فريضة الإسلام، تحتضر على أيدي طغام، خلافات، ونزاعات، وانتكاسات، فريق مشغول بالصحوجة والتخوين والتكفير والتفجير، وآخر يخرق الصفوف، ويصنع الحتوف، ويُنضِجُ الطبخات على نار النفاق والسبئية الجديدة!! أهكذا تمتهن فريضة الله؟! بعد أن دفع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها حرائر أموالهم وأنفسهم وأعمارهم، إذا هذا الشقاق يصفعهم من كل مكان، وحرب التطاحن تستفحل!!
الحمد لله بارئ النسم، علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، الكريم الأكرم، منعمٍ باسط شكور صبور، ويداه تفيض بالأعطيات، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، إنه بكل شيء عليم.
لو أن هذا البحر كان مدادنا *** نفد المداد وحمـده لا ينـفد
لو أن نبت البيد صار يراعة *** فنيت ورب النبت بـاقٍ يُحمد
سبحانه ربٌ عظيم أوحد
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له..
تعالى الله عن شبه وند *** وعن مثل له وعن الشريك
لا شريك في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته: (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبد الله ورسوله، بلّغ رسالة الله، وجاهد في الله حتى توفاه الله، له أيادٍ علينا سابغةٌ، نعد منها ولا نعددها.
صلى عليه الله ما حيا الحيا *** أرضًا فأخصب محلها والأجدب
يا رب صل على النبي محمد *** مـا فـاه في ذكراه ثغر طيب
ما أورقت ثمرات حبٍّ باسق *** في ذكـره وتـأدب المتأدب
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
أشأم من عطر مَنْشَمِ!! قديمًا قال النابغة الذبياني يمدح رجلين مصلحين من العرب:
تداركتما عبسًا وذبيان بعدما *** تفانوا ودقوا بينهم عطر مَنْشَمِ
قاله النابغة بعد أن أهلكت الحربُ قبيلة عبس وذبيان، في الحرب الشهيرة التي تسمى: حرب داحس والغبراء، والتي كان سببَها: سباقٌ بين فرسين، سبقت إحداهما الأخرى، فلم ترض إحدى القبيلتين بهذا السبق، فدقوا طبول الحرب بينهما أربعين عامًا!!
ويل أمها حربٌ مسعرة الحشى *** والجاهليون الذين تصـرموا
حـرب لأجـل بهيمة قد فاتها *** سبق فيا بشرى هناك تبهَّموا
أشأم من عطر منشم!! ومنشم هذه امرأة في الجاهلية كانت تبيع العطر في الحروب، فلقد روت كتب الأمثال أن هذه المرأة، كانت عطارة في الجاهلية، فإذا أراد أحد الحيين من العرب أن يقتتلا، غمسوا أيديهم في هذا العطر، ثم أعلنوا الحرب بينهم، ثم إذا حميت الحرب بينهم، غمسوا أيديهم فيها أخرى، فتشتد الحرب بينهم أعظم ما تكون، فضرب الشؤم بهذا العطر وبهذه العطارة.
أشأم من عطر منشم!! حتى العطر صار سببًا في اشتداد الحروب والشقاقات!! متى كانت الحروب تشتعل من أجل عطر!! أللحروب وضعت هذه الطيوب!! بدل أن يكون هذا الجهاد في سبيل الله سببًا لتجمع الأمة، ومعقدًا عظيمًا من معاقد نصرها وعزها، يكون الجهاد سببًا في فرقتها!!
العطر يجمع القلوب ولا يفرقها، فكيف كان عطر الأمة الأكبر -وهو الجهاد في سبيل الله- سببًا في فرقتها، وانكسار صولتها!!
ما كنت أعلم وأنا أفكر في هذه الفتنة الحيزبون أن يرد هذا المَثَل في حديثي عن الجهاد في سبيل الله في هذا الزمن الحاضر.
أطيبٌ يٌشعل حربًا؟! أعطرٌ يشعل فتنة؟! أجهاد ضد عدو واحدٍ يولّد فرقة، لحا الله هذه الصبيانيات التي قذفتها علينا الجاهلية المعاصرة، بعد أن كنا نسمعها عن الجاهلية القديمة.
نعم لقد كنا نسمع -ونحن صغار- أن العطر إذا أساء استعماله الصبي فشربه فإنه يؤدي به إلى الهلاك، وكذلك الجهاد في سبيل الله إذا كان موردًا لتحكم السذَّج حوّلوه من جهاد إلى إجهاد، ومن إثخان في أعداء إلى الله إلى ولوغ بفريضة الله.
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن *** ترد فوهة بارودي إليَّ يدي
فريضة الله حين تنادي العابثين بها: ما كنت أحسب أن:
أبنـاءً تخذتهـم دروعا *** فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهامًا صائبات *** فكانوها ولكن في فؤادي
فريضة الله حين تقول للجميع وللعابثين:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي
فريضة الله حين تقول للجميع وللعابثين بها:
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني *** ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فـلا تكلـوني للشقاق فإنني *** أخاف عليكم أن تحين وفاتي
فريضة الإسلام، تحتضر على أيدي طغام، خلافات، ونزاعات، وانتكاسات، فريق مشغول بالصحوجة والتخوين والتكفير والتفجير، وآخر يخرق الصفوف، ويصنع الحتوف، ويُنضِجُ الطبخات على نار النفاق والسبئية الجديدة!!
أهكذا تمتهن فريضة الله؟! بعد أن دفع المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها حرائر أموالهم وأنفسهم وأعمارهم، إذا هذا الشقاق يصفعهم من كل مكان، وحرب التطاحن تستفحل!!
لقد خشيت أن يرد مثل جديد يكتبه أبناء هذه الأمة وهو: أشأم من جهاد في سبيل الله!! بعد أن كان: أشام من عطر منشم!!
نحزن للجراح الحمر في أوطاننا *** للبلايا السود للمعترك
كلما قام سوق الجهاد في سبيل الله، واستبشرت ثغور الإسلام، وكلما استيقظ المسلمون على صيحة نذير ونفير، إذ بأعلام الجهاد في سبيل الله تنتكس في سبيل شتات مذموم.
لسان حال الأمم حولنا:
تجمعنا الجراح وذي المآسي *** فأحبب بالجراح وبالمآسي
حتى قال أحد المسؤولين في الإدارة الأمريكية: "لا تجتمع أمريكا على نفسها ولا يتوحد صفها إلا إذا شعرت بالخطر الخارجي".
أما لسان حال هذه الأمة فهو:
تفـرقنا المـآسي معولات *** ويشذبنا من بعدهن التفرق
ولم أرَ في الأعادي قبل جرحًا *** يجمعهم ويتركنا شتاتًا
والله ثم والله ثم والله:
أحلف بالمهيمن صادقًا *** لولا تناحر أمتي لم تُهْزَمِ
يا أجيال الأمة الحزينة: لكم الله في بعيد يتجهمكم، وعدوٍ يُملَّكُ أمركُم، وصديقٍ يسكب النار على جراحاتكم، ومجاهدين يجالد بعضهم بعضًا في سبيل تحقيق أمانيه، أو أمنيات الغرب الكافر، والشرق الفاجر.
يا أجيال الأمة الحزينة: مجاهدون!! أهم مجاهدون؟!
إن المجاهد من يصون رصاصه *** من قتل إخوته تقي عابد
ليس المجاهد من يخوِّن مسلمًا *** ويثير زوبعة الهوى ويعاند
فمن المجاهد إذًا؟!
قالوا المجاهد قلت أعظم سيرة *** للمرء فيـنا أن يقـال مجـاهد
إن الجهاد سمو نفـس حـرة *** وعلـو همتهـا وعقل راشـد
إن الجهاد هو الشمـوخ بعينه *** تسمو به في العالمين مقـاصد
هو ذروة لسـنام ديـن محمد *** وعليه من آي الكتاب شواهد
إن المجاهـد شامـخ بيقينـه *** شهم إلى قمـم المعـالي صاعد
إن المجاهد من يصون رصاصه *** من قتـل إخوتـه تقي عابـد
هو من يصون لسانه متعـففًا *** هو في مواجـهة العـدو يجالد
ليس المجاهد من يكفر مسلمًا *** ويثير زوبعـة الهـوى ويعانـد
إن المجـاهـد ليـن لرفـاقه *** صعب على الباغي هزبر صامد
لغة الجهـاد فصيحة يسمو بها *** لفظ وفيهـا للوفـاء روافـد
وبها لمن رفـع الجهـاد مقامَه *** فهو المرابط في الثغور الساجد
الجهاد في سبيل الله.. سألت أحدهم: ما شروط الصلاة؟! فقال: تسعة؟! قلت: فكم أركانها؟! قال: أربعة عشر ركنًا، قلت: فما شروط الجهاد في سبيل الله؟! قال: أوللجهاد شروط؟! ما هو إلا حِمَالة رشاش تقول به على أعداء الله هكذا حتى تطير رؤوسهم هكذا!! قلت: هكذا إذًا؟!
أستغفر الله لي وله ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
يهدم العلم نصف عالم، ويهدم الجهاد نصف مجاهد، ويهدم الفريضة الآخذون لها بضعف، المستهترون المستعجلون المستبطئون!!
فما شروط الجهاد؟!
سؤال كهذا، يحتاج إلى إحكام علمي، لا تحكم عاطفي، فما شروط الجهاد؟!
ليس الكلام عن شروطه اللازمة له من الإسلام والبلوغ والعقل والذكورة والقدرة والسلامة من العجز، بل في شروطه الأصلية اللازمة والمتعدية.
ثم أما بعد:
جاء أعرابي إلى نبي الله -عليه الصلاة والسلام- فقال: يا رسول الله: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانُه؟! فمَنْ في سبيل الله؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله".
من أعظم شروط الجهاد: الإخلاص، ولن يقبلَ اللهُ من الأعمال إلا طيبًا، وكلما اقترب المجاهد من الإخلاص، انُتزعت من قلبه الحظوظ والشهوات، وصار مراد الله في هذه الفريضة مقدمًا على مراد نفسه وحظوظها، حتى صار من أجل صفات المجاهدين في سبيل الله: أنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، وما أوتوا هذه الخصلةَ الجليلةَ إلا أن الله -عزّ وجل- قال قبلها: يحبهم ويحبونه، فإذا استحكم حب الله والإخلاصُ له صار حفيًا بالجهاد الصادق الذي عقباه النصر -بإذن الله-.
الشرط الثاني: التصافي بين المؤمنين، أما هذه فقد كانت عنوانًا يتزيا به المجاهدون في سبيل الله، حتى إن الله -عزّ وجل- ذكرها في أكثر من موضع في كتابه العزيز، فقال -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، وقال -عز وجل-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ).
لن تجد عند المجاهدين الصادقين إلا الصفاء والحب والمودة بينهم، ولن تجد إلا القربى والوصل بالإحسان، والله ما عرفت الأمة من قديمها إلى حديثها تصافيًا وودًا بين أفرادها كما رأته بين المجاهدين في سبيل الله، على اختلاف طبقاتهم وطرائقهم وأماكنهم، حتى كان بعضهم يصارح إخوانه بالتكفل بدينه وعياله بعد وفاته ويقول: إذا استوفاك الله في أرض المعركة، فنم هانئ النعمى ونم هانئ الرضا، وسافر إلى الرحمن مستبشر البال، فدينك ديني وعيالك عيالي.
أرأيتم قلبًا أخويًا يستودع إخوان الميدان ويكاتبهم وعدًا موثوقًا، والشرط: أخوة رحمن!! وليس عجيبًا ما روته كتب السير عن مجاهدين سقطوا في أرض معركة وهم في الرمق الأخير، كلهم يؤثر بالزاد لأخيه.
روى حذيفة العدوي قال: "انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، وذلك بعد أن انتهت معركة اليرموك، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، ومسحت به وجهه، ثم وصلت لابن عمي فإذا أنا به، قلت له: أسقيك يا ابن عم -وهو جريح يموت-، فأجاب: أن نعم، فإذا رجل عنده يقول: آه، إنني عطشان، فأشار ابن عمه إليه: أن انتقل إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فقال: نعم، ولما أردت أن أسقيه، سمع به آخر فقال: آه، إنني عطشان، فأشار هشام أن انطلق به إليه، -أي للثالث-، فجئته فإذا هو قد مات، ثم رجعت لهشام، فإذا هو قد مات، ثم رجعت لابن عمي فإذا هو قد مات، رحمة الله عليهم أجمعين".
يا أجمل روح تتلقى الإيثار مع الإيثار، يا أجمل جسد يتعطر بالخلق السامي والإكبار، رضي الله عنهم أجمعين.
شتان بين الراكبينَ ظهور بغي، والممتطين إلى العلا الخيل العتاقَ، يا من جعلتم الرشاش يبكي وهو يرمي إخوانكم، ويرى الدم الغالي مراقًا، ويرى البغضاء تسري بين قوم جاهدوا إخوانهم بغيًا ونفاقًا، أوما كفانا ما نواجه من عدو جلى المصائب نحو أمتنا وساقَ.
يا ويح أمتنا الحبيبة أرهقتها *** غدرات من قطعوا عن المجد السياقَ
شتان بين الراكبين ظهور بغي *** والممتطين إلى العلا الخيل العتاقَ
الشرط الثالث: عدم الاستعجال؛ (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)، (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً). إن من إفساد الجهاد: استعجال النصر به، وما كانت العجلة في شيء إلا شانتها، وإذا كان نبي الإسلام قد ضمن استجابة الدعاء ما لم يعجل الداعي: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل"، فما بالك بفريضة عظيمة: العجلة في استجلابها يعني موتها في الطريق، إليكم بعضًا من مظاهر الاستعجال القديم:
يقول الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً). كانوا يسألونه -عليه الصلاة والسلام- القتال والجهاد مستعجلين بطلبه، فلما فرض عليهم الجهاد، كانوا أول الناكصين عنه. يقول بعض أهل العلم: "وتلك لعمر الله عاقبة العجلة، فقد امتحنوا بما استعجلوا به".
جاء خباب بن الأرت -رضي الله عنه- يومًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما روى البخاري في صحيحه من كتاب المناقب في باب علامات النبوة في الإسلام، يشكو إلى النبي حالته التي تشبه حالتنا الآن، وهو صحابي، ويشكو إلى رسول الله الذي يأتيه خبر السماء، يقول خباب -رضي الله عنه-: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟! قال: فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا ثم قال: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون".
وقد يكون مع المستعجل الزلل..
النصر يأتي قدَرًا على مهل..
والمرء مطبوع على حب العجل..
حتى رأينا من مظاهر العجلة أقوامًا يستعجلون إقامة الخلافة، وإنشاء الدولة قبل أن يحين أمرها، وقبل أن تستحكم السنن الجهادية مع السنن الكونية، مما كان له أثرُه الكبير في إعاقة مسيرة الجهاد.
النصر يأتي قدرًا على مهل..
والمرء مطبوع على حب العجل..
الشرط الرابع: قبول مراقبة الأمة على الجهاد، فكلما كان الجهاد في سبيل الله ضحيةً لتجربة أفراد محددين كان عرضة لسقوطه، الجهاد الذي لا يراقبه علماء الأمة الصادقون، ولا يصححون مسيرته، ولا يقومون ما اعوج منه، ولا يصلحون فساده، فهو خداج خداج، وكلما كان المجاهدون يردون من حوض أهل العلم، ويقبلون ما تواتر عنهم من نقد وإصلاح بحب وبطيب نفس كان حريًا للجهاد أن يستوي على سوقه، فالجهاد فريضة الأمة كلها، والشورى فريضة خواصها.
وصايا أخيرة:
لا تحتكر الحق، فلن يُضمن حقٌ إلا ما ضمنه الله ورسوله، وأما المسائل الفرعية، فهي عرضة للأخذ والرد والقبول، وليست مما يجب أن ينصبَ له صراط المفاصلة، ومن أسف على بعض من أحببناهم: أن شعارهم كشعار الطواغيت في كل مكان: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، حتى وُلدت من هذه الطامة طوام عظيمة: من لم يكن معي فهو ضدي، ومن لم يكن مع مشروعي في الجهاد فهو مع مشروع أعدائي، وكل من لم ينضوِ تحت لوائي فهو خائن ومدبر ومنافق، وكل من لم يعقد ولاءه لنا، فليس له إلا السيف.
الوصية الثانية: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)؛ ليس من نصر الله الانشغال بالأمر المفضول عن الأمر الفاضل، وإن من أعظم المقاصد وأولى الواجبات مدافعة الصائل النصيري ورد غلوائه وكسر تقدمه، أما التشاغل باستجلاب الولاءات، والمكوث في الأرض بلا قتال ومدافعة، فخدعة قعود ألبسها الشيطان لبوس جهاد.
ليس من نصر الله إطلاق اللسان في تكفير بعض المجاهدين أو العلماء أو تخوينهم، إما بظنون عرجاء أو بوقائع ثابتة، وأحداث صحيحة، لكنها لا تصل إلى أعمال كفر، ليس من نصر الله الاسترسال في التكفير للمخالفين دون تثبت وبينة، وأشد منه حين يخلع على التوحيد خلعة التوحيد، فيظن المتلقي أن من تحقيق التوحيد تكفير المسلمين.
ليس من نصر الله استباحة دماء المسلمين بأمر الأمير المجرد عن الموجب للقتل مما فيه التنازع بين المجاهدين، فإن عصمة دم المسلم ثابتة بيقين لا ينتقل عنها إلا بيقين، بل إن التغليظ النبوي جاء بالزجر عن سفك دماء المسلمين بما لا يكاد أن تجده في جرم دون الشرك بالله، بل سماه النبي كفرًا: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وهذا الذي جعل أكثر الصحابة يجتنب القتال مع علي -رضي الله عنه-، مع تسليمهم بفضيلة علي، ومع وجود النص الآمر بقتال الطائفة التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فلم يقاتل مع علي منهم في تلك الفتنة إلا أربعون صحابيًا، وأما جماهير الصحابة كسعد وأسامة وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم فاعتزلوا القتال وكفوا أيديهم، قال شيخ الإسلام: "وهذا أرجح الأفعال من الصحابة".
طوبى لمن كان له سيف كالذي تمنى سعد -رضي الله عنه- حين قال لمن دعاه للقتال: "ائتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر".
طوبى لمن خرج من هذه الغمة كفافًا، لا تطلبه ذمة مسلم بشيء، طوبى لمن أرهق سيفه في أعداء الله من النصيرية والرافضة، ولم يرتد سيفه لمسلم، طوبى لمن انجلت هذه الفتنة عنه وقد كف لسانه، ولم يهدِ أجره لأحد، طوبى لألسن متوضئة لا تقول إلا خيرًا، وتسكت عن شر، وعن متشابه القول والفعل، طوبى لمن سلم الله سيفه عن هذه الدماء، وشفتيه عن الفري والافتراء.
اللهم وحد صفوف إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم وحد صفهم، واجمع كلمتهم على البر والتقوى، وضم شملهم، واحفظ بيضتهم، واجعلهم أذلة على إخوانهم، أعزة على أعدائهم.
اللهم أرنا وإياهم الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا وإياهم الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل.
اللهم وأقر عيوننا وعيونهم بنصر عاجل، اللهم انصرنا بنصرك وأيدنا بتأييدك، واجعل الدائرة على أعداء الإسلام.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي