إن الإحساس بالجمال جزء من خلقة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وقد بيّن العلماء أن التذوق الجمالي من الحاجات الأساسية الغريزية للإنسان، وعدم إشباع هذه الحاجة يؤدي إلى نقص في النمو العقلي والإدراكي والوجداني، وعدم الإحساس بالجمال والتأثر به يعني عدم اكتمال النضج الانفعالي لوجود مرض في القلب يجعله عاجزاً عن الاستمتاع بجمال مخلوقات الله وبديع صنعه في الكون...
أما بعد:
إن الإحساس بالجمال جزء من خلقة الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها، وقد بيّن العلماء أن التذوق الجمالي من الحاجات الأساسية الغريزية للإنسان، وعدم إشباع هذه الحاجة يؤدي إلى نقص في النمو العقلي والإدراكي والوجداني، وعدم الإحساس بالجمال والتأثر به يعني عدم اكتمال النضج الانفعالي لوجود مرض في القلب يجعله عاجزاً عن الاستمتاع بجمال مخلوقات الله وبديع صنعه في الكون، بل ومعرفة الله سبحانه أيضاً، فإن معرفة الله بجماله من أعز أنواع المعرفة: وهي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه، ليس كمثله شيء في سائر صفاته، ولو فرضت الخلق كلهم على أجملهم صورة، وكلهم على تلك الصورة ونسبت جمالهم الظاهر والباطن إلى جمال الرب سبحانه، لكان أقل نسبة من سراج ضعيف إلى قرص الشمس، ويكفي في جماله سبحانه أنه لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته، فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال؟!
ويكفي في جماله أنه له العزة جميعاً والجود كله والإحسان كله والعلم كله والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت الظلمات كما قال النبي في دعاء الطائف: "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة"، وقال عبد الله بن مسعود: "ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه"، فهو سبحانه نور السماوات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره، ومن أسمائه الحسنى: الجميل.
بل إن أفضل ما يعطاه أهل الجنة رضوان الله والنظر إلى وجهه الكريم الجميل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يقول لأهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟! فيقولون: وما لنا لا نرضى -يا رب- وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقولون: يا رب: وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً".
وأعظم النعيم النظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم؛ يقول ابن الأثير: "رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله منها ما نرجو".
أيها الإخوة: إن المؤمن عميق الإحساس بالجمال في الكون والحياة.
والإنسان الذي ينظر في القرآن يرى بوضوح أنه يريد أن يغرس في عقل كل مؤمن وقلبه الشعور بالجمال المبثوث في أجزاء الكون من فوقه ومن تحته ومن حوله، في السماء والأرض والنبات والحيوان والإنسان، ففي جمال السماء يقرأ قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) [ق: 6]، (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) [الحجر:16].
وفي جمال الأرض وبنائها يقرأ: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق: 7].
وفي جمال الحيوان يقرأ عن الأنعام: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل: 6].
وفي جمال الإنسان يقرأ: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر : 64]، (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) [الانفطار: 7 -8].
لذا لما كان الجمال من حيث هو محبوباً للنفوس معظماً في القلوب؛ لم يبعث الله نبياً إلا جميل الصورة حسن الوجه كريم الحسب حسن الصوت، كذا قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وكان النبي أجمل خلق الله وأحسنهم وجهاً كما قال البراء بن عازب، وقد سئل: أكان وجه رسول الله مثل السيف؟! قال: "لا، بل مثل القمر". وفي صفته -صلى الله عليه وسلم- كأن الشمس تجري في وجهه، يقول واصفه: لم أر قبله ولا بعده مثله، كذلكم كان يوسف -عليه السلام-، وقد رآه -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء وقد أعطي شطر الحسن.
ومع جماله الطبيعي فقد كان -صلى الله عليه وسلم- مهتماً بمظهره أيضاً، ويذكر عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله كان ينتظره نفر من أصحابه على الباب، فجعل ينظر في الماء ويسوي شعره ولحيته ثم خرج إليهم، فقلت: يا رسول الله: وأنت تفعل هذا؟! قال: "نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال" ولا يظن أحد أن تجميل الظاهر وتزيينه لون من ألوان الكبر، كما ظن ذلك أحد الصحابة حين سمع رسول الله وهو يقول: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال الرجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال رسول الله: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الناس وغمط الحق".
وكان رسول الله يكره أن يرى أحد أتباعه بمظهر مزرٍ، وكان يقول: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده حسناً" وكان يقول لأصحابه -وقد أشعثهم السفر-: "إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش".
وكان يأمر بالتجمل والتزين للعبادة عملاً بقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد) [الأعراف: 31]، وكذلك في العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة في إطار قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 228]، فيأتي التجمل والتزين من كل طرف حتى يتحبب إلى الطرف الآخر، ولذا كان عبد الله بن العباس يقول: "إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي".
ولا ريب أن ألوان الجمال السابقة لا تكتمل ولا تتم إلا بجمال الصوت؛ فليس يخفى ما للصوت من تأثير على القلوب، فحين نسمع تلاوة القرآن أو نسمع إنشاداً أو إلقاءً من صوت جميل يكون تأثرنا أشد ما لو سمعنا نفس المقاطع عن صوت آخر؛ لذا كان رسول الله يقول: "زينوا القرآن بأصواتكم"، وكان يقول: "الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً"، وكان يقدم بلالاً على غيره من الصحابة للأذان لأنه أندى صوتاً.
بل كان يدعو أيضاً إلى جمال الأسماء؛ فهي من أنواع الجمال الموجبة للمحبة، والاسم الحسن مكمّل للشكل الحسن ومكمّل للصوت الحسن؛ يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم، فأحسنوا أسماءكم".
ومع اهتمام الإسلام بالجمال الظاهر للإنسان فإن هذا الجمال الظاهري للإنسان لا يغني عنه شيئاً عند الله، إذا كان قبيح الباطن فجمال الباطن أهم من جمال الظاهر.
يقول ابن تيمية: "والجمال الذي للخُلُق من العلم والإيمان والتقوى أعظم من الجمال الذي للخَلق وهو الصورة الظاهرة".
وقال ابن القيم: "اعلم أن الجمال ينقسم إلى قسمين: ظاهر وباطن، فالجمال الباطن هو المحبوب لذاته، وهو جمال العلم والعقل والجود والعفة والشجاعة، وهذا الجمال الباطن وهو محل نظر الله من عبده وموضع محبته كما قال رسول الله: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وهذا الجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة وإن لم تكن ذات جمال، فيكسو صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتسبت روحه من تلك الصفات، والجمال الظاهر نعمة من الله على عبده، فإن شكره بتقواه زاده جمالاً على جماله، وإن استعمل جماله في معاصيه سبحانه قلبه له شيئاً ظاهراً في الدنيا قبل الآخرة، فتعود تلك المحاسن وحشة وقبحاً، وينفر عنه كل من رآه، فحسن الباطن يعلو قبح الظاهر، وقبح والباطن يعلو جمال الظاهر ويستره".
فالاهتمام بالمظهر لا يلغي الاهتمام بالمخبر، والجمال الباطن الذي يتمثل في طهارة القلب وتنقية السريرة وتزكية النفس وحسن الخلق هو في الإسلام الجوهر والمحك؛ لذا يقول رسول الله: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً". ولم يقل: أحسنهم خَلقاً.
وكما قال الشاعر:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه *** فكل رداء يرتديه جميل
أقول ما تستمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
يقول الله -سبحانه وتعالى- كما حكى عن الشيطان: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر: 39 -40]، فالشيطان يزين، ولأنه يزين فقد غيّر للناس موازين الزينة والجمال الحقيقيين، فصور القبيح جميلاً، والجميل قبيحاً، فلبس على كثير من الرجال والنساء موازين الجمال، فصار كثير منهم لا يهتم إلا بجماله الظاهري فقط، وصار همه -رجلاً كان أم امرأة- أن يكون جميلاً في مظهره حتى لو كان قبيحاً في باطنه، متناسياً أن ذلك من صفات المنافقين الذين قال الله عنهم: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) [المنافقون:4].
فترى بعض الرجال لا هم لهم إلا العناية بجمالهم الظاهري فقط، ولو كان ذلك في حدود المباح لكان الأمر مقبولاً، لكنهم يتجاوزن المباح إلى المحرم، فترى الرجل يجر ثوبه في الأرض جراً مع أنه يعلم ما جاوز الكعبين فهو حرام، بل إن بعض شبابنا صار يتبع ويقلد الغرب في صرعاته بالشعر ولبس السلاسل الذهبية والملونة والملابس الضيقة، بل إن بعضهم صار يقلد النساء في تسريحات الشعر وطريقة الكلام والحديث.
وترى المرأة تجري وراء الموضات والتقليعات وإجراء عمليات تجميل دون حاجة لها أو ضرورة، حتى إن إحدى الكاتبات تقول: "صرنا نهتم بالمظاهر السطحية فقط، مهووسون بالماركات، مهووسون بالشعر، بحواجبنا، بأنوفنا، مهووسون بمكياج عيوننا، مهووسون حتى بتكبير صدورنا، لا يهم إن كان انفجار كيس السيلكون في الصدر المكبر سيسبب سرطاناً، لا يهم إن كانت الأخطاء الجراحية تؤدي لتشوهات أو موت، نحن نريد أن نكون نسخة واحدة من نفس المشكل، كأنما خرجنا من مصنع باربي: عيون كبيرة، أنف واقف، وحواجب مصطنعة، وشعر أعياه السشوار".
بل لقد وصل الأمر ببعض النساء والفتيات إلى تقليد الرجال في الملابس والكلام، بل واتخاذ الحبيبات من جنسهن، يقول أحد العقلاء في الغرب: "لقد اختلط علينا الأمر في بعض المجتمعات المحافظة، فلا ندري أحياناً هل القادمون من بعيد نسوان أو رجال، فجميعهم شعورهم قصيرة، ويرتدون السويتر والبنطلون القصير ويدخنون، وسبحان من قلب رجال العصر إلى نساء ونساءهم إلى رجال".
وفعلاً فماذا بقي للمرأة من الجمال وقد ذهبت الرجولة والمرأة برقتها وأنوثتها؟!
وماذا بقي للرجل من الجمال وهو يحاول التثني وتقليد النساء؟!
إن مقياس الجمال للرجل يتلاءم مع دوره في الحياة، وهو ينبع من خلال رجولته وإرادته من خلال هيبته وقوته وأمانته، نعم هذه الخلال هي التي تتناسق مع طبيعة جسمه ونفسيته وتكوينه، أما أن يكون الرجل ناعماً راقصاً متميعاً ملكاً للجمال فما الذي أبقاه للمرأة بعد ذلك؟!
وإن مقياس الجمال الحقيقي في المرأة هو حياؤها، وقد سجل القرآن الكريم هذه الصفة للمرأة على اعتبارها صفة جمالية رقيقة فقال تعالى في وصف الحور العين في الجنة: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) [الصافات: 48]، أي قصرن بصرهن على أزواجهن، فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن، وذلك لحيائهن مع أنهن في قمة الجمال والحسن، كما قال عنهن القرآن: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [الرحمن: 58]، وأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أول من يدخل الجنة لكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، ومع ذلك أخبر أنهن يتميزن بالحياء الشديد: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ).
فأين النساء المتبرجات في الأسواق والحدائق والملاهي وغيرها عن صفة الحياء؟! أين الجميلات في هذا الزمان من الراقصات والممثلات والمذيعات وعارضات الأزياء وملكات الجمال المتجردات من الحياء؟! عن هذه الجمالية الرفيعة، لقد التقت فتاة جميلة عاقلة مع فتاة جميلة، دخلت مسابقة ملكات الجمال فقالت هذه لتلك بغرور ساذج: لقد صرت مشهورة تنشر الصحف صوري، وتنقل وكالات الأنباء أخباري، فقالت الأخرى: "إن اللوحة القيمة التي لم تلمسها الأيدي أغلى ثمناً وأبلغ لفتاً للأنظار من التي لمستها الأيدي حتى غيرت روعة ألوانها الطبيعية".
نعم، ملكات الجمال ينسين بعد أيام، ولكن العالمات والعفيفات والمخترعات والأمهات اللاتي ولدن عظماء التاريخ سيظل يذكرهن التاريخ ما بقي إنسان يقرأ التاريخ، إن جمال الرجل أن يكون رجلاً، وإن جمال المرأة أن تكون امرأة، وهذا الأمر ما أولاه الإسلام عنايته الكبيرة، فقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المخنثين من الرجال والمسترجلات من النساء"، وقال: "أخرجوهم من بيوتكم".
نعم، إنها الوقاية، فأمثال هؤلاء لا يصلحون للصداقة البريئة، نعم، إنها الوقاية من المرض قبل وقوعه، فهل يفهم الناس ذلك؟! نرجو هذا ونتمناه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي