقصود منه الانتصار للنفس، إنما يكون المقصود منه الوصول إلى الحق أو الدعوة إلى الله -عز وجل-.
ثانيًا: فهم نفسية الطرف الآخر، ومعرفة مستواه العلمي، وقدراته الفكرية سواء كان فردًا أم مجموعة؛ ليخاطبهم بحسب ما يفهمون.
ثالثًا: حسن الخطاب وعدم استفزاز وازدراء الغير، فالحوار غير الجدال، واحترام آراء الآخرين أمر مطلوب، ولنا في حوار الأنبياء مع أقوامهم أسوة حسنة، فموسى وهارون أُمرا أن يقولا لفرعون -الذي هو فرعون- قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى.
وفي سورة سبأ يسوق الله لنا أسلوبًا لمخاطبة غير المسلمين حيث يقول في معرض الحوار: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) دون تكفير، أو حتّى تجريح.
رابعًا: حسن الاستماع لأقوال الطرف الآخر، وتفهمها فهمًا صحيحًا، وعدم مقاطعة المتكلم، أو الاعتراض عليه أثناء حديثه.
خامسًا: التراجع عن الخطأ والاعتراف به، فالرجوع إلى الحق فضيلة.
سادسًا: البعد عن اللجج، ورفع الصوت، والفحش في الكلام، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن مسعود: "ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان ولا الفاحش ولا البذيء"، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه قال: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشاً ولا متفحشاً"، وكان يقول: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا".
ثامنًا: البعد عن التنطع في الكلام، والإعجاب بالنفس، وحب الظهور ولفت أنظار الآخرين.
إذًا فالحوار الإيجابي الصحّي هو الحوار الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت، ويرى العقبات ويرى أيضًا إمكانيات التغلب عليها، وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها، وهو الحوار المتكافئ الذي يعطي لكلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي، ويحترم الرأي الآخر، ويعرف حتمية الخلاف في الرأي بين البشر وآداب الخلاف وتقبله.
اللهمّ لك الحمد كلّه، ولك الشّكر كلّه، ولك الفضل كلّه، لك الحمد على نعمة الإيمان، وعلى نعمة الإسلام، ولك الحمد أن جعلتنا من أتباع سيّد الأنام، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وبارك كما تحبّ وترضى.
اللهمّ إنّا نسألك باسمك العظيم الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، وبأسمائك الحسنى كلّها ما علمنا وما لم نعلم، أن تؤلّف بين قلوبنا وتوحّد صفوفنا وتحقّق رغباتنا، وتقضي حوائجنا، وتفرّج كروبنا، وتغفر ذنوبنا، وتستر عيوبنا، وتصلح أهلينا، وذرّياتنا، وتحسن عاقبتنا في الأمور كلّها، وترحمنا برحمتك الواسعة، رحمة تغنينا بها عمّن سواك.
اللهمّ إنّا نسألك عيشة نقيّة، وميتة سويّة ومردًّا غير مخزٍ ولا فاضح، اللهمّ توفّنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصّالحين، غير خزايا ولا مفتونين، برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي