ومما يتساهل به بعض الناس -وهو من قبيل الخروج عن حديث "احرص على ما ينفعك"- الكلام في أعراض العلماء والدعاة وطلبة العلم، فتجد كثيرًا من المجالس تدور بما أفتى به العالم الفلاني، وأنه ما قصد به إلا كذا، وما كتبه الشيخ فلان، وما فعله الداعية الآخر وأنه جانب الصواب في فعله.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (ياَ أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَلأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
أما بعد:
فإن الله تعالى لما خلق الخلق أمرهم بعبادته، وجعل الغاية العظمى من خلقهم هي القيام بطاعته -سبحانه وتعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
أمر الله الخلق بطاعته وعبادته، ورتب على ذلك الثواب والعقاب: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، فالإنسان يوم القيامة سيحاسب بما عمله هو، وما أفنى فيه عمره من خير أو شر: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه).
إلا أن الشيطان -وهو الذي توعد بني آدم بأن يغويهم ويوردهم معه نار جهنم- قد زين للإنسان الاشتغال بشؤون الآخرين، وما عملوه وما تركوه؛ روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "احرص على ما ينفعك".
هذه الكلمة الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، لو أخذها الإنسان ونقشها في قلبه، وجعلها منهاج حياته لأفلح وأنجح؛ "احرص على ما ينفعك"، واشتغل بما أمرك الله به أنت، من العمل الصالح، والطاعة والعبادة، "احرص على ما ينفعك"، واسع إلى ما فيه نفعك في دنياك، من كسب للرزق الحلال، والسعي في الأرض: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).
"احرص على ما ينفعك"، وأمسك لسانك عن ذم الناس وقدحهم، والكلام فيهم، واشتغل بمعايبك وسيئاتك.
إذا رمت أن تحيا سليماً من الردى *** ودينك موفور وعِرْضُكَ صَيِّن
لسـانك لا تذكر به عورة امرئ *** فكـلك عورات وللناس ألسن
وعينـاك إن أبـدت إليك معايباً *** فدعها وقل يا عين للناس أعين
جُلْ ببصرك في مجالس الناس اليوم، ستجد أن فاكهة المجالس هي الحديث في الآخرين، تأمّل في القنوات الفضائية، والبرامج الحوارية، ووسائل التواصل الاجتماعي، ستجدها تنضح بالحديث في معايب الآخرين وقدحهم، وتحميل كلامهم ما يحتمل وما لا يحتمل.
مجالسنا اليوم -أيها الإخوة- إلا ما رحم ربي قائمة على الحديث في أعراض الناس، سواء كانوا حكامًا أم علماء أم من عامة الناس.
وأجرأ من رأيت بظهر غيب *** على نشر العيوب ذوو العيوب
لماذا يتساهل كثير من الناس اليوم في تناول أعراض الحكام والأمراء؟! فهذا الأمير سرق كذا، وهذا الأمير فعل كذا، وذلك الحاكم سربت له صورة في وضع مشين، والآخر يفعل المعصية الفلانية، إلى آخر ذلك من كلام لا ينفع الناس معرفته، ولا يضرهم جهله.
إن كثيرًا من هذا الكلام لا يعلم الإنسان صدقه من كذبه، والكلام في ولاة الأمر في المجالس بالقدح فيهم والذم ذكر الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- أنه أشد من غيبة غيرهم، وفيه محذوران:
المحذور الأول: أنه غيبة؛ لأنه من باب ذكر أخيك بما يكره.
والمحذور الثاني: أنها تستلزم إيغار الصدور على الأمراء وولاة أمورهم وكراهتهم وبغضهم وعدم الانصياع لأمرهم؛ وحينئذ ينفلت زمام الأمان.
ذنوبنا -أيها الإخوة- تكفينا، وحسناتنا نحن أحق بها من غيرنا، "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"، وتأمل في غيبة الحكام هل هي من قول الخير أم لا؟!
يقول الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "ولو أن الناس كفوا ألسنتهم ونصحوا لولاة أمورهم، ولا أقول: اسكت على الخطأ، لكن اكتب لوُلاة الأمور، اكتب كتاباً إن وصل فهذا هو المطلوب، وإذا انتفعوا به فهذا أحسن، وإذا لم ينتفعوا به فالإثم عليهم إذا كان خطأ صحيحاً، وإذا لم يصل إليهم فالإثم على من منعه عنهم". اهـ.
والعجب أن كثيرًا من الناس يحذر أشد الحذر من الكلام في أعراض الناس وغيبتهم، وهذا أمر يشكر ويحمد عليه، لكنه يتساهل في أعراض ولاة الأمور.
فالحذر الحذر -أيها الإخوة- من إطلاق الألسنة في ذم الحكام والأمراء وغيبتهم وتنقصهم، إني لا أدعو إلى تقديسهم والغلو فيهم، لكنهم من المسلمين لهم من الحقوق ما لهم، وعليهم من الحقوق ما عليهم، ومن أهم هذه الحقوق ترك غيبتهم في المجالس.
فكبير ألا يصان كبير *** وعظيم أن يُنبذ العظماء
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: ومما يتساهل به بعض الناس -وهو من قبيل الخروج عن حديث "احرص على ما ينفعك"- الكلام في أعراض العلماء والدعاة وطلبة العلم، فتجد كثيرًا من المجالس تدور بما أفتى به العالم الفلاني، وأنه ما قصد به إلا كذا، وما كتبه الشيخ فلان، وما فعله الداعية الآخر وأنه جانب الصواب في فعله.
لا تكاد تمر فترة من الزمن إلا وتطالعنا الصحف والقنوات ووسائل الإعلام كافة بفقاعة إعلامية عن أحد العلماء أو الدعاة أو طلبة العلم، فيشتغل الناس باجترار تلك الفقاعة حينًا من الدهر.
لو تأملنا في كثير من تلك الحوادث لوجدنا أنها في معظمها إما غير صحيحة، وكانت كذبة وفرية صلعاء ألصقت بهؤلاء الأخيار، وإما أنها قيلت في سياق معين، ووظفها ناشرها توظيفًا آخر مخالفًا لقصد قائلها، وإما أنها خطأ فعلي.
وفي كل الأحوال فإن نشرها وترديدها في كل مجلس مما لم يأمر به الله -سبحانه وتعالى- أو رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بل إنه يخالف ما أمر الله به -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، هل تأملتم الآية؟! هل تأملتم قول الله تعالى وهو يخاطبكم ويقول: (فَتَبَيَّنُوا)، وجاء في بعض القراءات: (فتثبتوا)، لماذا نتثبت؟! (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ)، أليس ما يحصل اليوم من رمي كثير من العلماء والدعاة بالفرية إثر الفرية هو من إصابتهم عن جهل وجهالة؟! (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، وهذا الندم قد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة.
أعوذ بالله من قوم إذا سمعوا *** خيرًا أسروه أو شرًا أذاعوه
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى نَبِيِّنَا وَإِمَامِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَما بَعْدُ:
فإن المتساهل في الكلام في العلماء والمشايخ والدعاة على خطر عظيم، فإضافة إلى وقوعه في إثم الغيبة التي نهى الله تعالى عنها أشد نهي، فإنه قد ورد فيه الوعيد الخاص: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم).
لم يكن المنافقون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- يجرؤون على الكلام في الله تعالى أو في رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لكنهم تفطنوا إلى أن القدح في أهل الدين والعلم وسيلة للقدح في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاشتغلوا بذم القراء وقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. فأنزل الله هذه الآيات: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ).
وما على العنبر الفواح من حرج *** أن مات من شمه الزبال والجعل
إن المشتغل بذم أهل العلم والدعوة على خطر عظيم بموجب الآية السابقة، فكيف بمن يشتغل بتصيد عثرات طلبة العلم من السابقين والمعاصرين، ويملأ مجالسه بذكر السيئات والمثالب!
هل هذا هو العلم الذي أمر الله تعالى بتعلمه وتعليمه؟! إن الله تعالى سائلنا جميعًا عن كل كلمة نقولها، وذكر بعض أهل العلم أن الله تعالى يحاسب عن كل لفظ حتى الأنين في المرض، فكيف بمن يعمر مجالسه في أعراض المسلمين، فضلاً عن الصالحين والمصلحين؟!
وإن كلام المرء في غير كنهه *** لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
وإن من أشد ما يؤلم صدر العاقل أن يكون الحديث في طلبة العلم الأحياء، دون أن يكلف المتحدث نفسه بالتواصل مع طالب العلم، فيوضح له خطأه الذي رآه عليه، ويسمع منه ما يقول، فاللقاء والصراحة والحوار صابون القلوب، ألم تسمع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سمع أن الأنصار وجدوا في أنفسهم عليه لما قسم غنائم حنين، لقد دعاهم -صلى الله عليه وسلم- وقال: "ما مقالة بلغتني عنكم!"، وشرح لهم وجهة نظره، والسبب الذي دفعه لذلك، حتى خرج القوم يبكون متأثرين وقد زال ما في نفوسهم.
وإذا الخصمان لم يهتديا *** سنة البحث عن الحق غبر
عن أنسِ بنِ مالك، قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفارٌ من نُحاسٍ يخمُشونَ بها وجُوهَهُم وصدُورَهُم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريلُ؟! قال: هؤلاء الذين يأكلُون لحومَ الناس، ويقعونَ في أعراضِهِم".
وجاء عن سعيد بن زيد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أربا الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق".
جاء عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه قال: "والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الآكلة في الجسد". وروي أن رجلاً قال له: إن فلانًا قد اغتابك، فبعث إليه رطبًا على طبق وقال: "قد بلغني أنك أهديت إليّ من حسناتك، فأردت أن أكافئك عليها، فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام".
يا من يشتغل بعيوب الناس: اشتغل بعيب نفسك، فوالله لن يسألك الله غدًا إذا وقفت بين يديه عن رأيك في فلان أو فلان، ولكن سيسألك عن عملك أنت، ستقف بين يديه سبحانه وليس بينك وبينه ترجمان، فأعد للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، وتذكّر أنه إذا كان القصاص في الدنيا بالمال أو بالأبدان، فإن القصاص غدًا بالحسنات والسيئات.
يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام، فاللهم صلِّ وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي