إن الله -سبحانه- لا يظلم الناس شيئًا، فلا يجعل خلقه يوم القيامة سواء، فالخلق في الآخرة متفاوتون بحسب أعمالهم. فأهل الجنة والثواب وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة؛ فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم. وأهل النار والعقاب متفاوتون بحسب أعمالهم، فلا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ تعالى على حين فترةٍ من الرسل وانقطاعٍ من السبل, فهدى به من الضلالة وبصَّر به من العمى, وجمع به بعد الفُرقة، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى صحبه أجمعين.
أما بعد: أوصيكم -أيها الإخوة- ونفسي بتقوى الله تعالى، وتجنب مساخطه، ولنحذر من الاغترار بالعمل الصالح.
وأنصحك -أخي- أن تبادر قبل أن تُبَادَر! فبادِر بالصالحات قبل أن تُبادَر ولا تغترَّ بكثير عملك؛ فأعمالك الصالحة من توفيق الله وفضله ومَنِّه عليك، ومع هذا فليست هذه الأعمال ثمناً لجزائه وثوابه، بل غايتها أنها شُكْرٌ لله على بعض نِعَمِه -سبحانه- وبحمده، فلذلك لو عذَّب الله أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، فلا يدخل أحدٌ الجنة بعمله، ولكن برحمة الله, كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ". قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدَادَ خَيْراً، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ" [أخرجه البخاري برقم (5673) واللفظ له، ومسلم برقم (2816)].
عباد الله: ولما اختلف سعي الناس في الدنيا اختلفت أحوالهم في الآخرة، فالحساب يومها لا يُنظر فيه – كما كان يحدث في الدنيا- إلى الجاه والسلطان والوظيفة والقبيلة، بل الحساب بالحسنات، والسيئات التي يعملها الإنسان في الدنيا، ومن أجل ذلك تختلف درجات الناس في الآخرة كما يتفاوتون في الدنيا، نسأل الله أن يجعلنا في الآخرة من الفائزين.
أيها الإخوة: ومنازل الناس في الآخرة أربع درجات: الفائزون, والناجون, والمعذبون, والهالكون، وكل واحد من هؤلاء الأقسام متفاوت في النعيم والعذاب، وعبور الصراط حسب أعمالهم وأحوالهم، ويصف لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعضًا من أحوال الخلائق يوم القيامة فيقول -صلى الله عليه وسلم- : "ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ! سَلِّمْ، سَلِّمْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ الله! وَمَا الْجِسْرُ؟ قال: "دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ" [أخرجه البخاري: 7439، ومسلم : 183]، أسأل الله أن يسلمنا جميعًا في مواقف الحشر وأن يجعلنا يوم القيامة من الفائزين المفلحين.
أيها الإخوة: وأهل السعادة متفاوتون في النعيم كذلك على حسب أعمالهم في الدنيا، فالمؤمن إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر، ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لا يصر عليها فيشبه أن يعفى عنه، كما قال -سبحانه-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء: 31]، وهذا إما أن يُلحق بالمقربين، أو بأصحاب اليمين، وذلك بحسب إيمانه ويقينه، فإن قل إيمانه أو ضعف دنت منزلته، وإن زاد إيمانه أو قوي علت منزلته، جعلني الله وإياكم من عباده المقربين.
وهؤلاء المقربون –يا عباد الله- تختلف منازلهم في الآخرة بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى، ومعرفة عظمته، ومعرفة آلائه، وجلاله وكمال وعظمته.
وهذا -أيها الإخوة- حال من أدى الفرائض واجتنب الكبائر, أما من ارتكب كبيرة أو كبائر, فإن تاب توبة نصوحاً قبل موته التحق بمن لم يرتكب تلك الكبيرة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وإن مات قبل التوبة فأمره خطير، فربما يكون إصراره على الذنب سبباً لسوء خاتمته، وعذاب الميت من غير توبة يكون بحسب قبح الكبائر كالقتل والزنا بنساء الجيران أو الوقوع على المحارم، ومدة الإصرار على الذنب، وتنوع الكبائر والجمع بينها والإكثار منها، نعوذ بالله من الإصرار على معصيته، والمداومة على ما يسخطه.
أيها المسلمون: لا ينبغي للعبد منا أن يكون على ثقة تؤدي به إلى عُجب وإدلال بما يظنه عمل صالح؛ فإن الله -سبحانه- قد يعفو عن العاصي وإن كثرت سيئاته الظاهرة، وقد يغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد في قبول العمل الصالح على التقوى، والتقوى محلها القلب الذي لا يطلع عليه إلا الواحد -سبحانه-، فأحوال القلب قد تخفى على صاحبه فكيف على غيره، نسأل الله أن يجعلنا من المخلصين.
عباد الله: وقد نوّع الله درجات الجنة نظرًا لاختلاف درجات العاملين للوصول إليها المستحقين لدخولها، ففي الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "مَنْ آمَنَ بِالله وَبِرَسُولِهِ، وَأقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقّاً عَلَى الله أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ الله، أوْ جَلَسَ فِي أرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا". فَقالوا: يَا رَسُولَ الله، أفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ الله، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أَرَاهُ- فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ" [أخرجه البخاري 2790].
أيها الإخوة: ومن نعيم أهل الجنة أن الله -عزَّ وجلَّ- بمنه وكرمه يرفع المؤمنين من ذرية العبد إلى درجته وإن كانوا دونه في العمل, كما قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) [الطور: 21].
عباد الله: فقوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم؛ فهؤلاء منعتهم حسناتهم من دخول النار، ومنعتهم سيئاتهم من دخول الجنة، وهم أهل الأعراف.
وأما الفائزون فهم العارفون، وهم المقربون السابقون، وهؤلاء الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين كما قال -سبحانه-: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة: 10-12]؛ فسبحان الله ماذا ينتظر هؤلاء من المساكن الواسعة، والقصور الفاخرة، وألوان الطعام والشراب، والنعيم المقيم: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، اللهم اجعلنا من أهل النعيم في الآخرة.
عباد الله: وكما أن أهل الجنة مختلفون في درجاتهم ومنازلهم بحسب معرفتهم بالله، وأعمالهم الصالحة، فإن الخلائق كلهم يتفاوتون يوم القيامة في الدرجات والأحوال، والثواب والعقاب، بحسب الأعمال، وبحسب الإيمان والكفر، وبحسب الطاعات والمعاصي.
وتذكروا -أيها الإخوة- أن الجزاء من جنس العمل، وأن استظلال العبد بظل العرش يوم القيامة، ونجاته من حر يوم القيامة يكون بحسب أعماله، فمن استظل في هذه الدار بالإيمان والأعمال الصالحة، استظل يوم القيامة في ظل الرحمن، ومن كان متعرضًا هنا للشرك والمعاصي عُوقب هناك وبرز للحر الشديد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ الله، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي الله، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" [أخرجه البخاري: 1423 ، ومسلم : 1031]
ومن طال وقوفه في الصلاة ليلاً ونهاراً، وقام للدين، وتحمل لأجله المشاق، خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه. ومن آثر الراحة والدعة والبطالة طال عليه الوقوف هناك، واشتد عليه.
وثِقَلُ ميزان العبد يوم القيامة بحسب إيمانه وأعماله الصالحة، واتباعه للحق، والصبر عليه، ومجاهدته من أجله. والمشي على الصراط يوم القيامة يكون في السرعة والبطء حسب سرعة السير على الصراط المستقيم في الدنيا. فأسرع الناس سيراً هنا أسرعهم سيراً هناك، وأثبتهم هنا أثبتهم هناك كما قال -سبحانه-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27]، فهل عملنا لذلك اليوم؟! واستعددنا لأهواله؟!.
أيها المسلمون: إن الله -سبحانه- لا يظلم الناس شيئًا، فلا يجعل خلقه يوم القيامة سواء، فالخلق في الآخرة متفاوتون بحسب أعمالهم. فأهل الجنة والثواب وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة؛ فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم.
وأهل النار والعقاب متفاوتون بحسب أعمالهم، فلا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرؤوس كالرئيس، فالله -سبحانه- يجازي كلاً بحسب عمله، وبما يعلمه من مقصده: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 132].
والناس في الآخرة متفاوتون في النعيم والعذاب كما تفاوتوا في الدنيا بالعمل. فالأرواح الطيبة في الأرض تكون في الجنة مجاورة للأرواح الطيبة، وفوق ذلك مجاورة ملك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم.
أما الأرواح الخبيثة فلا يمكن أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة في مقام الصدق بين الملأ الأعلى، فلا يليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسمى، والدرجات العلى، روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض، وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما تشارك فيه الحيوان البهيم، بل قد تزيد على الحيوان البهيم، ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال -سبحانه-: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال: 22].
فلا يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم: 35 - 36]. وقال -سبحانه-: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة: 18-20].
فالنفس الشريفة لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ، والنفس الخبيثة بضد ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها من الأرواح والأعمال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ" [أخرجه البخاري: 3336، ومسلم: 2638].
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
اتقوا الله -عباد الله- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يومَ ينفخ في الصورِ، ويبعث من في القبورِ، ويظهرُ المستورُ، يومَ تبلىَ السرائرَ، وتُكشَفُ الضمائرُ ويتميزُ البرُ من الفاجر.
واعلموا -أيها الفضلاء- أن السابقين في الدنيا إلى الإيمان، هم السابقون إلى الجنان، وأن السابقين في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات، وأن مراتب الناس عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله، ذكرهم الله في آيات جامعة، قال تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة: 88- 96].
فالناس ينقسمون يوم القيامة على درجات: مقرب له الروح والريحان، وجنة النعيم. ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة، فهو سالم غانم, وظالم بتكذيبه وضلاله فله نُزل من حميم، وتصلية جحيم.
أيها الأحبة: إن درجة النبوة, والصديقية, والربانية, ووراثة النبوة, وخلافة الرسالة, تلك هي أفضل درجات الأمة في الدنيا والآخرة، ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من عَلِمَ بتعليمهم وإرشادهم أو عَلَّم غيره شيئاً من ذلك كان لهم مثل أجره ما دام ذلك جارياً في الأمة على آباد الدهور والأزمان. قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 69-70]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا" [أخرجه مسلم: 2674].
أيها الناس: إن الله لا يظلم الناس شيئًا، وإن دخول كفار الإنس والجن النار إنما هو بعدل الله، ودخول مؤمني الإنس والجن بفضل الله ورحمته، فرحمته -سبحانه- سبقت غضبه، والفضل أغلب من العدل، ولهذا لا يدخل النار إلا من عمل أعمال أهل النار، وأما الجنة فيدخلها من آمن وعمل صالحاً، ويدخلها من لم يعمل خيراً قط، بل ينشئ الله لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه، ويرفع بها درجات العبد من غير سعي منه، بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين، وصلاتهم، وصدقتهم، وأعمال البر التي يهدونها إليه، بخلاف أهل النار، فإن الله لا يعذب فيها أحداً بغير عمل أصلاً. والجميع متفاوتون في الدرجات والكرامات والعقوبات بحسب أعمالهم.
أخي الكريم: أين أنت غدًا يوم يقوم الناس لله رب العالمين؟! هل حاسبت نفسك في صلاتك وأرحامك؟! هل رجعت عن ذنوبك وتبت منها؟ أين أنت من منازل الصالحين وأعمال المقربين؟!.
أسأل الله أن يدخلني وإياكم في عباده الصالحين، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأخرتنا التي إليها معادنا، وأجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي