صفات العقلاء والحمقى

صلاح بن محمد البدير
عناصر الخطبة
  1. العقلُ موطنُ التفكير ومناط التكليف .
  2. معنى العقل .
  3. المشركون أقل الناس عقلاً .
  4. العاقل من عبد الله ولم يشرك به شيئًا .
  5. معنى الحمق وعلاماته .

اقتباس

العقلُ موطنُ التفكير، ومحلُّ التدبير، ومناطُ التكليف، وعلامةُ التشريف، وسُمِّي العقلُ عقلاً؛ لأنه يمنعُ صاحِبَه عن التورُّط في المهالِك، ويحبِسُه عن ذَميمِ القولِ والفعلِ، ويحجُرُه من التهافُتِ فيما لا ينبَغي. وما اكتسَبَ المرءُ مثلَ عقلٍ يهدِيه إلى هُدى، أو يرُدُّه عن ردَى. وقال ابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: "والناسُ كلُّهم صِبيانُ العقول إلا من بلغَ مبلغَ الرِّجال العُقلاء الألِبَّاء، وأدركَ الحقَّ علمًا وعملاً ومعرفةً".

الخطبة الأولى:

الحمد لله منَّ على من شاءَ بنعمة العقلِ وأكرَم، أحمدُه على ما أسبغَ وأجزلَ وأنعمَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تهدِي إلى الطريقِ الأقوَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه المخصوصُ بجوامِع الكلِم وبدائِع الحِكَم، وودائِع العلمِ والحِلمِ والكرَم، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ وسلَّم.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

أيها المسلمون: العقلُ موطنُ التفكير، ومحلُّ التدبير، ومناطُ التكليف، وعلامةُ التشريف، وسُمِّي العقلُ عقلاً؛ لأنه يمنعُ صاحِبَه عن التورُّط في المهالِك، ويحبِسُه عن ذَميمِ القولِ والفعلِ، ويحجُرُه من التهافُتِ فيما لا ينبَغي. وما اكتسَبَ المرءُ مثلَ عقلٍ يهدِيه إلى هُدى، أو يرُدُّه عن ردَى.

وأصلُ الرجُلِ عقلُه، وحسَبُه دينُه، ومروءَتُه خُلُقُه، وقيل: العقلُ أفضلُ مرجُوٍّ، والجهلُ أنكَى عدوٍّ.

وقيل: خيرُ المواهِبِ العقلُ، وشر المصائِبِ الحُمقُ والجهلُ.

وآيةُ العقلِ سُرعة الفهم، وقُوتُه العلم، ومِدادُه طولُ التجارب، ومِلاكُه الشرع، ونورُه الدين. والعقلُ لا يهتدِي إلا بالشرع، والشرعُ لا يُدرَك وتُفهَم مقاصِدُه إلا بالعقل.

لا يستقِلُّ العقلُ دون هدايةٍ *** بالوحيِ تأصيلاً ولا تفصيلاً

وإذا النبوَّةُ لم ينَلْكَ ضياؤُها *** فالعقلُ لا يهدِيك قطُّ سبيلاً

نورُ النبوةِ مثلُ الشمسِ للـ *** ـعينِ البصيرة فاتخِذْه دليلاً

طرقُ الهُدى مسدودةٌ إلا على *** من أمَّ هذا الوحيَ والتنزيلاً

فإذا عدلتَ عن الطريقِ تعمُّدًا *** فاعلَم بأنك ما أردت وُصولاً

يا طالِبًا دركَ الهُدى بالعقلِ دو *** ن النقلِ لن تلقَى بذاك دليلاً

كم رامَ قبلَك ذاك من مُتلذِّذٍ *** حيرانَ عاشَ مدَى الزمانِ جَهولاً

ما زالَت الشُّبُهاتُ تغزُو قلبَه *** حتى تشـحَّط بينهـنَّ قتيـلاً

وقال سُفيانُ بن عُيينة -رحمه الله تعالى-: "ليس العاقلُ الذي يعرِفُ الخيرَ والشرَّ، ولكنَّ العاقلَ الذي يعرفُ الخيرَ فيتَّبِعه، ويعرفُ الشرَّ فيجتنِبُه".

وقِيلَ لرجُلٍ بلغ عشرين ومائة سنة: ما العقل؟! فقال: "أن يغلِبَ حلمُك جهلَك وهواك".

وسُئِل أعرابيٌّ: أيُّ منافع العقل أعظم؟! قال: "اجتِنابُ الذنوب".

وقال أبو حاتم: "أفضلُ ذوِي العقول منزلةً أدوَمُهم لنفسِه مُحاسبةً".

ومن كمُلَ عقلُه، وتناهَى فهمُه، وقوِيَ تمييزُه، كان لربِّه مُطيعًا، وإليه مُنيبًا، وبقدرِ عقلِه تكون طاعتُه وعبادتُه، قال -جلَّ في عُلاه-: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 7].

فأخبرَ -جلَّ ثناؤُه- أن المواعِظ والذِّكرى لا تنفعُ إلا أُولِي الحِجَا والحُلوم، وأهلَ النُّهى والعقول.

والكفرةُ والمُشرِكون أقلُّ الناس عقلاً وسمعًا ونظرًا؛ لأنهم طرَحوا ما فيه حياتُهم وتعالَوا على ما فيه نجاتُهم، قال الفَوجُ الذي أُلقِيَ في النار لخزَنَة جهنَّم تحسُّرًا وتندُّمًا: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10، 11].

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في معنى الآية: "لو كنا نسمعُ الهُدى أو نعقِلُه، أو لو كنا نسمعُ سماعَ من يعِي ويُفكِّر، أو نعقِلُ عقلَ من يُميِّز وينظُر ما كنا في أصحابِ السعير".

ودلَّ هذا على أن الكافِر لم يُعطَ من العقلِ شيئًا.

وقيل لرجُلٍ وصفَ نصرانيًّا بالعقلِ: "مَهْ؛ إنما العاقلُ من وحَّد اللهَ وعمِلَ بطاعتِه".

قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].

قال ابن كثيرٍ -رحمه الله تعالى-: "فليس العَمى عمَى البصر، وإنما العمَى عمَى البصيرة، وإن كانت القوةُ الباصِرةُ سليمةً فإنها لا تنفُذُ إلى العِبَر، ولا تدرِي ما الخبرُ".

وقال ابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: "والناسُ كلُّهم صِبيانُ العقول إلا من بلغَ مبلغَ الرِّجال العُقلاء الألِبَّاء، وأدركَ الحقَّ علمًا وعملاً ومعرفةً".

فلا عاقِلَ على الحقيقةِ إلا من عبَدَ اللهَ ولم يُشرِك به شيئًا، وفطَمَ نفسَه عن الشهواتِ، ورفعَها عن حَضيض أهل الفِسقِ والسَّفَه والطَّيشِ، ونزَّهَها عن دنَسِ أهل الجهل والمآثِم والمُحرَّمات، وأقبلَ على مولاه، واستغفرَ مما جنَاه، وتابَ وأناب: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر: 18].

اللهم ألهِمنا رُشدَنا، اللهم ألهِمنا رُشدَنا، وقِنا شرَّ نفوسِنا، وشرَّ الشيطان الرجيم، يا كريم يا عظيم يا رحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على عظيم نعمائِه، والشكرُ له على كريم عطائِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يفتقِرُ من كفَاه، ولا يضِلُّ من هداه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه خاتمُ أنبيائِه وخيرُ أصفِيائِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِهِ، وعلى من أقامَ من أمَّته على سَنَن الحقِّ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وراقِبُوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].

أيها المسلمون: الحُمقُ ضدُّ العقل ونقيضُه؛ بل وفسادُه. يُقال: حمُقَت السوق إذا كسَدَت، والأحمقُ كاسِدُ العقل والرأي.

قال بعضُ الحُكَماء: "يُعرفُ الأحمقُ بستِّ خِصال: الغضبُ من غير شيءٍ، والإعطاءُ في غير حقٍّ، والكلامُ في غير منفَعة، والثِّقةُ بكل أحدٍ، وإفشاءُ السرِّ، وألا يُفرِّق بين عدوِّه وصديقِه، ويتكلَّمُ ما يخطُرُ على قلبِه ويتوهَّمُ أنه أعقلُ الناس".

وقيل في الأحمَق: "إن تكلَّم عقِل، وإن تحدَّث وهِل، وإن حُمِل على القَبيح فعَل".

وعلامةُ الأحمَق: الخِفَّةُ والطَّيش، والجهلُ والفُحشُ والسَّفاهة، والصَّلَفُ والعُجب، والغفلةُ والتفريطُ والضياع، والخُلُوُّ من العلم، ومُعاداةُ الأخيار، ومُخالطةُ الأشرار، ونقلُ الأخبار دون تثبُّت، وكثرةُ المِراء، وكثرةُ العداوات والخُصومات. لا يعرِفُ لمن فوقَه قدرًا، ولا يأمنُ من يصحَبُه غدرًا.

فاحذَروا تلك الصِّفات الذَّميمة، وتشبَّهوا بأصحابِ العقول التامَّة الزكيَّة، التي تُدرِكُ الأشياءَ بحقائِقِها على جلِيَّاتها، فتأتي محاسِنَها، وتجتنِبُ مساوِئَها.

واحذَروا سبيلَ أهل العقول التائِهَة الحائِرَة الغافِلَة الذين قال الله عنهم: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال: 22].

ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.

للخلقِ أُرسِلَ رحمةً ورحيمًا *** صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة، أصحاب السنة المُتَّبعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وجُودِك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين يا رب العالمين.

اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها، وعزَّها واستِقرارَها، ووفِّق قادتَها لما فيه عزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي