وبالعلمِ تخرُجُون من الظُّلماتِ، وتُحصِّلون أكملَ السعاداتِ وأتمَّ اللذاتِ، قال الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)، وقال تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ).
إنَّ الْحَمْدَ لله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اعبدوا ربَّكم الذي خَلقَكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، واعلموا -أيها المؤمنون- أنه لن تستقيمَ لكم عبادةٌ صحيحةٌ، ولا تقوى نافعةٌ، إلا بالعلمِ الشرعيِّ، فعلمُ الكتابِ والسنةِ أفضلُ ما اكتسبته النفوسُ، وعمرت به القلوبُ، وشغلت به الأوقاتُ، فبه يرفعُ الله أقواماً ويضع آخرين، قال اللهُ تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، فعلم الكتابِ والسنة حياةُ القلوبِ ونورُ البصائرِ وشفاءُ الصدورِ، هو الميزانُ الذي توزنُ به الرجالُ والأقوالُ والأعمالُ، به يتمكَّنُ العبدُ من تحقيقِ العبوديةِ للهِ الواحد الديان، فهو الكاشفُ عن الشُّبهاتِ والمهذبُ للشهواتِ، مذاكرتُه تسبيحٌ، والبحث عنه جهادٌ، وطلبُه قربةٌ، وبذله صدقةٌ، ودراسته تعدل الصيامَ والقيامَ.
فالحاجةُ إليه فوقَ كلِّ حاجةٍ، فلا غنى للعبد عنه طرفةَ عينٍ، قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "الناسُ إلى العلمِ أحوجُ منهم إلى الطعامِ والشرابِ، فالرجلُ يحتاجُ إلى الطعامِ والشرابِ مرةً أو مرتين، وحاجته إلى العلمِ بعددِ أنفاسِه".
وبالعلمِ الشرعيِّ -أيها المؤمنون- تعرِفون ربَّكم، أسماءَه، وصفاتِه، وأفعالَه، وبه تعرِفون أمرَه ونهيَه وحدودَه وشرعَه، وبهذا كلِّه تتحقَّقُ لكم خشيةُ اللهِ -سبحانه وتعالى-، قال -جلَّ ذكره-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة له أتم والعلم به أكمل؛ كانت الخشية أعظم وأكثر".
عبادَ الله: وبالعلمِ تخرُجُون من الظُّلماتِ، وتُحصِّلون أكملَ السعاداتِ وأتمَّ اللذاتِ، قال الله تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)، وقال تعالى: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ).
فيا بشرى ويا طوبى ويا سعادةَ من اشتغل بالعلمِ الشرعيِّ تحصيلاً وطلباً، وعلماً وعملاً، وتبليغاً وتعليماً، قال الله -سبحانه وتعالى-: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الألْبَابِ).
وفي الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن يرِد اللهُ به خيراً يفقِّهْهُ في الدِّين"، وفي جامع الترمذي بسندٍ لا بأسَ به: "الدُّنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ اللهِ تعالى، وما وَالاه، وعالماً أو متعلماً".
ومن فضائل الاشتغال بعلم الكتاب والسنة -يا عباد الله-: ما رواه أصحاب السنن عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِى فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ".
أيها المؤمنون: إن أمتَنا اليومَ هي أشدُّ ما تكونُ حاجةً إلى العلمِ الصحيحِ، المبنيِّ على الكتابِ والسنةِ، وهي أشدُّ ما تكونُ حاجةً إلى العلماءِ الراسخين، الذين هم أركانُ الشريعةِ وأمناءُ اللهِ من خلقِه، والواسطةُ بينَ الأمةِ ونبيِّها -صلى الله عليه وسلم- العلماء المجتهدون في حفظِ ملتِه، الذين هم بالشرعِ متمسِّكون، ولآثارِ السلفِ مقتفون، لا يصغون إلى الأهواءِ ولا يلتفتون إلى الآراءِ، يبلِّغون رسالاتِ الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا اللهَ.
أيها المؤمنون: إن طلبَ العلمِ الشرعيِّ واجبٌ على كلِّ أحدٍ بحسبه، فإن من علم الشريعة ما لا يُعذرُ العبدُ بجهلِه وتركِه، وذلك العلمُ الواجبُ هو الذي يستقيمُ به دينُ العبدِ، ويتمكَّنُ به من القيامِ بحقِّ اللهِ، سواءٌ كان ذلك في العقائدِ أم الأحكامِ.
ويجمع أصولَ هذا العلمِ الواجبِ على كلِّ أحدٍ تعلُّمُه في العقائدِ والأحكامِ حديثُ جبريلَ الطويلُ، والذي سألَ فيه النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، وعن أماراتِ الساعةِ، وفي آخره قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابِه: "هذا جبريلُ أتاكم يعلِّمُكم دينَكم".
فيا أمةَ السنةِ والقرآنِ: هلا شمَّرنا عن سواعدِ الجدِّ والاجتهادِ، وهجرنا السِّنَةَ والرقادَ، وجفونا الملاهيَ والملذاتِ، وبذلنا خالص أوقاتِنا ونفيسَ زمانِنا في تحصيلِ العلمِ النافعِ وبذلِه والدعوةِ إليه، فبالعلمِ وبذلِه ونشرِه تُرفعُ راياتُ الدِّينِ وأعلامُه، وتنقمِعُ راياتِ الشبهاتِ والشهواتِ.
فعليكم -يا عبادَ الله- بعِزِّ الدنيا والآخرةِ، عليكم بميراثِ النبوةِ وتَرِكةِ نبيِّكم محمد -صلى الله عليه وسلم-، اطلبوها من مظانِّها واجتهدوا في تحصيلِها اللياليَ والأيامَ، وابذلوا في سبيلِ ذلك الأنفسَ والأموالَ، فإن العلمَ من الجهادِ في سبيلِ اللهِ، أخلِصوا للهِ -سبحانه وتعالى- نياتِكم، فإن اللهَ لا يقبلُ من العمَلِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وجهُه.
تعلَّمْ فإنَّ العلمَ زَيْنٌ لأهلِه *** وفضلٌ وعنوانٌ لكـلِّ المحامدِ
تفقَّهْ فإنَّ الفقهَ أفضلُ قائدٍ *** إلى البِرِّ والتقوى وأعدلُ قاصدِ
أما بعد:
فإن العلمَ الشرعيَّ يُعدُّ إحدى أهمِّ الضروراتِ التي تحتاجُها الأمةُ اليومَ، فبالعلمِ الصحيحِ المأخوذِ من الكتابِ والسُّنةِ، وبالتعليمِ والدعوةِ الخالصةِ المثابرةِ تخرجُ أمتنا من أنفاقِ التعاساتِ والظلماتِ والانتكاساتِ إلى ساحاتِ السعادةِ والعِزِّ والانتصاراتِ، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)، ولن يكون إيمانٌ صادقٌ ولا عملٌ صالحٌ ولا عبادةٌ صحيحةٌ ولا سلامةٌ من الشِّركِ، إلا بالعلمِ النافعِ الصحيحِ، والدعوةِ المثابرةِ، والتعليمِ الناصحِ.
والعلمُ الشرعيُّ هو السَّبيلُ القوِيمُ لإصابةِ نهجِ الوسطيةِ والاستقامةِ، فالعلم هو الضمانةُ الأولى التي تحفظُ مسيرة العبدِ من الغلوِّ في دينِ اللهِ، أو التقصيرِ فيه، فما أمرَ اللهُ تعالى بأمرٍ إلا وللشيطانِ فيه نزغتان: إما إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، وإما إلى إفراطٍ وغلوٍّ، ودِينُ اللهِ سبحانه وسَطٌ بين الجافي عنه والغالي فيه، وكلا الأمرين خطيرٌ، فكما أن الجافيَ عن الأمرِ مضيِّعٌ له، فالغالي في أمرِ اللهِ مضيِّعٌ له كذلك.
فتعلَّموا العلمَ -يا عبادَ اللهِ-، واجتهدوا في تحصيلِه، وعليكم بهديِ السَّلفِ الصالحِ، الذين هم خيرُ القرونِ، وإيَّاكم والجهلَ، فإن الجهلَ أصلُ كلِّ انحرافٍ وضلالٍ، قال ابن القيم -رحمه الله-:
والجهلُ داءٌ قاتلٌ وشفاؤُه *** أمران في التركيبِ متفقانِ
نصٌّ من القرآنِ أو من سُنةٍ *** وطبيبُ ذاك العالِمُ الرَّباني
فأقبلوا -أيها الناسُ- على كتابِ ربِّكم، وعلى سنةِ نبيِّكم، واسترشدوا بآراءِ أهلِ العلمِ الأثباتِ، وخذوا عنهم، فإن هذا العلمَ يحمِله من كلِّ خَلَفٍ عدولُه، وخذوا العلمَ -يا عبادَ اللهِ- قبلَ ذَهابِه، فإن ذَهابَ العلمِ بذَهابِ أهلِه وحَمَلتِه، قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "ما لي أرى علماءَكم يذهبون وجهالَكم لا يتعلمون، فتعلَّموا قبلَ أن يُرفعَ العلمُ، فإن رفعَ العلمِ ذهابُ العلماءِ".
واحذروا –يا عباد الله- الذين يزهِّدونكم في العلمِ الشرعيِّ وأهلِه، ويهوِّنون من شأنه بأقوالهم أو بأفعالهم، فإن الذين يزهدون في العلمِ وأهلِه إنما يزهِّدون في الدِّين والدعوةِ التي يحملُها هؤلاء، وهذا الفعلُ لا يكون إلا من جاهلٍ أو صاحبِ هوى، فإن علمَ الشريعةِ قال الله، قال رسوله، قال الصحابة، فمن زهِدَ فيه أو هوَّنَ من شأنِه، فقد زهَّد الناسَ في الكتابِ والسنةِ وهديِ السلفِ الصالحِ.
فحثوا -أيها المؤمنون- أنفسَكم وأهليكم وأولادَكم على طلبِ العلمِ، وحضورِ حِلَقِه، وقراءة كُتُبِه، وسماع أشرطته، قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "اغد عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محبًّا، ولا تكن الخامس فتهلِك".
اللهم وفِّقْنا إلى العلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي