أيها المسلمون: لو تفكَّرنا في المآل، وتذكَّرْنا وعْدَ الله ووعيدَه وما أعده لمن أطاعه ولمن عصاه!. ولو جعلنا ذلك نصب أعيننا دائماً، لصلحت أحوالنا، واستقامت أمورنا، ولَعِشْنا عيشةً طيِّبة، وحياة هانئة سعيدة. ذلك أن الإنسان إذا كان يحسب للجزاء حساباً، ويعد للسؤال جواباً، فلن يُقدِم على شيء من الأعمال إلا وهو مطمئنٌ إلى حسن عاقبته، وأنه سينجيه في دنياه وآخرته. ولذا فإن من أنفع الأدوية للقلوب الغافلة عن ذكر الله، المعرضة عن أوامره، الواقعة لنواهيه: تذكيرها ب...
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: لو تفكَّرنا في المآل، وتذكَّرْنا وعْدَ الله ووعيدَه وما أعده لمن أطاعه ولمن عصاه!.
ولو جعلنا ذلك نصب أعيننا دائماً، لصلحت أحوالنا، واستقامت أمورنا، ولَعِشْنا عيشةً طيِّبة، وحياة هانئة سعيدة.
ذلك أن الإنسان إذا كان يحسب للجزاء حساباً، ويعد للسؤال جواباً، فلن يُقدِم على شيء من الأعمال إلا وهو مطمئنٌ إلى حسن عاقبته، وأنه سينجيه في دنياه وآخرته.
ولذا فإن من أنفع الأدوية للقلوب الغافلة عن ذكر الله، المعرضة عن أوامره، الواقعة لنواهيه: تذكيرها بوعد الله ووعيده، وما أعده للمحسن والمسيء من عبيده.
وكتاب الله حافل بهذا الأسلوب الكريم، فهو يربي المؤمنين على الإيمان التامِّ الذي يرثون به الفردوس هم فيها خالدون.
وفي هذه اللحظات سنعيش وقتاً طيباً مع سورة الحاقة، تلك السورة العظيمة التي صورت أحوال الآخرة تصويراً دقيقاً تنخلع له القلوب، وتذرف منه العيون، وتقشعر من أجله الجلود.
استمع إلى تلك الأحوال العظيمة يخبر بها أصدق القائلين في كتابه العظيم فيقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ)[الحاقة: 13].
وذلك حين ينفخ إسرائيل في الصور فتنبت أجساد العباد، وتدخل أرواحهم في أجسادهم، فإذا الناس قيام لرب العالمين.
(وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)[الحاقة: 14] أي: فُتِّتت الجبال واضمحلَّت وخُلِطت بالأرض، ونُسِفَت عليها، فكان الجميع قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عِوَجَاً ولا أمْتَاً.
فبينما كانت جبالاً عظيمة، ورواسي شامخة؛ إذ جاءها أمر ربها، فدُكدِكَتْ، حتى لم تكن شيئاً، قدرةٌ عظيمة، وقوةٌ هائلة، فسبحان القوي العزيز!
أما السماء فإنها تضطرب وتمور، وتتشقق ويتغير لونها، وتهي وتضعف بعد قوتها وصلابتها، وما ذلك إلا لأمرٍ عظيم أزعجها، وكرب جسيم هائل أوهاها وأضعفها.
(وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة: 17].
فهؤلاء الملائكة الكرام على جوانب السماء وأركانها خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته، ومن هؤلاء الملائكة أملاكٌ في غاية القوة يحملون عرش الرحمن.
ثم ذكر سبحانه عرض الناس على ربهم، فقال: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة: 18].
لا تخفى منكم خافية، لا من أجسادكم، ولا من ذواتكم، ولا من أعمالكم، ولا صفاتكم؛ فإنه تعالى عالم الغيب والشهادة، ويُحشر الناس حفاة عُراة غُرْلاً، فحينئذ يجازيهم الله بما عملوا.
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)[الحاقة: 19].
هؤلاء هم أهل السعادة، يُعطَوْن كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزاً لهم، وتنويهاً بشأنهم، ورفعاً لمقدارهم، فيقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ومحبة أن يطَّلِع الخلق على ما مَنَّ الله به عليه من الكرامة: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)[الحاقة: 19].
أي: دونَكُم كتابي فاقرؤوه، فإنه يُبَشِّر بالجنات، وأنواع الكرامات، ومغفرة الذنوب، وستر العيوب؛ والذي أوصلني إلى هذه الحال ما مَنَّ اللهُ به عليَّ من الإيمان بالبعث والحساب والاستعداد لـه بالممكن من العمل، ولهذا قال: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) [الحاقة: 20] أي: أيقنت بذلك.
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) [الحاقة: 22] جامعة لكل ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين، وقد رضوا بها ولم يختاروا غيرها عليها.
(قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ) [الحاقة: 23] ثمرها وجناها من أنواع الفواكه قريبة سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلها قياماً وقعوداً، فيقال لهم حينئذ: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24].
لأنكم كنتم من أهل الأعمال الصالحة، ومن التاركين للأعمال السيئة، فالأعمال سببٌ لدخول الجنة، ومادةٌ لنعيمها. هؤلاء هم أهل السعادة والنعيم المقيم عند ربهم الكريم الرحيم.
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ) [الحاقة: 25-26].
هؤلاء هم أهل الشقاء، يعطَون كتبهم بشمائلهم تمييزاً، لهم وخزياً لهم، وفضيحةً وعاراً، فيقول هذا الذي أُعطِيَ كتابه بشماله: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ)؛ لأنه بُشِّر بالحسرات والخسارة الأبدية.
(يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ)[الحاقة: 27] أي: يا ليت موتتي هي الموتة التي لا بعث بعدها، ثم التفت إلى ماله وسلطانه فإذا هو وبالٌ عليه لم يقدِّم منه شيئاً لآخرته، فتندَّم وتحسر، وقال: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)[الحاقة: 28] أي: ما نفعتني تلك الأموال؛ لأني لم أتصدق، ولم أنفق، ولم أقدِّم منه ما ينفعني.
(ذَهَبَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)[الحاقة: 29] أي ذهب ذلك السلطان والجاه والمنصب والعز، وذهب كل ذلك أدراج الرياح، وذهبت معه المتاجر والأرباح، وحضرت بدله الهموم والغموم والأتراح.
فحينئذ يأمر الله ملائكته الغلاظ الشداد، يأمرهم أن يأخذوا هذا العبد الخاسر المفرط في دنياه الغافلَ عن أخراه، يأمرهم أن يأخذوه فيَغُلُّوه: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ)[الحاقة: 30].
بأن يجعلوا في عنقه غلاً بحلقه، ثم يأمرهم فيقول: (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)[الحاقة: 31] أي قلِّبوه على جمرها ولهيبها.
(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 32] أي: انظموه فيها بأن تُدخَل في دبره وتخرج من فمه، فلا يزال في عذاب أليم مقيم؛ ذلك لأنه كان في دنياه لاهياً، وعن أخراه غافلاً، فليس لـه في ذلك اليوم العصيب شفيع ولا مخلِّص، ولا صديق مشفق، الكل تخلى عنه، والكل تبرأ منه، فلم ير أمامه إلا ما قدم في هذه الدنيا من سوء الفعال التي أوردته هذا العقاب والعذاب الأليم.
الحمد لله الواحد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه والمثيل، والند والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
اما بعد:
أيها المسلمون: ها نحن قد سمعنا أحوال الفريقين، فإما إلى النعيم الأبدي، وإما إلى العذاب السرمدي؛ فالأول سبيل المتقين المطيعين لربهم ولنبيهم، والآخر سبيل أهل الغواية والغفلة.
فيا -أيها المسلم-: بأي الفريقين تريد اللحاق؟ ومع أي الحزبين ترغب في المسارعة والسباق؟ هما دربان ليس لهما ثالث، فإما درب النجاة والجنَّات، وإما درب الندامة والحسرات، فاغتنِم ما تبقى من عمرك في طاعة ربك، علَّك أن تكون من أهل السعادة، ودَع عنك الغفلة، فليست هذه الدنيا سوى وقتٍ قليلٍ، وعرَضٍ زائلٍ؟.
عباد الله: إن السعادة هي الاستقامة على دين الإسلام، واتباع منهج سيد المرسلين، والتزود من الدنيا بالأعمال الصالحات، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل: 97].
وذلك في الدنيا حتى ولو كان قليل مال وجاه وشهرة، وأما بعد الممات وأما في الآخرة: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
وقوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأحقاف: 13].
الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على الإيمان به فلا خوف عليهم بعد موتهم ولا من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنون على ما خلفوا ورائهم بعد مماتهم من حظوظ الدنيا.
أحبتي في الله: والله لا نسعد إلا بالدين؛ إلا بالطاعة؛ إلا بالعبادة، لن تسعدنا شاشات وقنوات؛ لن تسعدنا مباريات وكأس العالم ومتابعتها؛ لن نسعد يوم أن نعلق القلوب بغير الله، لن نسعد –والله- إلا بالقرب من الله.
أسأل الله أن يجعل قلوبنا معلقة به سبحانه.
فيا عبد الله: يا من تعصي الله، يا من لا تقيم لأوامر الله وزنا، ولا لنواهيه قدرا، ولا لمرقبته لك اعتبارا، والله لو لم يكن ينتظرك من الجزاء إلا سكرات الموت لكانت كافية في تنغيص عيشك، وتكدير صفوك، ولكانت جديرة بإيقاظك من غفلتك، فكيف بما بعدها من الأهوال العظيمة التي لا يتصورها عقل.
فتوكل وتنبه –أخي-: من رقدتك فإن الأيام معدودة، والأنفاس محسوبة، والآجال مضروبة، والأعمال مشهودة، والأفعال محسوبة، والأرزاق مقسومة، قيل لحاتم الأصم: "علام بنيت أمرك في التوكل؟ قال: "على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغته فأنا أبادره -أي بإعداد الزاد-، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه".
فيا عبد الله: هذا نداء من الله -عز وجل- نداء من ربٍ رحيم غفور شرُنا إليه يصعد، ورحمته ولطفه بنا نازل، نداء ينادي به الذين أسرفوا في المعاصي والذنوب، نداء ينادي به كل من تكبر وعصى، نداء ينادي به من كثرة ذنوبه وظن أنه لا نجاة له، قال عز من قائل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزمر: 53 - 55].
ألا فاتقوا الله -عباد الله-: وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن البررة الأتقياء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم ارحمنا برحمتك، وأعِذْنا من سخطك وعذابك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار؛ اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا. ويمن كتابنا وهون حسابنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي