إن الموت هادم اللذات، خطره عظيم، والذي بعده أفظع منه وأشد، ومع ذلك تجد أكثر الناس عن ذكره غافلين لا يذكرونه ولا يتفكرون فيه وفيما بعده, ومن يذكره منهم لا يذكره بقلب متفكر واعٍ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أما بعد: اتقوا الله -عباد الله- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يومَ ينفخ في الصورِ، ويبعث من في القبورِ، ويظهرُ المستورُ، يومَ تبلىَ السرائرَ، وتُكشَفُ الضمائرُ ويتميزُ البرُ من الفاجر ثم اعلموا أن هناك حقيقةً وأيَّ حقيقة! حقيقةٌ طالما غفلَ عنها الإنسانُ، ولحظةٌ حاسمةٌ ومصيرٌ ومآل. إنها لحظةٌ ملاقيكُم إلى أين من هذه اللحظةِ المهرب؟ وإلى أين منها المفر؟
إلى الأمام ملاقيكُم, إلى الوراءِ ملاقيكُم, إلى اليمين والشمالِ ملاقيكُم, إلى أعلا إلى أسفل ملاقيكُم، إلى الوراء ملاقيكم. لا تمنعُ منه جنود، ولا يُتَحصنُ منه في حصون، مدركُكم أينما كنتم، قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
وهو -أيها الإخوة- واعظٌ لا ينطق، واعظ صامت يأخذَ الغنيَ والفقير، والصحيحَ والسقيمَ، والشريفَ والوضيع، والمقرَ والجاحدَ، والزاهدَ والعابد، والصغيرَ والكبيرَ، الذكرَ والأنثى، كلُ نفسٍ ستذوقهُ شاءت أم أبت.
لعلَكم عرفتموه، لا أظنُ أحداً يجهلُه، أما حقيقتُه فالكل يجهله، إنه الموت، مهما فرّ الإنسان منه سيدركه الموت لا محالة؛ عندما ينتهي أجله ولو اجتمع له أطباء الدنيا، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8]، نسأل الله أن يجعلنا بعد الموت في راحة ونعيم، وأن يحسن لنا الختام أجمعين.
والموت -أيها المسلمون- أشد ما يحاول الإنسان أن يروغ منه، أو يبعد شبحه عن خاطره، ولكن أنى له ذلك، لا مفرَّ منه ولا مهرب طال الزمان أو قصر، قال الله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19].
عباد الله: إن مما يعالج القلوب القاسية: تذكر الموتِ والدارِ الآخرة، وقصر الأمل، فإن طول الأمل يورث الكسل، ويفسد العمل، وقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن نكثر من ذكر الموت، فقال: "أكثروا ذكرَ هاذمِ اللذات، يعني الموت" [صحيح الترمذي للألباني برقم: 2307]، فمن أكثر ذكر الموت، نَشَط في عمله، ولم يغتر بطول أمله، وبادر بالأعمال قبل نزول أجله.
ومع ذلك فالناس في هذه الدنيا ثلاثة أصناف، فاسمع معي وانظر أين أنت من هؤلاء، أقول الناس في الدنيا: إما منهمك في الدنيا يجمع من شهواتها سواء من الحلال أو الحرام، غارق في لذاتها، وإما تائب مقبل على طريق الحق يريد الله والدار الآخرة، وإما عارف بالله مخلص له مستمسك بالشرع كافّ عن المحرمات والمكروهات.
فالأول الغافل المنهمك في الدنيا، لا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه، ويشتغل بمذمته، وإن ذُكِّر به كرهه، ونفر منه، فهذا يزيده ذِكر الموت من الله بُعداً؛ لجهله وسوء عمله.
وأما التائب: فإنه يكثر من ذكّر الموت، لينبعث من قلبه الخوف والخشية، فيحسن التوبة ويزيد في الصالحات، وربما يكره الموت خوفاً من الموت قبل التوبة، وإصلاح الزاد فهذا معذور في كراهة الموت؛ لأنه ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، كالذي يتأخر على لقاء الحبيب مشتغلاً بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يُعد كارهاً للقائه؛ وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له، لا همّ له سوى ذلك.
وأما العارف بالله: فإنه يذكر الموت دائماً؛ لأنه موعدُ لقائه بحبيبه, والحبيب لا ينسى قط موعد لقاء حبيبه، فهو مستعدّ كل وقت في كمال زينته بإيمانه وطاعته للقاء محبوبه. وهذا غالباً إما أن يكره الموت ليكمل استعداداته وزينته للقاء ربه، وإما أن يستبطئ مجيء الموت، ويحب مجيئه، ويتخلص من دار العاصين، وينتقل إلى جوار رب العالمين. نسأل الله أن يحسن ختامنا أجمعين، وأن يُلحقنا بعباده الصالحين..
أيها المسلمون: إن الموت هادم اللذات، خطره عظيم، والذي بعده أفظع منه وأشد، ومع ذلك تجد أكثر الناس عن ذكره غافلين لا يذكرونه ولا يتفكرون فيه وفيما بعده, ومن يذكره منهم لا يذكره بقلب متفكر واعٍ، بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا، فلا ينجع ذكر الموت في قلبه. وإن من الأمور الجيدة -أيها الناس- أن يكثر العبد من ذكر الموت، الذي هو بين يديه، وأقرب من شراك نعله إليه، فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه، ولعل الله أن ينفعه بذلك في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة: إن على العاقل أن يعتبر بالموت ومصيبته والقبر وضمته وشدة السكرات، وأفضل طريق في ذلك أن يُكثر من ذكر أقرانه وأصدقائه وجيرانه وأقاربه الذين ماتوا قبله، فيتذكر صورهم في مناصبهم، ودورهم وأحوالهم، ثم يتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، وكيف محا التراب الآن حُسْن صورهم؟ وكيف تقطعت أوصالهم في قبورهم؟ وكيف خرست ألسنتهم، وصمت أذانهم، وعميت أبصارهم؟ وكيف أرملوا نساءهم، ويتموا أطفالهم، وقسمت أموالهم؟. وكيف خلت منهم دورهم ومساجدهم ومجالسهم؟ وماذا قالوا؟ وماذا قيل لهم؟ وماذا عملوا؟ وماذا وجدوا؟ قال الله تعالى: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [الغاشية: 25، 26].
فما أعظم الخطب، وما أشد الكرب هناك, حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
عباد الله: ومن أكثر ما يصد الناس عن تذكر الموت: طول الأمل في الحياة، وطول الأمل -أيها الإخوة- داء وبلاء وشقاء، وسببه أمران: الجهل, وحب الدنيا، فمن أعظم الجهل أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب، وليس يعلم أن الموت في الشباب أكثر. وقد يستبعد الموت لصحته ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أن ذلك غير بعيد، وإن كان بعيداً فالمرض فجأة غير بعيد، والموت يطلب الإنسان كما يطلبه رزقه.
وأما حب الدنيا: فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها، وعلائقها وضيعاتها، وأرباحها ومكاسبها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من التفكر في الموت وما بعده، إذ هو سبب مفارقتها، ومكدّر أنسها ونعيمها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه ورده.
عباد الله: إن الإنسان الظلوم الجهول مشغوف بحب الدنيا والأماني الباطلة، فلا يزال يلهو ويلعب، ويبني ويهدم، ويجمع ويفرق، ويسعى لتكميل الشهوات واللذات، ويسوِّف ويؤخر التوبة، ويظل عاكفاً على عمارة ما أمر بتخريبه والإعراض عنه، وعلى تخريب ما أمر بتعميره والاستكثار منه، وما يلزم لها من الإيمان والطاعات ولا يزال كذلك حتى تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسراته وتتحقق خسارته، فما أعظم خسارة هؤلاء، قال الله تعالى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [الأعراف: 51].
نعوذ بالله من موت الفجأة، وأخذ الحسرة، ونسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، إنه جوادٌ كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وفَّق من شاء لعبادتِه، أحمده سبحانه وأشكره على تيسيرِ طاعتِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعدَ المؤمنين بلوغَ جنّته، وحذّر العصاةَ أليمَ عقوبتِه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، كان إماماً في دعوتِه، وقدوة في منهجه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً دائمة حتى نبلغ دار كرامتِه.
عباد الله: على الرغم من أن الموت هو نهاية كل حي، والعاقل يعمل لهذه النهاية، ويحذر منها، ويجتهد أن يفوز يوم نزوله، إلا أن بعض الناس يكرهون الموت ويحبون الدنيا، ولذلك تسوء أحوالهم وتقل في الصالحات أعمالهم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقيل له: ومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله ؟ قال "بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن" فقالوا :يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" [أخرجه أبو داود 4297 وصححه الألباني في مشكاة المصابيح 5369].
عباد الله: وإذا عرفنا أن من أعظم أسباب كراهية الموت: الجهل، وحب الدنيا، فلا بدَّ للسلامة والنجاة مما بعد الموت، من معرفة العلاج، والشروع في التداوي قبل حلول الأجل، فكيف نعالج هذين الداءين؟!.
الجهل -أيها الفضلاء- يُدفع بالفكر والتأمل، وبسماع الحكمة من القلوب الزاكية الطاهرة، وبذلك يعلم العبد أن عمله الصالح في الدنيا لا بدَّ له من جزاء وثواب في الآخرة، ولا يتم ذلك إلا بعد الموت، فالموت باب النعيم للمتقين، وباب الشقاء للمجرمين.
وأما حب الدنيا فهو الداء العضال الذي أعيى الأولين والآخرين علاجه، فإخراجه من القلب شديد، ولا علاج له إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر، وما فيه من عظيم العقاب لمن عصى الله، وجزيل الثواب لمن أطاعه.
وإذا رأى العبد حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها، ولو أُعطي مُلك الأرض من المشرق إلى المغرب، فإن حب الله العظيم هو الذي يمحو من القلب حب الحقير من الدنيا والشهوات.
أيها الإخوة: ما أعظم الموت! وما أعظم الغفلة عنه، فكم من الخلق جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا, أما من كان مستعداً فقد فاز فوزاً عظيماً، وأما من كان مغروراً بطول الأمل فقد خسر خسراناً مبيناً!. فما أعظم الموت، وما أشد سكراته, وما أعظم هول ما بعده!!.
ولو لم يكن بين يدي العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديراً بأن ينغّص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره. والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأكبر مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه بخمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نَفَس يدخل عليه ملك الموت وهو عنه غافل, فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور؟!.
أيها المسلمون: إن الله كتب على جميع الكائنات الموت والفناء، وليس معنى الموت انتهاء الحياة وعدمها، بل هو انتقال الإنسان من حياة صغيرة قصيرة حقيرة فانية إلى حياة أبدية طويلة؛ إما في سعادة، أو في شقاء، فينتقل العبد من مرحلة إلى مرحلة، ومن دار إلى دار، حتى يستقر في دار المقام في الجنة أو النار.
وإن المؤمن يُكشف له بعد الموت من سعة جلال الله، ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن الضيق، كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف، لا يبلغ طرفه أقصاه. ونسبة سعة الآخرة إلى الدنيا كنسبة سعة الدنيا إلى الرحم وأعظم.
أيها الأخ الكريم: تذكر الموت، والموت يأتي بغتة, الخوف من سوء الخاتمة, تذكر أنك قد تؤخر التوبة فتموت وأنت على المعصية، فتبعث على رؤوس الخلائق، وأنت على تلك المعصية. فسارع أخي الحبيب إلى التوبة، وتب قبل أن يعاجلك الموت فلا تجد مهلة للتوبة.
اجلس -يا أخي- مع نفسك، وتفكر في حالك، وقل: يا نفس توبي قبل أن تموتي؛ أما تعلمين أن الموتَ موعدك؟! والقبرَ بيتك؟ والترابَ فراشك؟ والدودَ أنيسك؟, أما تخافين أن يأتيك ملك الموت وأنت على المعصية قائمة؟.
إنَّ العاقل من راقب العواقب, والجاهل من مضى قُدُماً ولم يراقب, كم يوم غابت شمسه وقلبك غائب!. وكم ظلام أُسبل ستره وأنت في معاصي وعجائب!. وكم أسبغ الله عليك وأنت على معاصيه تواظب!. وكم صحيفة قد ملأتها بالذنوب والمَلَكُ كاتب!. وكم أنذرك الموت يأخذ أقرانك من حولك وأنت ساه ولاعب!. كم أنذرك الموت يأخذ أقرانك وأنت ساه ولاعب!.
أفق من سكرتك, وتذكر نزول حفرتك, تذكر هجران الأقارب.
اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي