الأمة بين تخريب القريب وعدوان الغريب

عبدالباري بن عواض الثبيتي
عناصر الخطبة
  1. حرمة دم المسلم .
  2. مفاسد العمليات الانتحارية والتفجيرات .
  3. أهمية الحفاظ على أمن المجتمع .
  4. الأمن مسؤولية الجميع- مآسي المسلمين- الطاعة سبب للأمن والمعصية سبب للخوف .
  5. مآسي المسلمين في العراق وفلسطين .
اهداف الخطبة
  1. توضيح الواقع المأساوي اليوم
  2. تحذير الناس من الانتحار والتفجير

اقتباس

إنّ هذه الأعمالَ التي تحصدُ أرواحَ العشرات من المسلمين لا تقوم على أساسٍ شرعيّ، ولا تقبلها العقولُ السليمة والفِطر السويَّة، وهي فِعلة مستهجَنة شنعاء، تتضمّن البغيَ والظلم، فليس من أخلاق المؤمن الإقدامُ على تفجير نفسه وقتل الغير وقطع الطريقِ على المسلمين وتهديدهم بالسّلاح والاعتداء على سياراتهم، بل هذه من أخلاق قُطّاع الطرُق المفسدين الأرض ..

 

 

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

عبادَ الله: إنّ القلبَ ليحزن وإن العقلَ ليذهَل حين يرقُب المسلم هذه الأحداثَ التي ابتُليت بها هذه البلاد من أقوامٍ ضلّوا الطريقَ وتلوّثت عقولهم بأفكارٍ خاطئة، أعمال -مهما كان فاعلها ومهما كانت حجّتُه ودافعه- تتضمّن مفاسدَ كبيرة وشرورًا عظيمة، فيها قتلُ الأنفس المسلمة ظلمًا وعدوانا، قال الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93].

وقال رسول الله: " لن يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا " أخرجه أحمد والبخاري، وقال رسول الله: " لزوالُ الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم " أخرجه الترمذي، وقال رسول الله: " لو أنّ أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار "، وحين قتَل أسامة بن زيد رجلاً تأوُّلاً بعد أن سمعه ينطَق بالشهادة قال له رسول الله: " أقتلتَه بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! ".

إنّ هذه الأعمالَ التي تحصدُ أرواحَ العشرات من المسلمين لا تقوم على أساسٍ شرعيّ، ولا تقبلها العقولُ السليمة والفِطر السويَّة، وهي فِعلة مستهجَنة شنعاء، تتضمّن البغيَ والظلم، فليس من أخلاق المؤمن الإقدامُ على تفجير نفسه وقتل الغير وقطع الطريقِ على المسلمين وتهديدهم بالسّلاح والاعتداء على سياراتهم، بل هذه من أخلاق قُطّاع الطرُق المفسدين الأرض، قال رسول الله: " من قتل نفسَه بحديدةٍ فحديدته في يده يتوجَّأ بها في بطنِه في نار جهنّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومن شرِب سُمًّا فقتل نفسَه فهو يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومَن تردّى من جبلٍ فقتل نفسَه فهو يتردّى في نار جهنّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا " أخرجه مسلم.

في هذه الأعمالِ حملُ السّلاح على المسلمين وقد أخرج البخاريّ ومسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: " لا يشير أحدُكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرةٍ من النار ".

فيها مفارقةُ الجماعة وشقُّ عصا الطاعة، وهي كبيرة من الكبائر، قال رسول الله: " من خرج من الطاعة وفارق الجماعةَ فمات مات ميتةً جاهلية " أخرجه مسلم، وقال: " من فارق الجماعةَ شبرًا فقد خلع رِبقةً الإسلام من عُنقِه " أخرجه أحمد وأبو داود.

فيها الاعتداءُ على رجال الأمن، وهذه جريمةٌ كبرى؛ لأنهم في الأصل مسلمون، والمسلم في شريعة الإسلام معصومُ الدمِ والعِرض، ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفسِ المعصومة، ومهما كان من معاصٍ وأخطاء فليس هذا من الإصلاح، وهل يكون الإفساد والعبثُ بالأرواح والأمن إصلاحًا؟!

والذين يدعون إلى الجهاد دونَ النظر إلى آثار القتال غاب عنهم الهدفُ الأسمى الذي شرِع من أجله الجهاد، وهو إقامةُ الدين ورفعُ راية التوحيد؛ لأنّ القتالَ إذا أدّى إلى فتنةٍ ممنوعٌ شرعًا وعقلاً.

هذه الأعمالُ تُشيع الهلَعَ وتثير الفزع، ولا يجوز ترويع المؤمنين، تؤجِّج نارَ الفوضى، وخطورةُ ذلك لا تخفى، تشعِلُ شرارةَ فتنةٍ داخلية، تُدمَّر فيها الطاقات، وتهدَر فيها المكتسبات، وتُشتَّت الجهود، وتعيق بناءَ الخير والتنمية، وتُعطِّل مشاريعَ الإصلاح، وتشوّه مناشِط الخير وما يرتبط بها.

إنّ التفريطَ في أمن المجتمع تدميرٌ له ولمكتسباته ودعائمه، لذا يجب علينا جميعًا أن نسعَى للحفاظ على هذا الأمن بسدِّ الثغراتِ التي يمكن أن تُحدِث شرخًا في المجتمع أو تجعلَ جسدَه مثقَلاً بالجراح، فيشغَل بردمها عن دوره ورسالته وبناء مجتمعه وأمَّته.

بيَّن القرآن الكريم أنّ سمةَ المنافقين زعزعةُ أمن المجتمع والإفساد فيه وإشاعةُ الفتنة بدعوى الإصلاح، قال الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة:11، 12].

إذا تفيَّأ المجتمعُ ظلالَ الأمن والأمان وجدَ لذّةَ العبادة وذاق طعم الطاعة، يكون اليوم سباتًا والطعامُ هنيئًا والشراب مريئًا، فالأمن مطلَبٌ أساسٌ لجميع الناس، خاصّة في المجتمعات المسلمة التي تتمتّع بالإيمان، إذ لا أمنَ بلا إيمان، وقد قال رسول الله: " من أصبح منكم آمِنًا في سِربه معافًى في بدنه عنده قوتُ يومه فكأنما حِيزت له الدنيا ".

بالأمن تُعمَّر المساجِد، وتُقام الصلوات، وتُحفَظ الأعراض، وتؤمَّن السُبُل، وينشَر الخير، وتقام الحدود، وتنتشر الدعوة، وتُطبَّق الشريعة، وإذا اختلَّ الأمن حكم اللصوصُ وقُطّاع الطرق.

إذا ضعُف الأمن اشتعلت الديار وأحالت قلوبَ المؤمنين ذُعْرًا، وصُرِع إخوانُ الإسلام والعقيدة، وقد يُستخدَم لزعزة الأمن بعضٌ من المغرَّر بهم.

هذه البلادُ كغيرها من البلدان تعيش مرحلةً خطيرة ومنعطفًا صَعبًا، فلا بدّ من تماسُك الصفّ مع بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطريقُ التغيير الإصلاحُ والبناء لا الهدم والتدمير.

على الجميع أن يُحِسّوا بواجبهم الشرعيّ لرأب الصَّدع في البناء، ومعظَم النار من مستصغَر الشرر، وإنّ فتنًا عظيمةً في أُممٍ ماضيةٍ ودُوَلٍ حاضرة كان أولّها شرارةً يسيرة، تساهلَ أولو العلم والرأي في إطفائِها، فألهبت الأرض جحيمًا لا ينطفئ، ودمًا لا ينقطع، وفتنةً تركت الحليم حيرانًا.

أمنُ الفردِ جزءٌ من أمنِ مجتمعه، وتوطيد الأمن يستلزم أن يؤدّيَ كلّ فردٍ مسؤوليتَه في حِفظ الأمن، قال رسول الله: " كلُّكم راع، وكّلكم مسؤول عن رعيته ".

إنّ شناعةَ الجريمة جليّة لا تكتنفُها شبهة، وناصعة لا شكَّ فيها، وممّا يثير العجَب كيف غيَّب هؤلاء نصوصَ الشرع وعقولهم حتى أراقوا دماءَ الأبرياء، وأسبَلوا دموعَ الثكالى، وأجَّجوا لوعَة كلِّ مسلم، وأحلّوا قومَهم دارَ البوار.

بماذا سيجيبون عن دماءِ المسلمين التي سالت وأشلاء بريئةٍ تناثرت وأفعالٍ طار بها العدوّ فرحًا وأحدثت شرخًا في لُحمة المجتمع وبنائه الداخلي؟!

إنّ الأمّة تعيش مآسيَ في مشارق الأرض ومغاربها، فلِمَ ينبري فئامٌ من بني جلدتِنا لإيقاد فتنٍ داخلية واحترابٍ لا مسوِّغ له؟! لن يكونَ فيه كاسبٌ سوى العدوّ المتربِّص، وسنبوء جميعًا بآثارها، ونُلذع بشَررها.

الأمّةُ -عباد الله- تضجّ ألمًا وتكتوي لوعةً وأسًى، ويشتدّ البلاء ويعظُم الخطب حين يُحدَث الخرق من الأقربين، والتاريخُ بأحداثه على مرِّ العصور يكشِف للأمّة أن أبرزَ مصائبها ولأوائها وخلخلةِ أركانها دبّ من داخلها، قال تعالى: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف:104]،(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:152].

على شبابِ المسلمين التبصُّر في أمورِهم والتزوُّد من العلم النافع، ومن زلَّت به القدَم أن يعودَ إلى الله ويرجع، فإنّ التائبَ من الذنب كمن لا ذنبَ له.

من أعظمِ أسباب الفِتن الذنوبُ والمعاصي التي تزيل النعمَ وتجلِب النقَم، والواجب على الأمّة كلِّها صغارًا وكبارًا حكَّاما ومحكومين التوبةُ إلى الله، قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى:30].

الأمّة إذا أرادت الأمنَ والأمان والسّلامة والاستقرار فلا بدّ أن تتّقيَ الله وتلتزم جادّةَ الاستقامة والطاعة لله ولرسوله، وإنّ التحصينَ لشبابنا هو ترسيخُ المنهج الوسَط للإسلام، ونشرُ العلم الشرعي في المدارس والجامعات والمساجد، ونبذُ الأفكار المنحرفة المتشدّدة أو المتساهلة، مع عدم إرسالِ التُّهَم دونَ تأنٍّ وتثبُّت، أو تعميم الأخطاءِ والتشكيك في منابِر الدعوة والإصلاح، ولا يقوله إلاّ حاقِد أو حاسد، يروم الاصطياد في الماء العَكِر.

نسأل الله أن يحفظَ علينا أمننا وإيماننا وسِلمَنا وإسلامنا، وأن يعيذَنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما أسأله أن يرينا الحقَّ حقًا ويرزقنا اتّباعه، ويرينا الباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يرحمَ المتوفَّين من المسلمين في هذا الحادثِ وغيره، ويُلهم ذويهم الصبرَ واليقين، ويشفي الجرحَى والمرضى، إنه سميع مجيب.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمٍ لا تُعدّ ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، يعلم الجهرَ وما يخفى، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله، وعده ربه بقوله: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى:5]، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيلَ الهدى.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

عباد الله: وفي الفلّوجة بل وفي العراق كلِّها وفي فلسطين يعيش الناسُ المأساة في أحلَك فصولها وأوضَح صُوَرها؛ تدميرٌ وقتلٌ وإبادة جماعية، بأيّ ذنب تُدكّ الأرض ومن عليها؟! وإلى متى تُقام هذه المجازر؟! متى تتوقَّف الحرب؟! متى تصمُت المدافع والدبابات؟! متى تسكُن الطائرات؟! متى يهنأ الأطفالُ وتأمن النساء؟! لقد جاوز الظالمون المدى، قطعوا شريان كلِّ حياة، دمَّروا الأخضرَ واليابس، أين الحريّة التي بها يتشدَّقون وتحت شِعارها يقهرون؟! أين العدالة التي باسمها يُفسِدون؟! أين حقوق الإنسان الذي يقتلونه ويسحقونه؟! أين المواثيق الدولية؟! أيُّ قانونٍ يسوِّغ لهم تلك الجرائمَ وقد ضجَّت الأرض وبكت السماءُ وتقطّعت الأكبادُ من هولها؟! وكأنّ العالم اليوم ألغى من قاموسِه معانيَ الرحمة ووشائجَ المودّة والعطف.

الظلمُ اليومَ بلغ من القسوةِ غايتَه ومن الجبروتِ أقصاه، لا تحرِّكه إلاّ لغة المصالح الأرضيّة والمطامع الدنيوية، ولو سقطت كلّ المبادئ والقيم، ولو على جماجمِ الثكلَى وصرخات الأطفال وأشلاء النساء وجُثث المصلّين الأطهار، نسأل الله السلامة والعافية.

ومهما بلغت جراحُ الأمّة فإنها لن تموتَ، كما أنّ ليل الظلم قد أزِف زواله، فإنّ الفجرَ قد دنا وأشرقت أنواره.

إننا نناشِد كلَّ من كان في قلبه ذرّةٌ من رحمة، ونخاطب كلَّ صاحبِ نخوة وغَيرة أن يَهُبَّ لرفع الظلم عن المظلومين وردع الظالم الذي تمادى في غيِّه وتجبَّر وتغطرس. ونحن هنا نملك أقوَى سلاحٍ وأمضى عَتاد، ألا وهو الدعاء.

 

 

 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي