لا يفتَأ المتأمِّل في أدواء أمّتنا وعِللها المزمِنة أن يرى في بيداءِ الأحزان أشباحَ الأوهام تتقافز في أضواء بواطلِ الأحلام، فإذا ما دنَا منها وقف على فِئةٍ نشاز سَمجةِ الفكر صفيقةِ الروح ضيِّقة العطَن ضعيفة الرّأي عميقةِ العُقَد والنّزوات، أُرخِصت لدَيها الأعمار، فقامت بسَفك الدّماء وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان
أما بعد: أوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ فإنها الأمن عند الخوف، والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسفل، هي وصية الله للأولين والآخرين، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون، وتأملوا في حوادث الدهر وقوارعه العبر، فإنهن صوادق الخبر، حوادث فيها مزدجر، ومتغيرات فيها معتبر، تُعير مرة، وتسلب أخرى، وتفسد عامرًا، وتعمر قصرًا.
أيّها المسلمون: عند حلول حدَثٍ أيِّ حدَث يتساءل الناسُ بعامّتهم في سكرةٍ: ماذا حدث؟! ولماذا حدث؟! وكيف حدَث؟! وبعد مُضيِّ الحدَث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعدَ الحدَث؟! في تفكّرٍ ومحاسبات، ومعالجَة ومراجعات، وتحليل ومتابعاتٍ، وأبحاث ودراسات، تربِط النتائجَ بالمقدّمات، وتصل الأسباب بالمسبَّبات، لاسيّما فيما يمسّ دينَ الأمّة وأمنَ المجتمعات، وما يعكِّر استقرارَ الشعوب والبيئات، وما يعوق بناءَ الأمجاد وإشادة الحضارات، ويعبث بالمكتسبات والمقدَّرات، تشخيصًا محكمًا للدّاء، ووصفًا ناجعًا للدّواء.
معاشرَ المسلمين: لا يفتَأ المتأمِّل في أدواء أمّتنا وعِللها المزمِنة أن يرى في بيداءِ الأحزان أشباحَ الأوهام تتقافز في أضواء بواطلِ الأحلام، فإذا ما دنَا منها وقف على فِئةٍ نشاز سَمجةِ الفكر صفيقةِ الروح ضيِّقة العطَن ضعيفة الرّأي عميقةِ العُقَد والنّزوات، أُرخِصت لدَيها الأعمار، فقامت بسَفك الدّماء وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان.
ولا يكادُ عجبُ الغيور يأخذ بالأفول من ضلالِ تلك العقول التي اتَّخذت وراءها ظهريًّا المعقولَ والمنقول، فيتساءل بأسًى: ما بال هؤلاء يرتكِسون في حمأة الجهل الوبيل، ولا يصيخون إلى النّداء العلويّ الجليل الذي عظَّم حرمةَ الإنسان، ونأى به عن مساقِط الغلوّ والإجرام؟! ما لهؤلاء القوم قد افترستهم أفكارُ الضّلال واستقطبتهم موجاتُ الوبال؟! أذلك ناتجٌ عن عمَى الفكر والبصيرة، أم ضحالةِ العلم والتربية، أم سطحيّة الوعي والمعرفة، أم زيف شعاراتٍ وشرور، أم جهل ونزَق وغرور وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أم نتيجة لتراكمات نفسيّة وضغوطٍ اجتماعيّة، أم ماذا؟!
إخوةَ الإيمان: وعلى تلك السلالة ينبعِث صوتٌ مصدَّرٌ بأنّاتِ الأمّة، ومسطَّرٌ بآلامها، ومذيّلٌ بتوقيعِها المخضّب بالدّماء، وينطلق قولٌ يفور من أعماقِها المحزونة ويتصاعد من أنفاسِها المكلومة غداةَ يومِ الفاجعة النّكراء والجريمة الشّنعاء التي حلَّت بعاصمة المجدِ والشّموخ وحاضرة التوحيد والتأريخ، عاصمةِ بلاد الحرمين الشريفين، رياضِنا النّضرة، رياضِ العقيدة والسّلام وربوعِ الأمن والأمان ونجدِ المحبّة والإخاء ورمزِ الحضارة والإباء، هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان؟!
أيها المسلمون: موضوع خطبتنا في الجمعة الماضية، كنا نتكلم عن نعمة الأمن في هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، وما يفعله أعداء الإسلام والمسلمين من أعمال إرهابية، ينتج منها التخريب والتدمير وتقتيل الأنفس البريئة، وما وجد معهم من أسلحة مدمرة، وفي خطبتنا هذه يحتار المرء من أين يبدأ الحديث، ويعجز اللسان عن وصف ما حصل من مصيبة، حيث فجع الجميع بحادثة دخيلة غريبة على هذه البلاد المسلمة وأهلها، حادثة التفجير.
نعم، تتوالى حلقاتُ سلسلةٍ من الأحداثِ في بلادِ الحرمَين الشّريفين، يذهَل المسلم لها ويتملَّكه العَجَب، بَل ويحَار القلم وتَعجز الكلماتُ مِن هول ما يَرى ويسمع. إنَّ ما حدث في الرياض من حوادثَ مؤلمةٍ قام بها فئة ضالة خونة أُشربوا في قلوبهم الحِقدَ، وأوضَعوا في العدوان، ساءَهم تتابُع هذه النعم وترادفُ هذا الخير وتعاقبُ هذا الإكرام، فشَمَّروا عن سواعِد الإثم واتَّبعوا خطواتِ الشيطان، فكان عاقبةَ ذلك هذه الجريمةُ الكبرى التي اقترفتها أيديهم على بِطاح مكّة بلدِ الله الحرام، وإذا هي حلقةٌ إجراميّة جديدة لحِقت بسابقاتِها التي سلفت في الرّياض وفي المدينة وفي حائِل؛ لتكَوِّن مجتمعةً عملاً إرهابيًّا آثمًا، يأباه الله ورسوله وصالحُ المؤمنين في هذه البلاد وفي كلِّ الدّيار وفي جميع الأمصار؛ إذ كيفَ يكون أمرًا مقبولاً ما وقعَ في مدينة الرياض من استهداف رجال الأمنِ الذين كانوا يؤدّون ما وجبَ عليهم من مسئولية كبرى في الحفاظ على أمن هذا البلد المعطاء.
فيا أيها الإخوة: هل يقبل هذا العمل المشين مؤمنٌ صادق يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربِّه؟! وهل يقبل بهذا كلُّ من له بقيّةٌ من عقل أو صُبابة من فِكر أو أثارة من عِلم؟! فضلاً عن أن يُجيزه أو يحرِّض عليه أو يقرَّ به أو يُسَرَّ به، ثمّ أوَليس هؤلاء الرّجال الذين طالتهم يد الغدر القذرة فقضَوا نحبَهم مِن رجال الأمن، وجُرح منهم ومِن غيرهم، أوَليس هؤلاء بمسلِمين؟! راح ضحيتها أرواح بريئة، وخلفت الدماء والأشلاء والجراح من رجال الأمن، رجال مجاهدين في سبيل الله، ثم لهذا الوطن الغالي على قلوبنا، نعم أقول: رجال الأمن المخلصين. إننا لا نجد لها تأويلاً ولا للفاعلين مبررًا سوى الهمجية والجهل والعصبية.
لقد تضمنت هذه الحادثة إزهاقًا للأرواح وسفكًا للدماء وترويعًا للآمنين وتشويهًا لصورة مجتمع المسلمين ومدنهم وإضرارًا للمصالح عامة، ومن ثم فالحادثة بكل المعايير والمقاييس ومن كل المنطلقات حادثة تخريب في سلسلة حلقات تهدف إلى إضعاف مستوى الأمن في هذه البلاد، وتهدف إلى إشاعة الفوضى، والمستهدف الأول والأخير هو الدين والعقيدة.
قام هؤلاء المجرمون بتنفيذ فعلتهم الإجرامية في عاصمة بلادنا وذلك تحت جنح الظلام، حيث قاموا بعملية انتحارية، ونتج عنها تقتيل عشرات الأنفس البريئة، وتمزيق أجساد سليمة, وترويع الآمنين بفعلتهم الشريرة، وتدمير منشأة أمنية، ولا نملك إلا ونقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون: إنه لمن المؤسف حقًّا ومن المحزن حقًّا أن يسمع المسلم بين وقت وآخر ما تهتز له النفوس حزنًا، وترتجف له القلوب أسفًا، وما يتأثر به المسلم حيث كان، وأينما كان من تلك التفجيرات الآثمة وتلك الاعتداءات الظالمة، والتي يقوم بها قوم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، وأجرموا واعتدوا، وبغوا وأفسدوا فسادًا عظيمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن التفجير الذي وقع ظهر يوم الأربعاء الموافق 2/3/1425هـ في مدينة الرياض - حرس الله بلاد الحرمين وحفظها وأدام الله عليها الأمن والأمان- لقد دوى صوت التفجير معلنًا عن وجود فئة ضالة مخربة مجرمة، لا يروق لها أن تأمن البلاد ويطمئن العباد، فامتدت يد آثمة في رابعة النهار بعملية إرهابية انتحارية؛ لتخرب وتدمر وتروع وتفسد في الأرض، وتهز أمن البلاد والعباد، وتخوف المقيم والوافد، وفي أي أرض؟! إنها أرض الحرمين، في أرض دولة التوحيد التي هي مقصد كل الناس في جميع الدنيا، ينظرون إلى بلادهم على أنها بلاد أمن واطمئنان، فإذا يد الغدر الآثمة تبيت الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء، ومن المستفيد من ذلك إلا أعداء الإسلام والمسلمين.
إنها جريمة بشعة وعمل إرهابي قبيح وفعل دنيء ونتاج فكر خبيث، لا يقدم عليه إلا مريض قلب وضعيف دين وإنسان فيه هوس وفيه حب للشر والفساد والإفساد، أبدًا لا يقدم عليه عاقل يحترم نفسه، ولا يقدم عليه خيِّر يخاف الله ويرجوه، ولا يقدم عليه مواطن وفيٌّ يحس بأمن الجماعة ويتحرك بما ينفع الناس.
إن من أقدم على هذا العمل هو عدو لله وللإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء، بل إنه عدو لنفسه أولاً، ثم عدو لأهله وقومه وجيرانه والمستجيرين به والمستأمنين الذين قدموا ليعملوا وليشيروا؛ ليستفاد من خبرتهم بعهد ووعد وميثاق، فإذا هم يغتالون وهم نائمون، وتتمزق أجسادهم أشلاء في ديار الإسلام والمسلمين.
إن هذا العمل قبيح وغدر فظيع وجرم مروع، نبرأ إلى الله من أن يرضى به مسلم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم ما الفائدة؟! الفائدة إضرار بأمن البلاد والعباد، وإضرار باستقرار البلاد، وإضرار بسمعة الإسلام والمسلمين، ولا يخدم هذا العمل إلا أعداء الإسلام والمسلمين. أقول: الإسلام الذي هو دين الله الذي ارتضاه تبارك وتعالى لعباده، وقد جاء حافلاً بالمضامين الهامة التي تحفظ للناس أمنهم في دينهم وفي أحوالهم وفي دمائهم وفي أعراضهم؛ ومن أجل هذا سلك الإسلام مسالك عديدة في حفظ الأمن وتأكيده، فحرم الله تبارك وتعالى الاعتداء وجعله جريمة من الجرائم وكبيرة من الكبائر، فلا يجوز لمسلم يرجو وجه الله والدار الآخرة أن يعتدي على دماء معصومة وعلى أموال معصومة، وجعل الله المحبة في الله وشيجة من الوشائج بين أفراد المجتمع، فلا يحل لهم أن يعتدوا على أموال بعض، ولا على دماء بعض، ولا على أعراضهم أيضًا، فحرم الإسلام الاعتداء، وجعل الدماء والأعراض والأموال معصومة.
أيها المسلمون: لقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية في العام الماضي عام 1424هـ- بيانًا بهذا الخصوص، فنص البيان:
إنه إذا تبين هذا، فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لا يقره دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه:
أولاً: أن هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها.
ثانيًا: أن فيه قتلاً للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام.
ثالثًا: أن هذا من الإفساد في الأرض.
رابعًا: أن فيه إتلافًا للأموال المعصومة.
وإن مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، ويحذرهم من مكائد الشيطان، فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك، إما بالغلو بالدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته والعياذ بالله، والشيطان لا يبالى بأيهما ظفر من العبد؛ لأن كلا طريقي الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه.
وما قام به من نفذو هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي: " من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة " أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي: " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجا بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا " وهو في البخاري بنحوه.
أيها الإخوة المسلمون: يا أهل الغيرة والإيمان والإسلام، إن الإرهاب جريمة عالمية ليست مقصورة على بلد دون بلد، والإرهاب قد وجد في القديم وفي الحديث، الإرهاب هو الفساد في الأرض وحب الجريمة وحب الإضرار بالناس، وهذا يوجد حيثما يوجد البشر في القديم وفي الحديث، وفي الماضي والحاضر، وفي ديار الإسلام وفي غير ديار الإسلام.
لقد وجد الإرهاب في أول مجتمع على وجه الأرض يوم قام قابيل بقتل أخيه هابيل، لا لشيء إلا لحب الشر عند القاتل وبغض للخير الموجود عند المقتول، لماذا يكون هذا المقتول صالحًا؟ ولماذا يكون هذا المقتول متقبَّلاً منه العمل؟ ( قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ ) [المائدة:27]، لماذا؟ لأن هذا موفّق للخير، وهذا عاجز عن الوصول إلى الخير، فلم يجد حيلة أمامه سوى الانتقام والتخريب والإفساد، هذا أول عمل إرهابي وجد على ظهر الأرض.
وفي المجتمع النبوي في عهد النبي جاء قوم بهم من الفقر والبأس والحاجة والشدة ما جعل النبي يدعو المسلمين أن يتصدقوا عليهم، ليكسوا عريهم، ويشبعوا بطونهم، ثم ألحقوا بإبل الصدقة؛ ليشربوا من ألبانها، ويستفيدوا منها، ويعيشوا مع رعاتها، فلما صحت أبدانهم وزانت أحوالهم بغوا وطغوا، فقتلوا رعاة النبي، واستاقوا الإبل، فأرسل النبي في أثرهم من جاء بهم من المسلمين، فجيء بهم إلى المدينة، فقتلوا وسمل النبي أعينهم جزاءً وفاقًا لعملهم الإرهابي القائم على التخريب والإفساد في الأرض.
ومنذ ذلك الحين وأحداث الإرهاب والتفجير والقتل والتدمير تجتاح الدنيا من شرقها إلى غربها، هذا عمل الخوارج الذين هم في الصدر الأول، وفي كل وقت يظهر فيه دعاة التكفير ودعاة الفتن المستبيحون لأعراض المسلمين ودمائهم وأموالهم.
إن الخوارج في كل وقت وحين هم الذين يقدمون على هذه الأعمال الشنيعة والأفعال القبيحة، لماذا؟ لأنهم كما وصف النبي كلاب أهل النار، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، وقد أثبت التاريخ مصداقية هذا الخبر عن النبي، فرأى الناس الخوارج ينتسبون للإسلام، ويقتلون المؤمنين، ويروعون الآمنين، ويفسدون في ديار الإسلام والمسلمين، وهم جبناء أذلاء، لم يستطيعوا أن يواجهوا في وضح النهار، ولم يستطيعوا أن يقارعوا الحجة بالحجة، فلجؤوا إلى الخيانة والغدر والعمل الآثم. إن من قام بهذا التفجير أشخاص جبناء رديئون خسيسو الأنفس والطباع ذليلون.
أيها الإخوة في الله: لقد وجد الإرهاب في دول أكثر منا تقدمًا في التقنية الأمنية وأكثر استعدادًا بالأجهزة والعدد، ومع ذلك وجد الإجرام ووجد الفساد، فهذه سنة من سنن الله، وهذا قضاء من أقضيه الله سبحانه وتعالى، لا يعني الضعف في البلاد، ولا يعني التقصير من أهلها، ولكنه ابتلاء وامتحان واختبار؛ ليظهر الله به أهل الإيمان من أهل النفاق، أهل الإيمان يشجبونه ويستنكرونه، ويبغضون العمل، ويدعون على الفاعل، ويتضامنون مع أولياء الأمور، وأهل النفاق يبررون ويفرحون، ويسرهم أن يروا النكد والخوف والذعر في البلاد.
إن هذه الأمور التي تحدث إنما هي ابتلاء واختبار؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، ويظهر صدق الولاية عند أهل الإيمان، وصدق العزم عند أهل الإحسان، وصدق الاهتمام بأمر المسلمين عند من يدعون الخير، ويظهر أهل النفاق وأهل التبرير وأهل التسويف والأعذار، أعاذنا الله وإياكم من أعمال المجرمين وأفعال المفسدين المخربين، حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أسأل الله أن يرفع راية المسلمين، ويستر زلاتنا، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن من سلك طريق التفجير والإرهاب لا يحقق مقصده، ولا يصل إلى هدف، ولا يحصد إلا الندم والخزي والبوار.
إن الإرهابيين هم خفافيش الظلام، وإنهم كالعقارب والحيات يلدغون ويضرون بالناس، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا، لقد رضوا بأن يكونوا مصدر إزعاج وقلاقل وفتن، وعليهم من الله ما يستحقون من لعائنه وغضبه وعظيم انتقامه.
أيها الإخوة: إن هؤلاء قرناء لإبليس الذي قطع العهد على نفسه أن يفسد البلاد والعباد، وأن يضلل الناس ويغويهم، فهؤلاء جنده ومعاونوه، يهيئ ما ينفذون له بما يمليه عليهم، لا يعجبهم أن يأمن الناس، ولا يعجبهم أن يطمئن الناس، ولا يعجبهم أن تزدهر البلاد، ولكن يعجبهم أن يروا الأشلاء والدمار والأنقاض والدماء والتخريب والتخويف، لتزدهر أطماعهم ولتنمو تجارتهم المحرمة.
أيها المسلمون: إنَّ العالمَ الإسلاميّ مستهدف، وهذه البلاد خاصّة مستهدفةٌ في دينها وأمنِها ووحدتها وخيراتها، والواجبُ علينا تفويت الفرصة على المتربّصين، والمحافظةُ على مكتسَبات الدّعوة والوطن، والتعاملُ مع الأحداث بالشّرع والعقل، ولا بدَّ من تماسكِ الصّفّ، مع وضعِ أيدينا في أيدي ولاةِ أمرنا وعلمائنا، مع بذل النّصح لهم جميعًا بالحكمَة والموعظة الحسنة.
إنَّ هذه البلادَ قامت على أسُسٍ راسخة ومبادئَ ثابتة ومنهج إسلاميّ، ومَن يرومُ تقويضَه أو زعزعتَه بمسالك العنف والتّفجير أو الاصطياد في الماء العكِر أو التذويب أو التمييع أو النيل من دعاةِ البلاد أو حلقات التّحفيظ أو محاضِن الدعوةِ فلن يبلغَ أحدٌ منه مرادَه، فبلاد الحرمَين كيان راسخٌ في بنيانِه، متماسِك في وَحدته، متراصّ في صفوفه، تتكسّر دونه مسالك الانحراف والتصرّفاتُ اللاّمسؤولة، ولن تبلغَ هذه الفئة أو غيرُها النيلَ من ثوابتنا وأمنِنا وقيَمنا ومناهجنا وهيئاتِ المعروف ومحاضنِ الدّعوة لدينا.
إنَّ هذه البلادَ تمثّل مركزَ الثقل وإشعاع الخير في العالم، وستبقى كذلك -بإذن الله-، والمروّجون للفساد والإفساد وطمس معالم التميُّز في التربية والتعليم يدمّرون الأمّة، ويضربونها في عُقر دارها، وستعود أعمالهم وبالاً عليهم، يجرّون أذيالَ الخيبة والهزيمة، قال الله تعالى: (وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) [القصص:57].
أيها المسلمون: إن كان الإرهاب موجودًا في دول العالم فإنه في بلادنا - ولله الحمد - هو الأقل، وهو النادر والأقل جدًّا، وهذا بفضل الله تعالى ثم بفضل تطبيق الشريعة الإسلامية وتكاتف الراعي والرعية، وإذا أردتم أن تتأكدوا من التضامن فانظروا الغضبة الكبرى التي عمت الناس جميعًا في بلادنا إثر سماع هذه الأخبار.
وإذا كنتم تريدون أن تعلموا الآثار الحسنة لهذه الأعمال الإجرامية التي تغيظ الفاعلين والمخططين لها فانظروا تساؤل الدول جميعًا واستنكارها وشجبها وتضامنها مع بلاد الحرمين الشريفين -حرسها الله-؛ لما لها من المكانة ولما يحقق استقرارها من الخير لبلاد العالم أجمع.
إن بلاد العالم لا يسرها أن تضطرب الجزيرة العربية، والمسلمون قاطبة في كل ديار الدنيا لا يرضيهم أبدًا، ولا يشرح صدورهم أن يضطرب الأمن في بلاد الحرمين، فهي مقصد حجهم، وهي قبلة صلاتهم، وكل مسلم مخلص يدعو من قلبه أن يزيدها الله أمنًا واطمئنانًا، وهذه البلاد -بحمد الله- لا تزيدها الأحداث والمصائب إلا تكاتفًا وقوة -بحمد الله-، حدب من الراعي على رعيته، وتجاوب من الرعية مع راعيها، ولله الحمد والمنة.
أيها المسلمون: الأمْنُ مطْلبٌ شرْعيٌّ ومِنَّةٌ إِلَهيةٌ ونفْحةٌ ربَّانيةٌ، امْتَنَّ اللهُ به على عبادهِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابهِ كما قال سبحانه: (فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الذي أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ) [قريش:3-4].
والمحافظةُ على الأَمْنِ مسؤوليةُ الجميع حُكَّامًا ومحكومينَ، رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، والأَمْنُ ليس هو أَمْنُ الأجْسام فحسْب، بل هو أمْنُ العقولِ والأبدان وسدُّ منافذِ الشرِّ، وأعْظم سببٍ لحفْظِ الأَمْنِ هو الإيمانُ باللهِ وتطْبيقُ شرْعه والاِحْتكامُ إلى كتابهِ وسُنَّةِ رسولهِ وتنْقيةُ المجْتمع مما يضادُّه، قال تعالى: (لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82].
في ظلِّ الأَمْنِ تُعْمَرُ المساجدُ وتقامُ الصَّلواتُ وتُحْفظ الأعْراضُ والأمْوالُ وتُؤمَنُ السُّبُلُ ويُنْشَرُ الخيْر ويعمُّ الرَّخَاءُ وتُنْشَرُ الدَّعْوَةُ، وإذا اخْتَلَّ الأَمْنُ كانتِ الفوْضى، فلْنكنْ كلُّنا جنودًا في حفْظ الأَمْنِ، أَمْنِ العقولِ والقلوبِ وَأَمْنِ الأجْسادِ والأعْراضِ، ولتحْقيق ذلك لا بدَّ أن نبْدأ في تطْبيق شرْع اللهِ في أنْفُسِنَا وفي بيوتِنا ومجْتمعِنا.
أيّها الناس: إنّ أمنَ بلدِكم واجبٌ على الجميع، ويجب شرعًا على من علِم أحدًا يُعِدّ لأعمالٍ تخريبيّة أن يرفَع أمرَه للسلطات لكفِّ شرِّه عن الناس، ولا يجوز التستُّر عليه.
حفِظ الله على هذه البلاد دينَها وأمنَها، وردَّ عنها كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وزادها تمسُّكًا واجتماعًا وألفةً واتِّحادًا.
ألا فليخسأ المفسدون في الأرض، ألا فليرتدوا على أدبارهم، فلن يصلوا إلى ما يريدون، ولن يهزوا من هذه البلاد أي قناة، وإنها بلاد عرفت وجربت مواثيقها، فبلادنا تمد الخير إلى بلاد الدنيا بالإنقاذ والإغاثة والإعانة وتوزيع كتاب الله وتوزيع الكتب الإسلامية ونشر الدعاة، إنها بلاد تصدر الأمن والأمان للعالم، ومع ذلك يريد الحاقدون أن يثنوها عن مسيرتها، فلن يستطيعوا ذلك أبدًا.
نسأل الله تعالى أن يحمي بلاد الحرمين من شرور المعتدين ونيل المجرمين، وأن يكشف ستر هؤلاء الفعلة المعتدين، وأن يمكن منهم لينفذ في بقيتهم حكم شريعة الله المطهرة، وأن يكف البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق قادة هذه البلاد المخلصين لما فيه صالح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين.
ثم اعلموا أن من أفضل الأعمال وأزكاها لهج الألسن بالصلاة والتسليم على النبي الكريم، فصلوا وسلموا عليه كثيرًا صلاة من يحيا قلبه بمحبته، وتهنأ حياته بمنهج سنته.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداءك وأعداء المسلمين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي