الله تعالى أكرمنا وتفضَّل علينا، بأنْ جعلنا مُتوسطِّين مُعتدلين في كلِّ شيءٍ، وما عدا الوسطِ فأطرافٌ داخلةٌ تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمةَ وسطاً في كلِّ أمور الدين، وسطاً في الأنبياء، بين مَن غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، ووسطاً في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى، وجعلها وسطاً في أمورِ العبادات والدين، والأخلاق والسلوك، والتعامل والتربية.
الحمد لله الذي جعلنا من الأمة الوسط، التي لا حرج في شرائعها ولا شطط، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أكرمنا ومنَّ علينا بهذا الدين، وجعله رحمةً وهُدىً للعالمين، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبده ورسولُه، كان يُحب السَّماحةَ والتيسير، ويكره التكلُّف والتشدُّدَ والتَّنفير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -معاشر المسلمين-، واعلموا أنَّ خيرَ الأمور أوسطُها، وأبعدُها عن التكلف والتصنع.
والتوسُّطُ في كلِّ شيءٍ: منهجٌ شرعيٌّ ربَّانيّ، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا).
فالله تعالى أكرمنا وتفضَّل علينا، بأنْ جعلنا مُتوسطِّين مُعتدلين في كلِّ شيءٍ، وما عدا الوسطِ فأطرافٌ داخلةٌ تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمةَ وسطاً في كلِّ أمور الدين، وسطاً في الأنبياء، بين مَن غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، ووسطاً في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى، وجعلها وسطاً في أمورِ العبادات والدين، والأخلاق والسلوك، والتعامل والتربية.
ومن زاد عن التوسط والاعتدال: فقد دخل في التكلف المذموم، الذي نهى الله تعالى نبيَّه أنْ يكون منهم، فقال الله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).
وقال عمر -رضي الله عنه-: "نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ". رواه البخاري.
والتكلف: هو كلُّ فعلٍ أو قولٍ لا مصلحةَ فيه، يكون بمشقةٍ أو بتصنعٍ، أو على خِلافِ العادِة، وهو مضرٌّ بالعقل أو البدن أو الدِّين.
أما إذا كان فيه مصلحةٌ راجحة، فالتكلُّف الْمُعتادُ ليس مذموماً، كمن يتكلَّف قيامَ الليل، وصيامَ النافلة، وحفظَ القرآن، وتعلمَ العلمِ وشرائع الإسلام.
والتكلُّفُ مذمومٌ في كلِّ شيء، في الدين والدنيا، في العادات والعبادات، في الظاهر والباطن.
وسأذكر أمثلةً للتكلُّف المذموم، الْمُنتشرِ بين كثيرٍ من الناس، وكم أدخل عليهمْ هذا التكلف من مفاسدَ وأضرارٍ كثيرةٍ، ولو تركوا التكلفَ وتعاملوا بالمنهج الوسط، والسليقةِ الْمُعتادةِ التي لا تكلُّف فيها: لأراحوا واسْتراحوا.
فمن التكلُّف المذموم، التكلف في العبادة والطاعة، وهو أشدُّ التكلُّفِ وأبشعُه، وهو الذي تسبَّب في ضلال الخوارج، وتسبَّب في جعلِ الدين غُلًّا وحرجاً لكثيرٍ من الناس، والدينُ منهم براء.
وقد ثبت أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، فقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟!"، قَالَتْ: فُلاَنَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا، قَالَ: "مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ". متفق عليه.
والله تعالى أكرمنا بالحنيفيَّةِ السَّمْحَةِ، والْملَّة الرَّحبة، التي ما شرعها الله إلا لمصلحتنا، ولا فرضها إلا رحمةً بنا.
ومن أعظم ما اتَّصفتْ به شريعتُنا، أنها جاءت بالتيسير على العباد، لا تعنُّت ولا مشقَّة فيها.
وهذا الذي أراده الله بنا، حيث قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)، وهو يريد أنْ يُخفِّف عنا -جل وعلا-: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ).
وفي صحيح البخاري عن النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا".
وقد كان نبيُّنا وإمامنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحبّ ما فيه تيسيرٌ وتخفيفٌ على الناس.
قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتْرُكُ الْعَمَلَ، وَإِنَّهُ لَيُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَسْتَنَّ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ". قَالَتْ: "وَكَانَ يُحِبُّ مَا خَفَّ عَلَى النَّاسِ". رواه الإمام أحمدُ بإسنادٍ صحيح.
بل إنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خُيِّر بين أمرين لا يختار إلا الأيسر والأسهل منهما، لا يختار ما فيه المشقةُ والعنتُ أبداً؛ قَالَتْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ، إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا". متفق عليه.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وَمِلَّتُهُ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ، الَّتِي لَا ضِيقَ فِيهَا وَلَا حَرَجَ، بَلْ هِيَ حَنِيفِيَّةُ التَّوْحِيدِ سَمْحَةُ الْعَمَلِ، لَمْ تَأْمُرْ بِشَيْءٍ فَيَقُولُ الْعَقْلُ: لَوْ نَهَتْ عَنْهُ لَكَانَ أَوْفَقَ، وَلَمْ تَنْهَ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ الْعَقْلُ: لَوْ أَبَاحَتْهُ لَكَانَ أَرْفَقَ، بَلْ أَمَرَتْ بِكُلِّ صَلَاحٍ، وَنَهَتْ عَنْ كُلِّ فَسَادٍ، وَأَبَاحَتْ كُلَّ طَيِّبٍ، وَحَرَّمَتْ كُلَّ خَبِيثٍ، فَأَوَامِرُهَا غِذَاءٌ وَدَوَاءٌ، وَنَوَاهِيهَا حِمْيَةٌ وَصِيَانَةٌ، وَظَاهِرُهَا زِينَةٌ لِبَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا أَجْمَلُ مِنْ ظَاهِرِهَا، شِعَارُهَا الصِّدْقُ، وَقَوَامُهَا الْحَقُّ، وَمِيزَانُهَا الْعَدْلُ، وَحُكْمُهَا الْفَصْلُ". انتهى كلامه.
ورُبَّما أدَّى التكلف في العبادة إلى حالة الوسوسة، وهذه آفةٌ خطيرةٌ، وعاهةٌ مُهلكةٌ، تُؤدِّي بصاحبها إلى المرض والكآبة، بل وأوصلتْ بعضَهم إلى الكفر والعياذُ بالله.
ومن التَّكلُّفِ المذموم -يا أمة الإسلام- التكلُّفُ في الفتوى والإجابة، وذلك بأن يقول بلا علم، أو يُجيب السائل بما لا ينفعه.
فالكثير من الناس يتكلفُ الفتوى والإجابةَ حينما يُسأل؛ لئلا يُظنَّ به أنه ليس بعالمٍ أو عارف.
وقد كان كبار العلماء من الصحابة والتابعين، لا يتكلفون علم ما لم يعلموا، بل ينطقون بـ"لا أعلمُ" بكلِّ سهولة، ودون أدنى حرج.
فهذا ابن عمرَ -رضي الله عنه- سُئل عن شيءٍ فقال: لا عِلْمَ لي به. فلما أدبر الرجل قال لنفسه: سُئل ابن عمرَ عما لا علم له به فقال: "لا علم لي به".
وهذا القاسم بن محمد -رحمه الله- يُسأل فيقول: لا أدري، لا أعلم، فلما أكثروا عليه قال: "والله ما نعلم كلَّ ما تَسألون عنه، ولو علمنا ما كتمناكم، ولا حَلَّ لنا أنْ نكتمكم".
وثبت في صحيح مسلمٍ، أنَّ رجلاً قال لأحد علماء السلف الصالح: "إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ، عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيءٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ، فَلاَ يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ وَلاَ فَرَجٌ، فَقَالَ لَهُ: أَقْبَحُ مِنْ ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ، أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ".
وسأل رجلٌ مالكَ بنَ أنسٍ -رحمه الله- عن مسألة فقال: لا أُحسِنها، فقال الرجل: إني ضربت إليك من كذا وكذا لِأَسألك عنها، فقال له: "فإذا رجعتَ إلى مكانِك وموضِعِك فأخبرْهم أني قلتُ لك: لا أحسِنها".
واعلموا -معاشر المسلمين- أنَّ الإجابة بـ"لَا أعْلَم"، أولى من قولِ: الله أعلم؛ فقد روى البخاريُّ عن عُمَرَ -رضي الله عنه-، أنه قال يَوْمًا لأَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَة نَزَلَتْ (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ)؟! قَالَوا: الله أَعْلَمُ، فَغَضِبَ وَقَالَ: "قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ".
وذلك لأنَّ الْمسؤول عندما يُجيب بلا أعلم، يُجيب بجوابٍ واضحٍ قاطع، وهو دليلٌ على صدقه وتواضعه، وأما أن يقول في جوابه: الله أعلم، فليست إجابةً قاطعة؛ لأن الله يعلم جميع الأشياء، ومن يُجيب بذلك قد يكون لشعوره بالحرج، إنْ أخبر بأنه لا يعلم، وقد تكون المسألة التي سُئل عنها يسيرةً سهلة، فمن التواضع وهضم النفس والتجرُّدِ، أنْ تُجيب بلا أعلم، حين لا تعلم.
نسأل الله تعالى أنْ يُجنِّبنا القول عليه بلا علم، وأنْ يرزقنا الاعتدال في الأقوال والأعمال، إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
الحمد لله رب العالمين، جعل التَّوسُّط من أعظم سماتِ المسلمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: ومن التكلف المذموم: التكلف في إكرام الضيف، فالكثير من الناس، يتكلَّف ويشقُّ على نفسه عند إكرام ضيفه، وربَّما اسْتدان لكي يشتري طعاماً يُقدِّمه له، وهذا لا ينبغي أبداً، فإنه سيُحرج نفسه وضيفه أيضًا.
قَالَ شَقِيقٌ -رحمه الله-: "دَخَلْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي عَلَى سَلْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَقَرَّبَ إِلَيْنَا خُبْزًا وَمِلْحًا فَقَالَ: لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَانَا عَنِ التَّكَلُّفِ، لَتَكَلَّفْتُ لَكُمْ". رواه الحاكم وصححه الألباني.
وقال الفضيل -رحمه الله-: "إنما تقاطع الناسُ بالتكلف، يزور أحدُهم أخاه فيتكلف له، فيقطعه ذلك عنه".
وليس هناك ضيفٌ أعظمَ وأجلَّ من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومع ذلك لم يكن الصحابةُ الكرام -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- مع حُبِّهم وتعظيمِهم له يتكلَّفون له إذا حلّ ضيفاً عليهم؛ فعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ. رواه البخاري.
ولا يعني هذا -يا أمة الإسلام- أنْ لا نُكرم الضيف إكرامًا يليق به، فمن حلَّ عنده أضيافٌ غرباءُ أو فُضلاءُ، فلم يُقدِّمْ لهم طعامًا مِنْ أجودِ وأحسنِ الأطعمة، وهو قادرٌ على ذلك بلا اسْتدانةٍ ولا تَكلفة، فهو نوعٌ من البخل وقلَّةِ الْمُروءة، وإنْ احتجَّ بأنه لا يُحب الإسراف، فالله تعالى ذكر إكرامَ إبراهيمَ -عليه السلامُ- لأضيافه، في معرض الثناء والمدح، وقد قدَّم لهم أحسن وأجود الطعام في زمانه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي